•  المغالاة في المهور جمعية التنمية الأسرية 
الخطبة الأولى
الزواج ضرورة من ضروريات الحياة.
• ترغيب النبي في التخفيف من الصداق.
• سعيد بن المسيب يضرب أروع أمثلة التخفيف في الزواج.
• لو عقل المغالون في المهور لبحثوا لبناتهم عن الأزواج الأَكْفاء.
• أسباب ظاهرة غلاء المهور وعلاجها.
المغالاة في المهور
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: 
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:
لا شك أنَّ الزواج ضرورة من ضروريات الحياة؛ إذ به تحصل مصالح الدِّين والدنيا، ويحصل به الارتباط بين الناس، وبسببه تحصل المودَّة والتراحم، ويسكن الزوج إلى زوجته، والزوجة إلى زوجها، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
وبالتزوج يَحصل تكثير النَّسل المندوب إلى طلبه، قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوَّجوا الودودَ الولود؛ فإنِّي مكاثِر بكم الأمَم))[1].
وكما أن النِّكاح سنَّة خاتم النَّبيين، فهو كذلك سنة المرسلين من قَبل، قال الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38].
ففي النِّكاح امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله تتحقَّق الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي النكاح قضاء الوطر، وفرح النفس، وسرور القلب، وفيه تحصين الفرج، وحماية العرض، وغض البصر، والبعد عن الفتنة.
والنكاح من أسباب الغِنى وكثرة الرزق؛ ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].
عباد الله:
عقبة كؤود تَحول بين الشباب وبين تحقيق هذه المصالح العظيمة، حتى صار الزواج عند الشباب من الأمور الشاقَّة أو المستحيلة.
هذا العائق يا عباد الله هو المغالاة في المهور، فقد أصبح المعوق الرَّئيسي أمام الشباب، والمانع من التقدم إلى الزواج.
أيها المسلمون:
لقد رغَّب النَّبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف الصداق، فقال: ((خير الصداق أيسره))[2].
وجعل عليه الصلاة والسلام أهمَّ أمر في قبول الشاب الخاطب: الخُلق والدِّين، لا المال والدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب إليكم مَن تَرضَون دينَه وخُلقَه، فزوِّجوه؛ إلَّا تفعلوا تكن فِتنة في الأرض وفساد عريض))[3].
وزوَّج صلى الله عليه وسلم امرأةً على رجل فقير ليس عنده شيء من المال بما معه من القرآن، بعد أن قال له: ((التمِس ولو خاتمًا من حديد))، فلم يجد شيئًا[4].
وتزوَّج عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه امرأةً على وزن نواة من ذهب[5].
أمة الإسلام:
مهر الرسول عليه الصلاة والسلام لزوجاته أمَّهات المؤمنين، ومهر بناته، ومهر الصحابيات رضي الله عنهن - لم يتعدَّ اثنتي عشرة أوقية.
فعن أبي سلمة بن عبدالرحمن، أنه قال: سألتُ عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونَشًّا، قالت: أتدري ما النَّشُّ؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقيَّة، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه"[6].
وعن أبي العجفاء السلمي، قال: خطبَنا عمر رحمه الله، فقال: "ألَا لا تغالوا بصُدُق النِّساء، فإنها لو كانت مَكرُمةً في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أَولاكم بها النَّبي صلى الله عليه وسلم، ما أَصدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية"[7].
وجاء عند النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: "خطَب أبو طلحة أمَّ سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلِمة ولا يحل لي أن أتزوَّجك، فإنْ تُسلِم فذاك مهري، وما أسألك غيرَه، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعتُ بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أمِّ سليم؛ الإسلام، فدخل بها فولدَت له"[8].
قال ابن القيم رحمه الله: "فتضمَّن هذا الحديث أن الصَّداق لا يتقدر أقلُّه، وأن قبضة السويق وخاتم الحديد والنَّعلين يصحُّ تسميتها مهرًا، وتحل بها الزوجة، وتضمَّن أنَّ المغالاة في المهر مكروهة في النِّكاح، وأنها من قلَّة بركته وعسره"[9].
عباد الله، هذا سعيد بن المسيب، سيِّد التابعين رحمه الله، خطب ابنته الخليفة عبدالملك بن مروان لابنه الوليد، فأبى عليه، وزوَّجها لتلميذه عبدالله بن أبي وداعة.
يقول: كنتُ أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أيامًا، فلمَّا جئتُه، قال: أين كنت؟ قلت: توفِّيَت أهلي، فاشتغلتُ بها، فقال: ألا أخبرتنا، فشهدناها؟
ثم قال: هل استحدثتَ امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوِّجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟
قال: أنا، فقلت: وتفعل؟
قال: نعم، ثم تحمَّد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوَّجني على درهمين، فقمتُ، وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرتُ إلى منزلي، وجعلت أتفكَّر فيمن أستدين.
فصلَّيتُ المغرب، ورجعتُ إلى منزلي، وكنت وحدي صائمًا، فقدمتُ عشائي أفطر، وكان خبزًا وزيتًا، فإذا بابي يُقرع.
فقلت: من هذا؟
فقال: سعيد.
فأفكرت في كلِّ من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم يُرَ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجتُ، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له.
فقلت: يا أبا محمد، ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟
قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلًا عزبًا، فتزوجتَ، فكرهتُ أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك.
فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها، فدفعها في الباب، وردَّ الباب.
فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثمَّ وضعتُ القصعة في ظل السراج لكيلا تراها، ثم صعدتُ السطح، فرميت الجيران، فجاؤوني، فقالوا: ما شأنك؟
فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمِّي، فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.
فأقمت ثلاثًا، ثمَّ دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحقِّ زوج.
فمكثتُ شهرًا لا آتي سعيدَ بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلَّمتُ، فرد عليَّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس.
فلما لم يبقَ غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟
قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحبُّ الصديق، ويكره العدو.
قال: إن رابك شيء، فالعصا.
فانصرفتُ إلى منزلي، فوجه إليَّ بعشرين ألف درهم[10].
إخوة الإسلام:
لو عقل المغالون في المهور، لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكْفاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنتَه حفصة على عثمان ليتزوَّجها، ثم على أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر بن الخطاب حين تأيَّمَت حفصة بنت عمر من خُنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفِّي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيتُ عثمان بن عفان فعرضتُ عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثمَّ لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصدِّيق فقلت: إن شئتَ زوَّجتُك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئًا، وكنت أوجد عليه منِّي على عثمان، فلبثتُ ليالي ثم خطبها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتُها إياه، فلقيَني أبو بكر فقال: لعلك وجدتَ عليَّ حين عرضتَ عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئًا، قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يَمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسولُ الله عليه وسلم قبِلتُها"[11].
وهذا شُعيب يَعرض ابنته على موسى عليه السلام المطارَد من فرعون وقومه: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ﴾ [القصص: 27].
عباد الله:
لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى بإنكاح الأيامى أمرًا مطلقًا ليعمَّ الغني والفقير، وبيَّن أن الفقر لا يمنع التزويج، فقال سبحانه: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].
فالأرزاق بيَده سبحانه، وهو قادر على تغيير حال الفَقير حتى يصبح غنيًّا، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغَّبت في الزواج وحثَّت عليه، فإنَّ على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمرِ رسوله صلى الله عليه وسلم بتيسير الزواج وعدم التكلُّف فيه، وبذلك ينجز الله لهم ما وعدهم.
قال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه: "أطيعوا اللهَ فيما أمركم به من النِّكاح، ينجِز لكم ما وعدكم من الغنى"[12].
إخوة الإيمان:
غلاء المهور سبَبٌ رئيس لقلَّة الزواج، وكثرة الأيامى، وانتشار الفَساد، والتبرُّج والسفور، والفِتن والعري، والشهوات والرذائل، وانتشار الزنا وتنوع الشذوذ، وانتشار العنوسة، وظهور الأمراض الاجتماعية والنفسية، والفقر وعدم البركة في الزواج.
غلاء المهور هو غشٌّ من الوليِّ لمَوْلِيَّتِه، وعدم إدراك لقيمة الزواج وأهدافه الرئيسية.
المغالاة في المهور تَجعل الزوجة كأنها سِلعة تُباع وتشترى، مما يخل بالمروءة، وينافي الشيم ومكارم الأخلاق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 24، 25]