العلوم الطبية في حضارة الإسلام
قد بلغت الحضارة الإسلامية بعظمتها ورقيها وشموخها مشارق الأرض ومغاربها؛ فاستظلَّ الناس بظلِّها قرونًا عدَّة آمنين مطمئنين، ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن الكون كله بما فيه من إنسان وحيوان ونبات شعر في ربوع الحضارة الإسلامية بأهمية وجوده؛ لأن المسلمين مؤمنون بأن الله عز وجل لم يخلق شيئًا في الكون عبثًا أو سدى، فانطلقوا وهم مؤمنون بهذه الحقيقة الربانية يتفكَّرون في كتاب الله المنظور، فيبتكرون أحدث الوسائل للحفاظ على البشرية كلها نقية نظيفة خالية من الأمراض.
ولم تكن إنجازات الحضارة الإسلامية مقصورة فقط على أبناء ديانة معيَّنة أو جنس بعينه، بل شملت كل من عاش في كنفها مسلمًا كان أو غير مسلم، عربيًّا كان أو غير عربي؛ ممَّا يُعطي انطباعًا بأنها حضارة إنسانية جامعة، وقد سقنا العديد من الأمثلة الدالَّة على ذلك في كتابنا.
ولعلَّ من أبرز إنجازات المسلمين الحضارية كانت الحضارة العلمية؛ حيث حفظت للعالَم تراث البشرية في هذا المجال، عندما قام رُوَّاد الحضارة الإسلامية بترجمة ما وصل إليهم من كتب اليونانيين والفارسيين والهنود والصينيين، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل نقدوا وصوَّبُوا، ثم ابتكروا وأبدعوا في مجالات العلوم والفنون والآداب؛ ليَسْطُروا بعد ذلك في مسيرة الإنسانية تاريخًا ناصعًا مشرِّفًا، وحلقة مهمَّة من حلقاتها، لا يمكن تجاهلها.
وبفضل هذا التفوُّق والإبداع غدت جامعات العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه مطلبًا لملوك أوربا، والأمراء يَفِدُون إليها رغبة في العلم تارة، وفي العلاج تارة أخرى، وهو ما دعا المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون يتمنى لو أن المسلمين استولوا على فرنسا؛ لتغدو باريس مثل قرطبة في إسبانيا المسلمة! وقال تعبيرًا عن عظمة الحضارة العلميَّة في الإسلام: "إن أوربا مَدِينَةٌ للعرب (المسلمين) بحضارتها".
بل وشهد بذلك الباحث اليهودي فرانز روزنتال، فقال مُعَبِّرًا عن إعجابه بعظمة الحضارة الإسلامية: "إن تَرَعْرُع هذه الحضارة هو موضوع مثير، ومن أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ؛ ذلك أن السرعة المذهلة التي تمَّ بها تَشَكُّل وتكوُّن هذه الحضارة أمر يستحقُّ التأمُّل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء وتطوُّر الحضارة، وهي تثير دومًا وأبدًا أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين، ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة؛ لأنها تأسَّست وتشكَّلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جدًّا؛ بحيث يمكن القول: إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ".
ولعلَّ أبرز إسهامات المسلمين في المجال العلمي كان في العلوم الطبية، الذي نُقَدِّم قسطًا يسيرًا منه في كتابنا هذا: (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية)، تلك العلوم التي تتَّصل بصحة الإنسان، وما يتَّصل بها من علم الحيوان، وعلم النبات، وعلم الصيدلة، والطفيليات، والوراثة؛ حيث تكاملت هذه العلوم مع علم الطب في تحقيق بيئة صالحة للحياة الإنسانية، والحيوانية، والنباتية الآمنة.
ولم نغفل عن ذكر بعض رُوَّاد العلوم الطبية الأفذاذ، الذين قَدَّمُوا للبشرية من الابتكارات والإبداعات ما لا يُقَدَّر بثمن، حتى إنها ما زالت مَدِينَةً لهم بالفضل حتى يومنا هذا، وقد امتاز هؤلاء العلماء بتواضع جمٍّ، وإنكار للذات كبير، وأمانة علمية عالية؛ فلم ينسبوا إلى أنفسهم ما تَعَلَّمُوه من الطب اليوناني أو غيره، وظلُّوا على ذلك جيلاً بعد جيل.
كما قَدَّمْنَا بعض شهادات الغربيين حول دور الحضارة الإسلامية، خاصَّة في مجال العلوم الطبية؛ لتكون نبراسًا لكل من يريد أن يَتَبَيَّن دور المسلمين في المسيرة الإنسانية.
وفي ختام مقدمتي هذه أسأل الله عز وجل أن يُعِيد للمسلمين مجدهم وعزَّهم، وأن يبذلوا الغالي والرخيص ليعودوا إلى مكانتهم بين الأمم بعلمهم وأخلاقهم، التي قلَّ الزمان أن يأتي بمثلها.. والله ولي ذلك والقادر عليه.
ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.