النصف الثاني من القرن الرابع الهجري
أبو الوفاء البوزجاني
ويمثِّل النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والنصف الثاني من القرن العاشر الميلادي أبو الوفاء البوزجاني (ت 388هـ / 998م)، والذي يُعَدُّ أحد الأئمة المعدودين في الرياضيات والفلك، وله فيهما مؤلَّفات قيِّمة، من أشهرها: منازل في الحساب، وتفسير الجبر والمقابلة للخوارزمي؛ والمدخل إلى الأرثماطيقي، وكتاب استخراج الأوتار، وكتاب العمل بالجدول الستيني، وكتاب معرفة الدائرة من الفلك، والكامل، والزيج الشامل، وكتاب المجسطي. وقد اعترف له كل من جاء بعده من رياضيي الشرق والغرب بأنه من أشهر الذين برعوا في الهندسة، وعندما ألّف في الجبر أضاف إضافات ذات شأن على بحوث الخوارزمي؛ فاعْتُبِرَت أساسًا لعَلاقة الهندسة بالجبر، ويعود الفضل للبوزجاني في وضع النسبة المثلثية (الظلّ)، وهو أوَّل مَن استعملها في حلول المسائل الرياضية، كما أوجد طريقة جديدة لحساب جداول الجَيْب، وكانت جداوله دقيقة للغاية، ووضع بعض المعادلات التي تتعلق بجيب الزاويَتَيْنِ، وكشف بعض العَلاقات بين الجيب والمماس والقاطع ونظائرها.
وقد اكتشف البوزجاني إحدى المعادلات لتقويم مواقع القمر سُمِّيت معادلة السرعة، ومن أهمِّ إسهاماته في علم الفلك اكتشافه للخلل في حركة القمر، وهو الاكتشاف الذي أدَّى فيما بعد إلى اتِّساع نطاق علمي الفلك والميكانيكا، وقد ظلَّ المؤرِّخون مختلفين فيما إذا كان تيخو براهي (ت1010هـ / 1601م) الفلكي الدنماركي هو صاحب هذا الاكتشاف أم البوزجاني، إلى أن ثبَت حديثًا بعد التحريات الدقيقة أن الخلل الثالث هو من اكتشاف البوزجاني[52].
وشهد عصر البوزجاني عَلَم آخر من أعلام الحضارة الإسلامية هو أبو القاسم بن أحمد المجريطي (ت 397هـ / 1007م) الذي عاش في قرطبة؛ فقد استطاع تحضير أُكسيد الزئبق، تلك المادَّة التي أدَّت دورًا مهمًّا في أبحاث بريستلي ولافوازيه في القرن الثامن عشر[53].
عبد الرحمن المصري
وكان هناك أيضًا أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس المصري (ت 399هـ / 1009م)، الذي اخترع الرَّقَّاص (البُنْدُول)، وعرف أشياء كثيرة من قوانين تذبذبه، وبعد 650 عامًا من اختراعه جاء جاليليو الإيطالي (ت 1052هـ / 1624م) ليتوسَّع في دَرْس الرقَّاص، وليَضَعَ أكثر القوانين التي نعرفها اليوم عن الرقَّاص، ثم حسبها حسابًا رياضيًّا[54].
النصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري
أبو الريحان البيروني
أما الفترة العلمية من النصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري والنصف الأوَّل من القرن الحادي عشر فيمثِّلها أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت 440هـ / 1048م)، العالم الموسوعي الذي كان لمؤلَّفاته اليَدُ الطُولَى في صناعة أمجاد عصر النهضة والثورة الصناعية في العالم الغربي؛ فقد حدَّد بدقَّة خطوط الطول ودوائر العرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس[55]! كما وضع البيروني قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نَقَلَ الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مُسطَّح وبالعكس؛ وبهذا سهَّل رسم الخرائط الجغرافية[56]وصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله: "أعظم عقلية عرَفها التاريخ". وقد[57].
والبيروني يكاد يكون قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره، ومن أبرز ما قام به أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركَّبًا بعضها من الأحجار الكريمة، وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني من الروَّاد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وقد تناول ذلك في آراء بثَّها في كتب مختلفة، وأشهر آرائه في ذلك ضمنها كتابه (القانون المسعودي)، ومن مؤلَّفاته الأخرى الرائدة: الصيدلة في الطب، والجماهر في معرفة الجواهر، ومفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة، والآثار الباقية، وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، والعمل بالأسطرلاب، وتحقيق منازل القمر[58].
ابن الهيثم "أبو البصريات"
وقد عاصر البيرونيَّ علماءُ أعلامٌ طارت شهرتهم وإنجازاتهم في الآفاق؛ الأمر الذي يجعل من القرن الخامس الهجري بصفة عامَّة قمَّة أوج وازدهار الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب، وكان منهم في المشرق الإسلامي - على سبيل المثال - ابن الهيثم (430هـ / 1038م)، العالم المسلم الفذُّ الذي سلك الطريقة المثلى في إجراء البحث العلمي، وقال بالأخذ بالاستقراء، والقياس، والتمثيل، وضرورة الاعتماد على النمط المتَّبع في البحوث العلمية الحديثة، وقد وضَّح ذلك من خلال مقدِّمة كتابه (المناظر).
وابن الهيثم في طريقة البحث العلمي لم يَسْبِق بيكون إلى طريقته الاستقرائية فحسب، بل سما عليه سموًّا كبيرًا، ولقد كان أوسع منه أُفقًا وأعمق تفكيرًا؛ تقول زيغريد هونكه: "والواقع أن روجر باكون، أو باكوفون فارولام، أو ليوناردو دا فنشي، أو جاليليو، ليسوا هم الذين أسَّسوا قواعد البحث العلمي؛ إنما السابقون في هذا المضمار كانوا من العرب، والذي حقَّقه ابن الهيثم لم يكن إلا علم الطبيعة الحديث، بفضل التأمُّل النظري والتجرِبة الدقيقة"[59].
وتُعَدُّ أعمال ابن الهيثم العلمية فتحًا جديدًا ووثبة خطيرة في عالم البصريات وفسيولوجية الإبصار، وكانت أعماله هي الأساس الذي بنى عليه علماء الغرب جميع نظرياتهم في هذا الميدان، وكان في طليعة العلماء الأجانب الذين اعتمدوا على نظريَّاته - بل أغاروا عليها ونسبوها لأنفسهم - روجر بيكون وفيتلو وعلماء آخرون، ولا سيما في بحوثهم الخاصَّة بالمجهر والتلسكوب والعدسة المكبرة[60].
فقد بدأ ابن الهيثم أوَّلاً بمناقشة نظريات إقليدس وبطليموس في مجال الإبصار، وأظهر فساد بعض جوانبها، ثمَّ في أثناء ذلك قدَّم وصفًا دقيقًا للعين وللعدسات وللإبصار بواسطة العينين، ووصف أطوار انكسار الأشعة الضوئية عند نفوذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية بعامَّة، وخاصَّة إذا نفذ من جسم شفاف كالهواء، والماء، والذرَّات العالقة بالجو، فإنه ينعطف - أي ينكسر - عن استقامته[61].
وقد بحث في (الانعكاس) وتبيين الزوايا المترتبة على ذلك، كما تطرَّق إلى شرح أن الأجرام السماوية تظهر في الأفق عند الشروق قبل أن تصل إليه فعلاً، والعكس صحيح عند غروبها، فإنها تبقى ظاهرة في المجال الأفقي بعد أن تكون قد احتجبت تحته، وهو أوَّل من نوَّه باستخدام الحجرة السوداء التي تُعتَبَر أساس التصوير الفوتوغرافي[62].
والكتاب الذي خلَّد اسمَ ابن الهيثم عبر القرون هو "كتاب المناظر"، والذي يوضِّح تصوُّر البصريات كنظرية أوَّليَّة في الإبصار، مختلفة جذريًّا عن فرض الشعاع المرئي الذي حافظ عليه التقليد الرياضي منذ إقليدس وحتى الكندي[63].
الزهراوي الأندلسي
ومن العلماء الأعلام الذين عاصروا البيروني، ولكن في المغرب الإسلامي (الأندلس): خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي (ت 427هـ / 1036م)، والذي كان لكتابِهِ (التصريف لمن عجز عن التأليف) الفضل في أن أصبح من كبار جرَّاحي العرب المسلمين، وأستاذ علم الجراحة في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية حتى القرن السابع عشر، ومن خلال دراسة كُتُبِهِ تبيَّن أنه أوَّل من وصف عملية تفتيت الحصاة في المثانة، وبحث في التهاب المفاصل، وفي السلِّ وغيرها[64].
ابن سينا "الشيخ الرئيس"
كما عاصر البيروني أيضًا الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ / 1037م)، والذي ظلَّ لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، وبقي كتابه (القانون) في الطب العمدة في تعليم هذا الفن حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا[65]! ويُعَدُّ ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء[66].
النصف الثاني من القرن الخامس الهجري
عمر الخيام
ويمثِّل عمر الخيام (ت 517هـ / 1123م) النصف الثاني من القرن الخامس الهجري والنصف الثاني من القرن الحادي عشر؛ وهو مِن أنبغ مَن اشتغل بالفلك والرياضيات، ولا سيما الجبر، إلا أن شهرته في الشعر والفلسفة طغت على نبوغه العلمي[67]؛ فقد درس بديهيَّات هندسة إقليدس ونظرياتها العامَّة، وهو من أوائل العلماء الذين حاولوا تصنيف المعادلات بحسب درجاتها وعدد الحدود التي فيها، واستخدم بعض المعادلات التي استعملها الخوارزمي من قبل في الجبر والمقابلة، واستطاع أن يحِلَّ المعادلات التكعيبية هندسيًّا، واعتبر أن المعادلات ذات الدرجات الأولى والثانية والثالثة إما أن تكون بسيطة أو مركَّبة، ووَضَعَ للمعادلات البسيطة ستة أشكال وللمركبة اثني عشر شكلاً، وقد دعاه السلطان ملكشاه إلى المرصد الذي شيَّده في مدينة الرَّيِّ لإصلاح التقويم الفارسي، ونجح في ذلك، وللخيام تصانيف كثيرة، من أهمها في الرياضيات بالعربية: شرح ما يُشكل من مصادرات أقليدس، ومقالة في الجبر والمقابلة، ومن أهمها في الفلك: زيج ملكشاه، الذي يُعَدُّ من أشهر الأزياج التي وُضِعَت خلال نهاية القرن الخامس الهجري، ولعبقريته الفذَّة لقبه علماء الشرق والغرب على السواء بـ "علامة الزمان"[68].
النصف الأوَّل من القرن السادس الهجري
الإدريسي.. أعظم علماء الجغرافيا
أما النصف الأوَّل من القرن السادس الهجري والنصف الأوَّل من القرن الثاني عشر الميلادي فيمثِّله أحد العلماء العظام في علم الجغرافيا، وهو الإدريسي (ت 560هـ / 1165م) الذي أَلَّف كتابًا سمَّاه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) في وصف بلاد أوروبا وإيطاليا، وكان قد استدعاه ملك جزيرة صقلية النورماندي روجر الثاني، وخصَّه بالكثير من العطف والعناية، فصنع له الإدريسي كرة أرضيَّة من الفضة، محفوظة في متحف برلين اليوم، ووضع له الكتاب المذكور[69].
يصفه غوستاف لوبون بأنه: "أشهر جغرافيِّ العرب"، ويقول عن كتابه السابق: "مِن كتبه التي تُرجمت إلى اللاتينية وعلَّمت أوروبا علم الجغرافيا في القرون الوسطى"[70]. ويقول المستشرق الفرنسي (جاك ريسلر): "لم يكن بطليموس الأستاذ الحقيقي في جغرافية أوروبا، لكنه الإدريسي... ومصوَّرات الإدريسي التي تَعْتَرف بكُروية الأرض كانت تتويجًا لعلم المصوَّرات الجغرافية في العصر الوسيط بوفرتها وصحَّتها واتِّساعها... ". ويقول (ألدو مييلي): "لقد عرَف العرب (المسلمون) وضع الخرائط وضعًا علميًّا مبنيًّا على تعيين الطول والعرض في العناصر الجغرافية المختلفة، حيث وصلوا بذلك - على يَدِ الإدريسي - إلى تحقيق خطوة جديرة بالإعجاب حقًّا في هذا الفنِّ الذي هو فرع عظيم الأهمية من الجغرافية العلمية"[71].
أبو مروان الأندلسي
وقد عاصره في حاضرة المسلمين في الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر الأندلسي (ت 557هـ / 1162م) الذي ذاع صيته في الطبِّ، والذي كان يرى أنه لا ينبغي للطبيب أن يقوم بتحضير الأدوية؛ فسبق بهذا الرأي إلى مفهوم الطبَّ الحديث من فصل الجراحة والطبِّ الباطني عن الصيدلة، ويُعْتَبَر مؤلَّفه: "التيسير في المداوة والتدبير" من خير ما ألَّف المسلمون في الطبِّ العملي؛ فقد تحرَّر فيه من كل ما تقيَّد به غيره من آراء نظرية، وأخذ فيه بما تُؤَدِّي إليه الملاحظة المباشرة، وفيه وصف التهاب التامور، والتهاب الأذن الوسطى، وشلل البلعوم، كما وصف عملية استخراج الحصى من الكُلَى وفتح القصبة الهوائية[72].
عبد الرحمن الخازني
كما عاصره أبو الفتح عبد الرحمن الخازني (ت 550هـ / 1155م)، والذي كانت له إسهاماته في قانون الجاذبية؛ فقد تحدَّث عن التسارُع (أو العجلة) في سقوط الأجسام نحو الأرض، وضمَّن كتابه (ميزان الحكمة) ما يدُلُّ على معرفته بالعَلاقة الصحيحة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو سطح الأرض، والبُعد الذي يقطعه، والزمن الذي يستغرقه، وهي العَلاقة التي تنُصُّ عليها المعادلات الرياضية المنسوبة لجاليليو في القرن السابع عشر الميلادي[73].
النصف الثاني من القرن السادس الهجري
هبة الله بن ملكا البغدادي
ويمثِّل النصف الثاني من القرن السادس الهجري والنصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي هبة الله بن ملكا البغدادي (ت560هـ / 1164م)، ولقد كانت له أيضًا آراؤه واكتشافاته المهمَّة بخصوص قانون الجاذبية؛ فقد نجح ابن ملكا في تصحيح الخطأ الجسيم الذي وقع فيه أرسطو عندما قال بسقوط الأجسام الثقيلة أسرع من الأجسام الخفيفة، وسبق جاليليو في إثبات الحقيقة العلمية المهمَّة التي تقضي بأن سرعة الجسم الساقط سقوطًا حُرًّا تحت تأثير الجاذبية الأرضية لا تتوقف إطلاقًا على كُتلته، وذلك عندما تخلو الحركة من أي معوقات خارجية، وأضاف ابن ملكا حقائق جديدة عن ظاهرة الجاذبية من خلال دراسته لحركة المقذوفات، من حيث إن حركتها إلى أعلى عند القذف تُعاكس فعل الجاذبية الأرضية، أو أن القوَّة القسيرة التي قُذِف بها الجسم إلى أعلى تعمل في تضادٍّ مع قوَّة الجاذبية الأرضية[74].
ولطالما كان الحديث عند إنجازات بعض علماء المسلمين في اكتشاف قانون الجاذبية، فإن هذا يجرنا إلى الحديث عن دورهم أيضًا في اكتشاف قوانين الحركة، والتي تُنْسَبُ خطأ إلى العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن (ت 1139هـ / 1727م)، وذلك منذ أن نشرها في كتابه المسمَّى "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"، ولقد ظلَّت هذه هي الحقيقة المعروفة في العالم كلِّه، حتى تصدَّى للبحث فيها جماعة من علماء الطبيعة المسلمين المعاصرين، وكان في مقدِّمتهم الدكتور مصطفى نظيف أستاذ الفيزياء، والدكتور جلال شوقي أستاذ الهندسة الميكانيكية، والدكتور على عبد الله الدفاع أستاذ الرياضيات، فتوفَّروا على دراسةِ ما جاء في المخطوطات الإسلامية في هذا المجال، فاكتشفوا أن الفضل الحقيقي في اكتشاف هذه القوانين إنما يرجع إلى علماء المسلمين، وما كان دور نيوتن وفضله فيها إلا تجميع مادة هذه القوانين وصياغتها، وتحديده لها في قالب رياضي!!
وقد ساقوا الشواهد على ذلك من كتب علماء المسلمين، مثل: (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا، و(المعتبر في الحكمة) لأبي البركات هبة الله بن ملكا البغدادي (480 / 560هـ) (1087/ 1164م), و(المناظر) لابن الهيثم (ت 430 هـ / 1039م).
النصف الأوَّل من القرن السابع الهجري
عبد اللطيف بن يوسف البغدادي
أما النصف الأوَّل من القرن السابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن الثالث عشر الميلادي فيمثله أحد العلماء المكْثِرِين من التصنيف في الحكمة، وعلم النفس، والطب، والتاريخ، والبُلدان، والأدب, وهو عبد اللطيف بن يوسف البغدادي (ت 629هـ / 1231م)، والذي يُعرف بابن اللباد، وبابن النقطة، والذي اشتهر باعتماده على التجرِبة الحسية أساسًا لبحوثه العلمية، فنقض في سبيل ذلك أقوال جالينوس في شرحه لعَظْم الفك، وذلك بعد مشاهدة أكثر من ألفي جمجمة!! وقال مقولته: "الحسُّ أصدق منه (من جالينوس)"، وقد كان ينتقل بطلابه الذين يتردَّدون عليه في دراسة الطبِّ إلى المقابر ليتحقَّق بنفسه من أشكال العظام[75]!
رشيدُ الدين الصوري
وقد عاصر البغداديَّ رشيدُ الدين الصوري (ت 639هـ / 1241م) من أعظم علماء النبات، والذي استطاع أن يصف 585 عقارًا، منها 466 من فصيلة النبات، و75 من المعادن، و44 من فصيلة الحيوان، وقد أتى ذِكْر كثير من هذه الأعشاب في كتابيه "الأدوية المفردة"، و"التاج"، يقول ابن أبي أصيبعة يَصِفُ الصوري: "قد اشتمل على جمل الصناعة الطبِّيَّة، واطَّلع على محاسنها الجلية والخفية، وكان أَوْحَد في معرفة الأدوية المفردة وماهياتها واختلاف أسمائها وصفاتها، وتحقيق خواصها وتأثيراتها"[76].
ابن البيطار
على أن الذي يُعَدُّ رئيس العشَّابين، وكبير العطارين، وأعظم عالم نباتي ظهر في القرون الوسطى هو أبو محمد، عبد الله بن أحمد المالقي، المعروف بابن البيطار (ت 646هـ / 1248م)؛ إذ كان الحجة في معرفة أنواع النباتات وتحقيقها، وصفاتها، وأسمائها، وأماكنها، حتى عُرف في أوروبا بحقٍّ باسم "أبي علم النبات". وله في ذلك: "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، و"المغني في الأدوية المفردة"[77]، وكلا الكتابين قد تُرجم إلى كثير من لغات العالم[78].
النصف الثاني من القرن السابع الهجري
ابن النفيس
ويمثِّل علماء النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي العالم الفذُّ ابن النفيس (ت 687هـ / 1288م)، الذي يُعَدُّ أعظم وأشهر عالم بوظائف الأعضاء في القرون الوسطى برُمَّتِها.
فقد عارض نظريةَ جالينوس - التي ذكرناها سابقًا في وظيفة الرئتين، والتي ادَّعى فيها أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غير منظورة يتسرَّب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلا أن تُرفرفا فوق القلب فتبرد حرارته وحرارة الدم، ويتسرَّب شيء من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب، فيُغذي ذلك القلب والدم - عارض ابن النفيس تلك النظرية معارضة شديدة، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن اليونان لم يفهموا وظيفة الرئتين والأوعية التي بين القلب والرئتين، وأنه فهم وظيفتها، وأوعيتها، وتركيب الرئة، والأوعية الشَّعْرية التي بين الشرايين والأوردة الرئوية، وشرح الفُرَج الرئوية شرحًا واضحًا، كما فَهِمَ أيضًا وظائف الأوعية الإكليلية، وأنها تنقل الدم ليتغذَّى القلب به، ونفى التعليم القائل بأن القلب يتغذَّى من الدم الموجود في البُطَيْن الأيمن.
ثم أكَّد ذلك في حديثه عن الدورة الدموية الصغرى وطريقة عملها، ذاكرًا آراء ابن سينا وأقوال جالينوس التي اعتمد عليها ابن سينا، ثم عارضها بمنتهى الحماسة، وكان حقيق بعدُ بأن يصفه جورج سارتون بأنه أوَّل من اكتشف الدورة الدموية، ليكون بذلك الرائدَ لوليام هارفي الذي يُنسب إليه هذا الاكتشاف[79].
القرن الثامن الهجري وما بعده
عزُّ الدين الجلدكي
أما النصف الأوَّل من القرن الثامن الهجري والنصف الأوَّل من القرن الرابع عشر الميلادي فيمثِّله عالم الكيمياء هو عزُّ الدين الجلدكي (ت 1363م) صاحب كتاب (التقريب في أسرار التركيب)، وهو الذي فَصَل الذهب عن الفضة بوساطة حامض النتريك، وهي طريقة ما تزال تُستخدَم، ولها شأن في تقدير عيارات الذهب في المشغولات والسبائك الذهبية[80].
ومنذ بداية القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي بدأ منحنى الحضارة العلمية الإسلامية يتوقَّف ثم يأخذ اتجاه آخر نحو الهبوط والانحدار، وإن بقي أثر تلك الحضارة بارزًا في أوروبا حتى القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي، وقد تخلل هذه الفترة بعض الإنجازات والابتكارات القليلة.
آق شمس الدين بن حمزة
فمن ذلك ما كان من أمر الشيخ آق شمس الدين بن حمزة (ت 1459م) أحد أعلام الحضارة الإسلامية في عهدها العثماني، ونموذجًا فريدًا في تعانق العلوم الشرعية مع العلوم الحياتية، وعَلَم بارِز من علماء النبات والطبِّ والصيدلة، وهو أحد شيوخ الخليفة العثماني محمد الفاتح، عُدَّ خبيرًا أوَّلاً في زمنه في مجال صُنْعِ الأدوية من النبات، واهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بالأمراض المعدية، وألَّف في ذلك كتابًا بالتركية بعنوان (مادة الحياة)، وضع فيه لأول مرة تعريف الميكروب، ولم يكن الميكروسكوب قد ظهر بعدُ[81].
ولا يمكن هنا تجاهل العالم الجغرافي الفذِّ، والقائد البحري العثماني الذي كان سيد البحار: بيري ريس، واسمه الكامل محيي الدين بن محمد الريس (ت 960هـ - 1513م)؛ فله الفضل في رسم أقدم خريطة لأمريكا!!
وهذه الخريطة اكتشفها المستشرق الألماني[82]Kahleعندما عثر عليها في مكتبة (توب كابي سراي) بإستانبول، ونشرها على العالم سنة 1929م، بعد تحقيق علمي دُولي استمرَّ عدَّة سنوات؛ فقد أذهلت هذه الخريطة العالم كله وحيَّرت العلماء، وهي في الواقع أكثر من خريطة مفردة؛ فهي تُبيِّن المحيط الأطلسي؛ في الشرق ترى إسبانيا والساحل الإفريقي, وفي الغرب ترى القارة الأمريكية بسواحلها، وجزرها، وموانيها، وحيواناتها، وسكانها الهنود الحمر، الذين يرسمهم عُرَاة وهم يرعَوْن الغنم.
وفي 26 أغسطس سنة 1956م عُقِدَت في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية ندوة إذاعية عن خرائط البيري ريس، اتَّفق كلُّ الجغرافيين فيها بأن خرائط البيري ريس لأمريكا: "اكتشاف خارق للعادة"[83].
وإن أعجب ما في خرائط بيري ريس أنها عادت لتَشغل العلماء بعد عصر رحلات الفضاء وتصوير الأرض من الأقمار الصناعية، فقد كان الاعتقاد الأوَّل لدى علماء الخرائط في أمريكا وأوروبا في القرن العشرين أن الخرائط غير دقيقة, وبها أخطاء في الرسم حسب أحدث معلوماتهم عن الشاطئ الأمريكي, ولكنهم فوجئوا بعد ظهور أوَّل صورة مأخوذة من القمر الصناعي لهذه المناطق أن خرائط محيي الدين الريس أدقُّ مِن كل ما عرَفوه وتصوَّروه, وأنها تُطابق تمامًا صور القمر الصناعي, وأن معلوماتهم هي التي كانت خاطئة.
وعلى إثر ذلك عكف فريق من العلماء في وكالة الفضاء الأمريكية على إعادة دراسة الخرائط مُقَطَّعة بعد تكبيرها عدَّة مرَّات، فكانت المفاجأة الثانية، وهي أن الريس قد وضع في خرائطه القارة السادسة في القطب الجنوبي والمسمَّاة Antartica قبل اكتشافها بأكثر من قرنين، كما أنه وصف جبالها ووديانها التي لم تُكتشف حتى سنة 1952م[84].
كما لا يمكن أيضًا تجاهل تقي الدين الدمشقي (ت 1525م)، الذي ساهم في بناء مرصد إسطنبول؛ فقد اخترع المضخَّة ذات الأُسْطُوانات الستِّ، وهي فكرة المحرِّكات الانفجارية في جوهرها[85].
وهكذا كانت قصة العلوم في الحضارة الإسلامية.. مفخرة للإنسانية، ومنارة للعالم أجمع.. وذلك يومَ أن بزغ المسلمون في كل أنواع المعرفة، ينهَلُون منها ويغترفون، لا يعيقهم عائق، ولا يقف في طريقهم حاجز.. فمن مبادئ الإسلام انطلقوا، وبتشجيع ذوي السلطان وأولي الأمر تثبَّتوا.. ليُورِثُوا أُمَّتهم حضارة عَلَتْ على العلياء، وأبت على الأعداء، وقادت البشرية جمعاء، وكانت سببًا مباشرًا في بناء الأمم والحضارات اللاحقة!