الغيرة القاتلة جمعية التنمية الأسرية الخطبة الثانية
كاتب الموضوع
رسالة
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
موضوع: الغيرة القاتلة جمعية التنمية الأسرية الخطبة الثانية الثلاثاء فبراير 28, 2017 5:53 pm
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: إن الغيرة غريزة فطريَّة، خلقها الله داخل كل شخص منَّا، مثلها مثل أيِّ صفة توجد في الإنسان، وهي شعور مثله مثل كثير من المشاعر والأحاسيس، ولكنه قد يتحوَّل إلى شعور مؤلِم إذا تعدَّى حدَّه، فهناك مَن تكون هذه الغريزة لديه مَعقولة، وهناك من تتعدَّى اللامعقول، فتصبح خُلقًا مذمومًا.
فإذا زادَت الغيرة عن حدِّها، كانت نِقمة على الشخص، وعلى مَن حوله، فكثير مما يسمَّى جرائم العِرض والشرف، قد ترتكب بسبب الشائعات، مما ترتب عليه إزهاق الأرواح في بعض الأحيان دون وَجه حقٍّ بسبب الغيرة القاتلة، وحينئذٍ يخرج الأمر من نِطاق المدح إلى نِطاق الذَّم، ومن دائرة الخير إلى محيط الشرِّ، ويصير هذا الأمر مما يبغضه الله عز وجل.
أسباب ودوافع الغيرة المذمومة: إنَّ الغيرة المذمومة لها أسباب كثيرة ومختلفة، يمكن تَجنُّبها، والحذر منها، كل هذا بعد دعاء الله وتوفيقه، من تلك الأسباب التي تولد الغيرة المذمومة: • التنافس القَبيح، والأثَرة وحب الذَّات، والحرص والطَّمع، والتي يمكن تداركها خاصة بين الضرائر والأبناء، وبين الأمَّهات والآباء، والإخوان والأخوات من ناحية، والزوجات من ناحية أخرى. • ضعف الإيمان في القلب، وعدم الخوف من الله، مما يجعل المرأة تتكلَّم على أختها المسلمة، أو على زوجها؛ حتى تروي غليلَ غيرتها. • ما يبثه الشيطان في قلوب النِّساء من أوهام وخيالات، وظنون سيِّئة، مما يجعل المرأة تشك في تصرُّفات مَن حولها، وقد أخبرنا النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم[28]. • الحقد والحسَد، وحب السُّمعة، وهذا يظهر من خلال بعض الأقوال أو الأفعال السيِّئة التي تَظهر على سلوك المرأة والرجل الغيورين. • الإحساس بالنَّقص عند المرأة، فقد يَنقدح في ذهنها أنَّ غيرها من أخواتها أفضل منها، بدليل أنَّ عندهنَّ ما لا تملكه، فيكون سببًا قويًّا، ودافعًا لغيرتها، وتنقيصها للأخريات.
أضرار الغيرة المذمومة: الغيرة الزَّائدة ربما تَفتك بالزوجين وتنهي ما كان بينهما من الحبِّ، وربما كانت سببًا لكثير من المشاكل التي تَنشأ بين الزوجين، وبين المحبين، وقد تَطغى هذه الغيرة أحيانًا فتصل إلى حدِّ الشكِّ والظن والحرمان، وقد تولد انعدام الثِّقة بين الزوجين، وربما دفعَت الغيرة الإنسانَ ليعمل أعمالًا طائشة.
أيها المسلمون: إنَّ الغيرة كسائر الأمراض النفسيَّة، إذا زادت عن حدِّها، تفتك بصاحبها، فيختل توازنه، ويضطرب حَبل شَخصيَّته، وتضطرب حياته الوجدانيَّة، وينبري جسمه، وتنحط قواه العقليَّة، ويقل إنتاجه، ومما لا شك فيه أنَّ لكلِّ داء دواء، إلا أدواء معلومة، وأمراضًا مفهومة؛ منها الموت، والهرم.
فالغيرة لها آداب يَنبغي مراعاتها، وإلا أدَّت إلى اضطراب في الحياة، وتعاسة وشقاء، ومن هذه الآداب: • أن يكون لها مبرِّر، كوجود ريبة؛ لحديث: ((إنَّ من الغيرة ما يحبُّه الله، ومنها ما يبغضه الله؛ فأمَّا الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة من الريبة، والغيرة التي يبغضها الله، فالغيرة من غير ريبة...))، فالغيرة مَطلوبة عند وجود ريبة، وأن تكون باعتدال، فلا إفراط، ولا تفريط. قال شيخ الإسلام: "وأمَّا الغيرة في غير ريبة، وهي الغيرة في مُباح لا ريبة فيه، فهي مما لا يحبُّه الله، بل ينهى عنه إذا كان فيه تَرك ما أمر الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله))[29]، وأمَّا غيرة النِّساء بعضهن من بعض، فتلك ليس مأمورًا بها، لكنها من أمور الطباع؛ كالحزن على المصائب"[30].
ولهذا قيل: فما أحسن الغيرة في حينها، وما أقبحها في غير حين، وأنشد بعضهم في الغيرة:
ما أحسنَ الغيرةَ في حينها
وأقبحَ الغيرةَ في غيرِ حينْ![31]
مَن لم يزل متهمًا عِرْسَه
متَّبعًا فيها لقول الظنونْ
يوشك أن يغريَها بالَّذي
يخاف أن يبرزها للعيونْ
حسبك من تحصينها وضعها
منك إلى عرضٍ صحيحٍ ودينْ
لا يُطلَعَنْ منك على ريبة
فيَتْبَعَ المقرونُ حبل القرينْ
• ومنها: عدم إكثار الإنكار على المرأة ومراقبتها؛ لأنَّ ذلك بمثابة التُّهمة لها، قال السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب: "ولا تكثر الإنكار عليها؛ فإنَّك تقوِّي العين عليها، فإن فعلتَ (تُرْمَ) زوجتُك بسبب كثرة إنكارك عليها (بتهمة) في نفسها، فيقول الفسَّاق وأهل الفجور: لولا أنَّه يعلم منها المكروهَ لما أكثر من إنكاره عليها..."[32]، وفي الفروع: "قال سليمان عليه السلام لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبة، فتُرمى بالشرِّ من أجلك، وإن كانت بريئة"[33]؛ انتهى. • ومن الآداب الدُّعاء، وهو من أعظم العِلاج لإطفاء نار الغيرة المذمومة، وقد دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمِّ سلَمة رضي الله عنها أن يذهب ما تجده في قلبها من مذموم الغيرة[34]. • تقوى الله عز وجل؛ إذ هي عاصِم من كلِّ ما يخل، كما قالت عائشة رضي الله عنها عن زينب بنت جَحش يوم لم تخض مع الخائضين في حادث الإفك: "فعَصَمها الله بالورع"[35]. • تذكُّر ما أعدَّه الله لمن جاهدَت نفسها وصبرت، وجاهدَ نفسه وصبر، في دفع غوائل الغيرة، فقد أعطى الله الصابرين من الأجر ما لم يعطِ غيرهم، فقال: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. • حسن الظن؛ فإن الكثير من الغيرة تبدأ من سوء الظنِّ، والوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الغيور، وبعض الأزواج مريض بمرض الشكِّ المر الذي يحيل الحياة الزوجيَّةَ إلى نكد لا يطاق، ويحول استقرار البيوت إلى بُركانٍ محموم، وهذا شرٌّ مستطير، وأذًى كبير، فلا يصح أن يسيء الرجل الظنَّ بزوجته، ولا العكس، وليس له أن يُسرِف في تقصِّي كل حركاتها وسكناتها، وهي كذلك؛ فإن ذلك يفسِد العلاقة الزوجية، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل. • القناعة: فالغيور تنظر إلى ما في يَد الآخرين، وتستقل ما في يدها ولو كان كثيرًا، فتسخط وتَغار، ولا ترضى بما قسَم الله لها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أَفلَح مَن أسلَم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه))[36]. • تذكُّر الموت والدار الآخرة؛ فإنَّ من أعظم ما يكف النَّفسَ إذا جمحت ذِكرَ هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات. • ومن أعظم الدواء لهذا المرض: الإعراض عنه، وعدم الاستجابة لداعيه، مع الاستعانة بالله عز وجل، وكثرة ذِكره ودعائه أن يرفع البلوى، ويكشف الغمَّة، وهو سبحانه سميع مجيب.
عباد الله، ثمَّ اعلموا رحمكم الله أنَّ الله تعالى أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته وصحابته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين. [1] هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وكان السلف يفتتحون بها خطبهم في دروسهم وكتبهم وأنكحتهم، وللألباني فيها رسالة لطيفة، جمع فيها طرق حديثها، وألفاظها، وذكر فيها فوائد تتناسب مع موضوعها، وقد طبعت على نفقة جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، ثم طبعها المكتب الإسلامي طبعة ثانية جميلة مزيدة ومنقحة؛ أخرجها أبو داود (4607)، والنسائي (1578)، والحاكم (183)، وأحمد (3720)، و(4115).
[6] أخرجه النسائي (2558)، وابن حبان (295)، وأحمد (23750)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2221).
[7] روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 315).
[8] كان ابن سيرين يكره تسميتها ضرة، ويقول: إنها لا تضر ولا تنفع ولا تذهب من رزق الأخرى بشيء، إنما هي جارة، والعرب تسمِّي صاحب الرجل وخليطه جارًا، وتسمِّي الزوجة جارة لمخالطتها للرجل، قال القرطبي: "اختار عمر تسميتها جارة؛ أدبًا منه أن يُضاف لفظ الضرر إلى أحدٍ من أمَّهات المؤمنين"، انظر: فتح الباري كتاب النكاح (ج9 ص 189).
[9] أخرجه البخاري (5225).
[10] فتح الباري؛ لابن حجر (9/ 325).
[11] أخرجه أبو يعلى (4550)، وضعفه الألباني في الضعيفة (2985).
[12] أخرجه مسلم (485).
[13] أخرجه مسلم (2815).
[14] أخرجه البخاري (3817).
[15] روضة المحبين (ج1 - ص244).
[16] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (291)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3131).
[17] أخرجه البخاري (6846)، (6866)، ومسلم (1499).
[18] أخرجه البخاري (4634)، ومسلم (2760).
[19] أخرجه مسلم (2761).
[20] أخرجه أحمد (1118).
[21] الاستقامة (2/ 7).
[22] أخرجه البخاري (5244)، ومسلم (715).
[23] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (ص: 67).
[24] روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 313).
[25] أخرجه البخاري (5230)، ومسلم (2449).
[26] أخرجه البخاري (3110)، ومسلم (2449).
[27] روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 315).
[28] أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2174).
[29] أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442).
[30] الاستقامة (2/ 7).
[31] الأبيات منسوبة للخزيمي، في عيون الأخبار (4/ 78).
[32] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 400).
[33] الفروع وتصحيح الفروع (8/ 383).
[34] أخرجه مسلم (918).
[35] أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
[36] أخرجه مسلم (1054).
الغيرة القاتلة جمعية التنمية الأسرية الخطبة الثانية