مدرسة الاعتبارعبدالله بن عبده نعمان :الخطبة الثانية
كاتب الموضوع
رسالة
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
موضوع: مدرسة الاعتبارعبدالله بن عبده نعمان :الخطبة الثانية الثلاثاء فبراير 28, 2017 6:10 pm
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيا أيها المسلمون، وبعد هذا: فإن المطلوب منا أن نكون من أهل الاعتبار، وأن نظل من أهل الادكار، نعتبر بما ذكره القرآن، والسير والتاريخ، والواقع من الأحداث البشرية فنقتدي بما يصح فيه الاقتداء، ونحذر التجارب السيئة التي تؤدي إلى الشقاء، فلا نجرِّب المجرب السيء؛ إذ تجربة المجرَّب السيء حمق. فالمؤمن كيِّس فطِن، ليس بالخِبِّ ولا الخب يخدعه، يعتبر بغيره، ولا يكون عبرة ذميمة لمن تلاه. كما أنه لا يُلدغ من مكان واحد مرة بعد مرة؛ لأن اللدغة الأولى تكفي لاستيقاظ من كان ذا عقل وبصيرة، وأما فاقد الوعي فإنه يظل يستقبل اللدغات لدغة إثر لدغة من غير اتعاظ. يقول النبي صلى الله عليه و سلم: ( لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)[6].
قال الخطابي: " هذا لفظه خبر، ومعناه أمر، أي: ليكن المؤمن حازمًا حذراً، لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين، كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر"[7]. وقال أبو عبيد: "معناه: ولا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه"[8].
وقد قيل في سبب هذا الحديث: إن: " أبا عَزَّة الجمحي - وهو الذي كان قد منّ عليه (رسول الله) من أساري بدر ؛ لفقره، وكثرة بناته، على ألا يظاهر عليه أحداً، ولكنه نكث وغدر، فحرض الناس بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين..، وخرج لمقاتلتهم في أحد -؛ فلما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا محمد، أقلني، وامنُن علي، ودعني لبناتي، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول : خدعت محمداً مرتين! لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) ، ثم أمر الزبير، أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه"[9].
أيها الأحبة الفضلاء، إن الاعتبار بالأحداث أمر يحتاجه كل إنسان؛ نظراً لتكرر مثيلات الأحداث السابقة في الأزمنة اللاحقة، أو ما يقارب تلك الأحداث.
فنحن المسلمين-على اختلاف تخصصاتنا- نحتاج إلى ذلك، فالحاكم والعالم، والعسكري والتربوي، والاقتصادي والاجتماعي، وغيرهم؛ لابد أن يكون عند هؤلاء قراءة تاريخية واعية في تاريخ البشرية، والتجارب الإنسانية للاستفادة منها في التوجيه والعمل فيما يصلح أحوال المسلمين.
كما نحتاج إلى ذلك في علاج ظاهرة الاختلاف المتأجج بين المسلمين، فمن اعتبر سيجد أن الاختلاف شر؛ لما له الآثار السيئة، وأن الاجتماع خير؛ لما له من الآثار الحسنة.
قال الطغرائي:
كونوا جميعًا يا بَنيَّ إذا اعترى خَطبٌ ولا تتفرقوا آحادا
تأبى العِصي إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا
كما نحتاج إلى ذلك أيضًا في علاج ظاهرة الظلم-العام أو الخاص-، فمن الظلم: منع حقوق الناس، أو الاستيلاء عليها بغير حق، وقلة الإنصاف أو عدمه في الحكم على الآخرين-أفراداً وتجمعات-، فمن اعتبر: سيكف عن ظلمه؛ لأن الظلم يعجل العقوبة.
يذكر أن يحيى بن خالد البرمكي-أحد وزراء بني العباس-وقال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت، بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال؟! فقال: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها"[11].
كما نحتاج إلى ذلك كذلك: في معرفة واقع العدو الحقيقي، ومكره وخططه، وحقده وعمله على حرب الإسلام وأهله، فمن اعتبر: سيجد أنه مهما استرضى ذلك العدو فلن ينال رضاه، بل سيكون واحداً من ضحاياه، وإن تأخر دوره، قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾[البقرة:120]، وأن العز في الدين والدنيا هو في معاملة أولئك الأعداء حسب منهج الله تعالى.
كما نحتاج إلى ذلك أيضًا: في عودة العاصي منا إلى ربه فيما بينه وبينه، فمن اعتبر سيبادر إلى التوبة والإنابة، ففيما يرى الإنسان أو يسمع من النهايات الأليمة للعصاة ما يؤزه إلى تغيير مسيره أزّا.
عباد الله، إن السادرين في غيهم، الذين لم يعتبروا بالعِبر، ولم يتعظوا بالغِير، سيؤدبهم الزمان القريب أو البعيد لا محالة، فالمنافقون لم تؤدبهم المصائب والفضائح في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾[التوبة:126]. والكفار الصرحاء لم يدّكروا بما جرى لأسلافهم، ولكن يوم القيامة يحضرهم الاعتبار في غير مكانه وزمانه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾[الملك:10-11].
ونحن المسلمين اليوم نتلقى نكبة إثر نكبة، فمتى نعتبر؟!، فطوبى لأهل الاعتبار الذين ظفروا بالربح والسلامة، وسلموا من الخسران والندامة، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾[ق:37]. هذا وصلوا وسلموا على سيد البشرية...
[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في 27 /1 /1438هـ، 28 /10 /2016م.
[2] مختصر سيرة الرسول(ص: 314).
[3] صحيح مسلم (4/ 2037).
[4] رواه البخاري.
[5] مقدمة ابن خلدون (1/ 18).
[6] متفق عليه.
[7] فتح الباري (10/ 530).
[8] المصدر السابق.
[9] الرحيق المختوم (ص: 261).
[10] ديوان الحماسة (1/ 7).
[11] البداية والنهاية (10/ 205)
مدرسة الاعتبارعبدالله بن عبده نعمان :الخطبة الثانية