النيل.. شاهد على حضارة الإسلام
إن النيل كان وما زال عصب الحياة وعمادها في مصر، وهو سبب وجود الحياة عليها؛ لذا وجدنا كثيرًا من ولاة الأمر بها على مر التاريخ يبذلون قصارى جهدهم في المحافظة على مياهه، واتباع كل السبل التي تمكن من الاستفادة من خيراته، وإعمال العقول في ذلك أيما إعمال، وبقدر الاهتمام به، وهمة القائمين عليه كان عطاؤه، حتى صار ما كان يزرع من أراضي مصر في بعض العصور ـ بفضل مائه ـ أضعاف أضعاف ما يزرع الآن، رغم وجود وسائل الزراعة والتقنية الحديثة التي لم تكن معروفة من قبل عند أسلافنا.
وفاق النيل بخيراته سائر أنهار العالم حتى قال ياقوت الحموي: "وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، ولا يجيء من خراج نهر ما يجيء من خراج ما يسقيه النيل".
ويؤكد ذلك قول ابن عبد الحكم المؤرخ الشهير: "كانت مصر ذات قناطر وجسور بتقدير وتدبير، حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا ويرسلونه كيف شاءوا.. ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من ملك مصر، وكانت الجنان بحافتي النيل من أوله إلى آخره في الجانبين معا جميعا ما بين أسوان إلى رشيد.
وقد ظهر ذلك جليًّا في عهد يوسف عليه السلام؛ حيث اهتم بشق الترع والقنوات المنبثقة من النيل إلى الأماكن النائية لريها واستصلاحها حتى بلغ مقدار ما كان يحصل في زمنه من ضريبة الأرض أو خراجها من الذهب الخالص حوالي أربعة وعشرين مليونًا وأربعمائة دينار، يصرف ثلثها في عمارة البلاد كحفر الخلجان، والإنفاق على الجسور، وسد الترع، وتقويه ما يحتاج إلى التقوية من السدود، لإحياء الأراضي والتوسعة في البلدان وغير ذلك.
وفي عهد فرعون موسى عمت العمارة كما قيل وادي النيل كله، وكانت أرض مصر كلها تروى عند مقياس ستة عشر ذراعًا لما دبروا من جسورها وحافاتها، وامتدت الزروع كما ذكر المسعودي في تاريخه ما بين الجبلين من أولها إلى آخرها، وفي القرآن الكريم إشارات يفهم منها ذلك منها قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25 - 27].
ونتج عن ذلك اتساع المساحة المزروعة بمصر في عصره حتى رويَ أنها وصلت إلى مائة مليون فدان، وهذه الرواية قد يكون فيها شيء من البالغة، ولكنها لا تأتي من عدم، والزراعة التي تنمو الآن بأقل مجهود في الأراضي المستصلحة بالصحراوين الغربية والشرقية دليل على ذلك.
ثم أهمل النيل ومياهه وأهملت مصر وأرضها بعد دخول الرومان بسبب الاضطرابات التي عمت البلاد، والصراع بين الفرس والروم الذي كانت مصر من ضحاياه، وهجران أكثر الناس لأراضيهم هربًا من ظلم جباة الضرائب.
وما إن دخلها المسلمون بسياستهم الإصلاحية، ودينهم الذي يهدف إلى إعمار الأرض حتى سعوا لإعادة إصلاحها، وإرجاعها إلى ما كانت عليه من قبل، بل وابتكار وسائل أخرى للاستفادة من النيل ومياهه؛ حيث رأوا أنّ صلاح البلد كما يقول الليث بن سعد في صلاح النيل.
وقد بدأ ذلك فور دخولهم مصر فاتحين، حيث كتب عمرو بن العاص بعد استقراره فيها لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- يشرح له أوضاع البلد، ويعلمه بما يلقى أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حد مقياس معين، وأن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط، فكتب إليه عمر يسأله عن شرح الحال، فأجابه عمرو: "إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعًا، والحد الذي تُروى منه إلى سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعًا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان، وهما الظمأ والاستبحار اثنا عشر ذراعًا في النقصان، وثمانية عشر ذراعًا في الزيادة".
فلما جاء عمر الكتاب استشار من حوله من الصحابة في ذلك، فأشار عليه علي بن أبي طالب بأن يصلح من القنوات والجسور بحيث يمكن الاستفادة من المياه الزائدة، ويؤمن وصول المياه إلى أكبر مساحة من الأراضي الزراعية عند نقصان النيل، ويعدل مقياس النيل بما يتوافق مع ذلك.
ثم أشار عليه بعد ذلك بحفر الخليج المسمى بخليج أمير المؤمنين، وكان يربط بين مدينة الفسطاط والقلزم الواقعة بجوار السويس حاليًّا، أي يمتد من النيل إلى البحر الأحمر، مارًّا ببلبيس، فلم يمض عليه الحول حتى أتمه، وقيل فرغ منه في ستة أشهر، وجرت فيه السفن، ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع.
وهذا الخليج وإن كان حفر لإيصال المئونة إلى بلاد الحجاز، إلا أنه عاد على مصر بالخير الوفير، إذ ساعد على إعمار المنطقة الممتدة حوله، وإمدادها بالمياه اللازمة حتى صارت بقعة خضراء، وأوصلت مياه النيل إلى مدينة القلزم بعد أن كان أهلها يعتمدون على الآبار في شربهم، كما نشط حركة الملاحة بين مصر ومكة التي كان يقام بها في موسم الحج سوق عالمية، تتبادل فيه جل أصناف البضاعة العالمية في ذلكم الوقت، بل وجعل مصر وسيطًا تجارية هامًّا بين الجزيرة العربية والهند عبر البحر الأحمر.
كما أوصى عمر -رضي الله عنه- بأن يستفاد من ذوي الخبرة من الأقباط في الاستفادة الناجحة من مياه النيل، بما عرفوه من أسلافهم، وكتب إلى عمرو بن العاص أن اسأل المقوقس عن مصر، ومن أين تأتي عمارتها وخرابها، وطلب منه أن يبعث إليه ببعض الأقباط ليتعرف منهم بنفسه على حقيقة ذلك.
فشرع عمرو في تطهير الخلج والترع القديمة، وترميم السدود والجسور التي تحتاج إلى ذلك، ووظف لهذا الأمر مائة وعشرين ألف رجل، سبعون ألفًا بصعيد مصر، وخمسون ألفًا بالوجه البحري، وجعلهم قوامًا على النيل، يتعاقبون فيما بينهم صيفًا وشتاء في حفر الترع، وإقامة الجسور، وبناء القناطر، وقطع الجزائر التي تتراكم من الطمي فتعطل سير المياه، وكان ينفق عليهم من مال الخراج الذي يحصله، وأما القنوات ومجاري المياه الصغيرة داخل الأراضي فكان يكلف المزارعين بتطهيرها على أن يحسب لهم تكلفتها، ثم تخصم من ضريبة الخراج عند تحصيلها.
وسار الأمراء الأمويون الذين جاءوا من بعد عمرو على نهجه، فأقام عبد العزيز بن مروان عدة مشاريع على النيل منها القنطرة التي أقيمت على خليج أمير المؤمنين لتربط بين شاطئيه، ومقياس النيل الذي وضعه بحلوان كما قام بتعمير منطقة حلوان، وأرسل إليها المياه، وبنى بها دورًا وقصورًا واستوطنها، وزرع بها بساتين، وغرس كرومًا.
كما قام الأمراء الأمويون أيضا بمسح الأراضي العامرة وغير العامرة مما يعمها الماء؛ لمعرفة ما يزرع، وما يمكن أن يزرع منها.
وفي عهد الخليفة المتوكل العباسي وضع نائبه على مصر يزيد بن عبد الله مقياسًا عظيمًا بجزيرة الروضة ظل يعمل به زمنًا طويلاً، وقد عزل عن قياسه النصارى الذين كانوا يتولون أمر ذلك من قبل، وأسنده إلى رجال من المسلمين تحت قيادة رجل يسمى أبا الرداد عبد الله بن عبد السلام، لما له من الأهمية، حيث كان يترتب على قراءته توزيع حصص المياه على الترع والخلجان، وفتح السدود أو غلقها، وتحديد كمية الخراج المضروبة على الأراضي الزراعية.
كما قام ولاة العباسيين بإصلاح منطقة البحيرة، وكانت قبل ذلك يغلب عليها ماء النيل حتى سميت بهذا الاسم، فسدوا جسورها، وزرعوها، ونمت واستمرت في زيادة، وبقي اسم البحيرة يطلق عليها لا تعرف إلا به.
ولم يكن حظ النيل من الاهتمام أيام الفاطميين بأقل منه عند من سبقهم، فقد أنشئوا عليه عدة مشاريع، منها الخليج المعروف بخليج أبي المنجا الذي حفره الوزير الأفضل، وأقام القائد جوهر سنة ستين وثلاثمائة عليه عدة قناطر منها القنطرة التي خارج باب القنطرة، وقنطرة اللؤلؤة، وكانت بالقرب من ميدان القمح، وقد بقيت إلى زمن القلقشندي.
كما اشتق الفاطميون من النيل نهرًا آخر يطوف بالقاهرة جمعاء، لإمدادها بما تحتاج إليه من ماء، وعمروا عليه قرى كثيرة، وهذه القرى كان يتفرع إليها من النيل فروع كثيرة تسير في الأطراف، كما يتفرغ منها ترع صغيرة.
وهذه المشاريع المائية التي سلف الإشارة إليها لم تكن إلا نماذج محدودة مما استحدثه المسلمون، يؤكد ذلك قول القلقشندي: وأما بقية خلج الديار المصرية المستحدثة في العصر الإسلامي وترعها بالوجهين القبلي والبحري فأكثر من أن تحصر، ولكل منها زمن معروف يقطع فيه.
وهذا العمران الزراعي وصل إلى مناطق الواحات التي نرى أكثرها الآن متصحرًا؛ حيث كانت المياه كما قال الإدريسي تخترق أرضها، ولكي تفي مياه النيل بري تلك المساحات الشاسعة قاموا بوضع قوانين تنظم توزيع المياه لكل منطقة.
هذا ولم تقتصر جهود المسلمين الأوائل للإفادة من مياه النيل على ما سبق، وإنما قاموا :
- ببناء القناطر المغطاة والسواقي لنقل مياه الشرب النقية إلى الأماكن البعيدة عن شاطئ النيل، وربطها بشبكة من الأنابيب؛ لتوصيل المياه النقية الصالحة للشرب إلى المنازل والمساجد، فقد ذكر المقدسي عن مدينة الإسكندرية أن مياه النيل كانت تخترق جميع ديارها وأزقتها، وتجري في بيوت محكمة تحت الأرض، وقال الإدريسي: والنيل الغربي منها يدخل تحت أقبية دورها كلها، وتتصل دواميس بعضها ببعض، وهي في ذاتها كثيرة الضياء متقنة الأشياء.
- وإنشاء مصارف لمياه الأمطار تتجمع فيها عن طريق البلاعات المقامة تحت الأرض، كما كان الحال في الإسكندرية وغيرها.
- ورفع المياه عن طريق الدواليب وإيصالها إلى المدن المبنية في الأماكن المرتفعة، للاستفادة منها في ري الزروع والأشجار التي تزين هذه المدن، ومثال ذلك ما فعله أحمد بن طولون في مدينته "القطائع "إذ مد إليها خطوط المياه في قناطر محكمة، وجعل لها سواقي ترفع الماء إليها؛ لري البساتين التي أنشأها حولها.
- وإقامة المتنزهات والبساتين والمزارع في الأرض البور، بعد نقل المياه إليها وتخزينها في أماكن تسمى البرك، وقد كثرت تلكم المتنزهات في العصر الفاطمي بصورة ملفتة للانتباه؛ لشغف الخلفاء بها، حتى قال ناصر خسرو: وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها، وقد نصبت السواقي لريها، وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات.
وقال ابن العمري من بعده "ولا يرى مثل صناعة مصر .... وبظاهرها البساتين الحسان، والمناظر النزهة، والآدر المطلة على النيل، والخلجان الممتدة منه، والمستنزهات المستطابة، خصوصا زمن الربيع لغدرانها الممتدة من مقطعات النيل، وما حولها من الزروع المختلفة، وأزهارها المائية التي تسر الناظر، وتبهج الخاطر.
ومن يراجع كتب البلدان يجد عشرات المتنزهات التي تناثرت في قرى مصر ومدنها فضلاً عما كان يقام على ضفاف النيل في كثير من الأماكن من المجالس المبسوطة بالورد.
- وإقامة المخازن الضخمة أو الصهاريج التي تملأ بالماء وقت الفيضان، مثلما كان في تنيس وتونة وسائر قرى البحيرة، فمدينة تنيس مثلاً يقول عنها ياقوت الحموي: وقد بنوا بها صهاريج عظيمة تحت الأرض، وهي قوية البنيان وتسمى "المصانع" وكانت تُملأ عن طريق قناة ضخمة مغطاة تصب فيها الماء الذي يكفي أهلها حولاً كاملاً.
ـ وكذلك استفيد من مياه النيل في تنشيط حركة التجارة داخل مصر؛ حيث كانت البضائع تنقل عبر السفن، مما يسر نقلها، وقلل تكلفتها، وتحاشى الناس بذلك مشكلة الزحام التي تنجم عن كثرة السير في البر، وكانت السفن تسير في النيل وفروعه من بداية الصعيد حتى خليج السويس، حيث توجد "تنيس" أشهر المدن الصناعية بمصر في هذا الوقت، كما كانت السفن كما قال ناصر خسرو تنقل البضاعة من مدينة مصر حتى أبواب دكاكين البقالين، ولولا ذلك لتعذر نقل المؤن فيها على ظهور الدواب لكثرتها، و ذكر ابن خلكان أيضا أن الحبوب والغلال كانت تنقل بالسفن عبر النيل .
وقد وصف المقدسي الرحالة الأعداد الهائلة من السفن التجارية التي كانت تبحر في النيل بقوله: وتعجبت من كثرة المراكب الراسية والسائرة، فقال لي رجل منهم (المصريين): من أين أنت؟ قلت: من بيت المقدس، قال: بلد كبير، أعلمك يا سيدي -أعزك الله- أن على هذا الساحل وما قد أقلع منه إلى البلدان والقرى من المراكب ما لو ذهبت إلى بلدك لحملت أهلها وآلاتها وحجارتها وخشبها حتى يقال كان هاهنا مدينة.
وأقيم لذلك ما يمكن أن يسمى بمحطات لصعود وهبوط الركاب، وأقيم بها الاستراحات التي زودت بكل ما يحتاجه المسافرون من حاجيات أساسية، كما قال ابن بطوطة: من هذه المدينة ركبت النيل مصعدا إلى مصر ما بين مدائن وقرى منتظمة متصل بعضها ببعض، ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد؛ لأنه مهما أراد النزول بالشاطئ نزل للوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك، والأسواق متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مصر ومن مصر إلى مدينة أسوان من الصعيد.
وحتى لا تعطل الجسور المقامة على النيل، والتي كانت تيسر حركة التنقل بين شاطئ النيل جعل الكثير منها متحركًا؛ ليسهل فتحها عند مجيء السفن، يؤكد ذلك قول ابن بطوطة في وصف إحدى المدن المصرية: هي مدينة عتيقة كبيرة على خلج النيل، ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها، فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب وجازت المراكب صاعدة ومنحدرة.
ولو تنبه المسئولون في مصر الحديثة الآن لهذا الأمر، ووضعوا الجسور المقامة على النيل مرتفعة لا تعوق سير السفن، لحلت لنا أزمة التنقل بين المحافظات الواقعة على النيل، ولساعد ذلك على تعمير شوطئ النيل في الأماكن التي مازالت معراة من الزراعة وغيرها.
- كما استفادوا من مياه النيل في تشغيل الطواحين المائية التي تعمل بقوة دفع المياه، ودون تكلفة.
- واستفادوا أيضًا من النيل في عملية صيد الأسماك التي صارت من موارد الدولة الأساسية منذ تولى ابن المدبر خراج مصر، وبلغ من عظم دخل هذه المصايد أن بحيرة "نسترو" وحدها كان متحصل صيد سمكها في كل سنة فوق عشرين ألف دينار أي ما يساوي 7 كيلوات من الذهب.
في الختام أقول: إنه لم يقتصر اهتمام المسلمين الأوائل بالنيل داخل مصر فقط، وإنما اهتموا به خارج مصر أيضًا، فقد كان الفاطميون يعهدون إلى ملك الحبشة بحفظ مجاري النيل، وإصلاح مسالكه، وقد ذكر ابن العميد المؤرخ في تاريخه أنه لما توقف النيل في زمن المستنصر بالله الفاطمي كان ذلك بسبب فساد مجاريه في بلاد الحبشة، وأن المستنصر أرسل البطريك الذي كان في زمانه إلى الحبشة حتى أصلحوه، واستقامت مجاريه.