قرطبة دار العلوم 2
ذكرنا في مقال سابق أن قرطبة حباها الله بحكام ذوي شغف بالعلم وتقدير للعلماء، وبجامعة علمية تدرس فيها العلوم كافة وتضم أعظم العلماء ويفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب. ولا غرو بعد أن يكون في قرطبة تلك الجامعة العريقة، وهؤلاء الحكام المهتمون بالعلم بهذه الدرجة الكبيرة أن تنجب قرطبة الكثير من العلماء، الذين كانوا شعلة مضيئة في سماء العلوم ومحراب الإنسانية.
وهذان مثالان رائعان لعلماء هذه الفترة العظيمة من فترات التاريخ الإسلامي.
أولاً: الزهراوي:
يُعد خلف بن عباس أبو القاسم الزهراوى، الأندلسي (325 -404هـ / 936 - 1013م) أشهر جراح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها في ذلك الوقت.
وقد ولد الزهراوي بالزهراء، من ضواحي مدينة قرطبة، ونشأ بها، وتعلم الطب بجامعة قرطبة علي أيدي أطبائها.. وقد برع فيه حتى أصبح طبيب الخليفة الأموي، الحكم الثاني!!
وللزهراوي في الطب إنجازات وإبداعات علمية صارت حديث العلماء في الشرق والغرب في عصره وبعد عصره.. فهو أول من أسس علم الجراحة العامة في العالم، وأول من مارس الجراحة بيديه من بين الأطباء العرب السابقين له والمعاصرين؛ فقد كان الحجامون هم الذين يقومون بالعمليات الجراحية تحت إشراف الأطباء الباحثين كعلماء في الجراحة[1].
كما يعد الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا جوتنبرج بعدة قرون، وقد سجل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفذها في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذ "التصريف".
ففي الباب الثالث من هذه المقالة، ولأول مرة في تاريخ الطب والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تصب فيه هذه الأقراص أو تحضر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولاً، ويحضر في كل وجه قدر غلظ نصف قرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه، مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها؛ وذلك منعًا للغش في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية[2].
ويعد الزهراوي أيضًا المبتكر الأول لعملية القسطرة، وصاحب فكرتها والمبتكر لأدواتها.. وقد وصف عملية غسل المثانة وأدخل إليها بعض السوائل المطهرة بواسطة الآلات.. وابتكر الزهراوي كذلك آلة دقيقة جدا لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة؛ لتسهيل مرور البول.. كما نجح في إزالة الدم من تجويف الصدر، ومن الجروح الغائرة كلها بشكل عام.
وفي الجراحة العامة يعد الزهراوي أول من أجري عملية شق القصبة الهوائية "تراكيو ستومي" علي خادمه، ونجح فيها، وكان الأطباء قبله، مثل ابن سينا والرازي، قد أحجموا عن إجرائها لخطورتها.
والزهراوي كذلك هو أول من نجح في إيقاف نزيف الدم أثناء العمليات الجراحية، وذلك بربط الشرايين الكبيرة، وسبق بهذا الربط سواه من الأطباء الغربيين بستمائة عام.. والعجيب أن يأتي من بعده من يدعي هذا الابتكار لنفسه، وهو الجراح إمبراطور باري عام 1552 م!!
والزهراوي هو أول من استخدم خياطة الجراح بإبرتين، وبخيط واحد مثبت فيهما.!!
وهو أخيرًا أول من ابتكر التدريز، أو التخطيط المثمن في جراحات البطن.. وأول من مارس تخييط الجراح من الداخل, كي لا تترك أثرا مرئيا للجراح، وقد أطلق علي هذا العمل اسم "إلمام الجروح تحت الأدمة".. وبذلك يعد الزهراوي رائدا أيضًا في أولى عمليات جراحات التجميل[3]!!
هذا وقد خرَّجت قرطبة للمسلمين وللعالم أجمع - غير ما ذكرنا - علماء كثيرين، وفي شتى المجالات، ولا يتسع المجال هنا لجمعهم، ويكفي أن نذكر أنه كان منهم غير ما سبق: ابن باجة، وابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مؤسسي طب العيون)، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.
وإن هذا ليحدونا إلى أن نتعرف على السبيل الذي جعل قرطبة تُخرِّج كل هؤلاء العلماء، والذين أضاءوا عصور الظلام في أوربا، وبددوا الجهل والتخلف، وأفادوا الإنسانية في أوربا والعالم الإسلامي، وقادوها إلى الرفعة والمدنية.
وأعني: السبيل الذي جعل من قرطبة عاصمة عالمية للحضارة العلمية والمدنية.
التعليم والمكتبات في قرطبة
كان للخلفاء دور كبير في إثراء الحياة العلمية في قرطبة، فلم يهملوا الجانب الثقافي والمعرفي، والذي ولعوا به ولعًا قبل غيرهم.. وكم كان في قرطبة من خلفاء علماء، ووزراء حكماء!
فقد كان الخليفة عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ/ 913 -962م) ذا ولع وحب شديد للعلم والمعرفة.. وفي صورة تعبر عن ذلك أن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع لم يجد شيئًا يتقرب به إلى قلب الناصر حينما عزم على عقد معاهدة معه سوى أن يهديه كتابًا جديدًا لم يعرفه من قبل، وهو كتاب ديسقوريدس، وكانت هذه النسخة رائعة، حيث كتبت بحروف من ذهب وزينت برسوم جميلة[4]!!
وإن حب الناصر للكتب هو الذي جعله يهتم بمكتبة القصر كثيرًا، ويقوم بتزويدها بكل ما هو نفيس من الكتب.
ولما تولى الحُكم الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر في سنة 350هـ / 962م جعل كل هدفه السير بالأندلس قدمًا في طريق العلم والمعرفة، فوجه جل اهتمامه إلى بناء وتعمير مكتبة قرطبة أو مكتبة القصر.
ولأنه لم يكن للمكتبات عند إنشائها أبنية مستقلة خاصة، بل كانت المكتبة جزءًا غير مستقل من مبنى المؤسسة التي تنشأ في كنفها، فكانت مكتبة الحكم تشغل أحد أجنحة قصر الخلافة بقرطبة، وكان هذا الجناح هو ما يعرف في التاريخ باسم مكتبة الحكم، أو مكتبة قرطبة الأموية.
وعندما ضاقت غرف المكتبة بما تحويه من كتب، علاوة على عدم استيعابها للزيادة المطردة من الكتب، كان من الضروري أن تنقل المكتبة في مكان آخر، وقد استغرقت عملية النقل هذه ستة أشهر كاملة!!
وكان المبنى الجديد يضم عددًا من الأقسام، منها: قاعة الكتب، وهي أصل المكتبة، ومركز البحث والتأليف، ومركز النقل والترجمة، ومركز التدقيق والمراجعة.
أما وظائفها الخاصة فكانت على النحو التالي:
1- المكتبة:
وتشمل القاعة الرئيسية في مبنى المكتبة، وكانت تحوي عددًا كبيرًا من الكتب التي كان يجمعها الأمراء من كل حدب وصوب.
ولقد جمع الحكم من الكتب ما لا يحد كثرة ولا يوصف نفاسة، وصلت على وقته 400.000 مجلد، استغرق نقلها ستة أشهر.. ووصل عدد فهارس المكتبة فقط في أسماء دواوين الشعر 44 فهرسا، بكل فهرسة عشرون ورقة.
واعتنى الحكم بهذه الكتب عناية كبرى، فجمع في قصره حذاق النساخين، والمهرة في الضبط، والمجيدين في التجليد صيانة لكتبه.
وقد اعتمدت المكتبة على مجموعة مصادر في بناء وتنمية مجموعاتها من الكتب، كان منها: الشراء، ويعتبر المصدر الأهم في جمع الكتب؛ حيث كان الحَكم ينفق في شراء الكتب ونوادر المخطوطات أموالا طائلة!!
وعلى سبيل المثال بعث الحكم في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني، ودفع إليه فيه ألف دينار، فأرسل إليه أبو الفرج نسخة مكتوبة من هذا الكتاب قبل أن يظهر في بغداد[5]!!
وكذلك ألف له كتابًا يتضمن أنساب قومه بني أمية، وقد فعل الحكم ذلك أيضًا مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، ومع محمد بن القاسم بن شعبان بمصر، ومحمد بن يوسف الوراق الذي صنف له كتابًا ضخمًا في مسالك إفريقية وممالكها، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج[6].
وكان يعين هؤلاء الكتاب بالمال على كتابة مصنفاتهم، كما كان لا يتردد في مساعدتهم عن طريق إعارتهم ما كانوا يحتاجون إليه من مصادر؛ فقد أرسل إلى الكاتب المصري أبي سعيد عبد الرحمن بن يونس صاحب كتاب (تاريخ مصر والمغرب) كتابا، استعان به هذا المؤرخ في تصنيف كتابه المذكور، في القسم الخاص بالأندلس[7].
ولقد كان من المصادر أيضًا غير الشراء: الهبات والهدايا؛ فكان العلماء يهدون الكتب لمن يطلبها على سبيل الهبة، حتى ولو كان المطلوب مخطوطًا أصليًا نادرًا.. وفضلاً عن ذلك فقد كانت تأتى كتب أجنبية من البلدان الأخرى هدية إلى حكام المسلمين.
ومن المصادر أيضًا: الوقف؛ وكان يمثل مصدرًا مهمًا في إثراء المكتبة بالمجموعات القيمة من الكتب، حيث كان الحكام والمحكومون شديدي الرغبة في وقف الكتب على مختلف معاهد التعليم، وإنشاء المكتبات بها؛ حتى ينالوا الأجر والثواب من الله على ذلك، وإفادة طلاب العلم من جهة أخرى[8].
2- مركز البحث والتأليف:
وهو يشمل فئات من الباحثين والمؤلفين، كل على حسب تخصصه، فكان فيها من العلماء المتخصصين في مختلف فروع المعرفة، وكان يتم تكليف بعض علماء الأندلس للتأليف في تخصصات معينة، ومن أمثلة ذلك: تكليف محمد بن الحارث الخشني لتأليف بعض الكتب للمكتبة، كان منها كتاب (تاريخ قضاة قرطبة)، وكتاب (فضائل الإمام مالك)، وغيرها كثير[9].
3- مركز النقل والترجمة:
كان مركز النقل والترجمة يُزود المكتبة بالمصنفات في الحضارة الأجنبية والفكر العالمي، ومن ثم اهتم القسم بترجمة أمهات الكتب من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وقد عمل في قسم الترجمة نخبة ممتازة من المترجمين الذين يجيدون اللغات الأجنبية، خاصة اليونانية واللاتينية، وكان منهم: عبد الله الصقلي، ومحمد النباتي، ومحمد بن سعيد، وعبد الرحمن بن إسحاق بن الهيثم، وغيرهم.. وكان أكثر العلوم التي ترجمت في المجالات العلمية: الطب والهندسة والفلك[10].
4- مركز التدقيق والمراجعة:
كانت مهمة هذا القسم مراجعة الكتب وتصحيحها وتهذيبها، سواء المؤلفة أو المترجمة؛ حتى تصبح خالية من النقص العلمي أو العيب المادي، وكان يعمل في هذا القسم نخبة من العلماء المعروفين، والمشهود لهم بغزارة علمهم وتميزهم في كل تخصص.. وكان من هؤلاء العلماء: الرياض محمد بن يحيى بن عبد السلام الأزدي، وأبو محمد بن أبي الحسن الفهري القرطبي، ومحمد بن معمر الجياني[11].
5- إدارة المكتبة:
شملت المكتبة فِئات من العاملين، منهم فئة المؤلفين، وفئة المترجمين، وفئة منتجي الكتب، وتشمل النساخين ومن في حكمهم، كالمراجعين والمجلدين والمزخرفين، وفئة المتخصصين في شئون المكتبات، كالقائمين بالأعمال الفنية والخدمات المكتبية، بالإضافة إلى فئة العمال والسعاة الذين يقومون بعمليات الأمن والحراسة، وتنظيم أثاث المكتبة.
وكان الأفراد في كل فئة يعملون تحت إشراف مسئول يتولى شئون العمل من حيث توزيعه عليهم وتجهيز مستلزماته، وكان يشرف على هؤلاء جميعًا من الناحية العلمية والإدارية "خازن".. كانت وظيفته تماثل وظيفة رئيس المكتبة أو مدير المكتبة، وكان يتولى وظيفة الخازن أحد أساطين العلماء، أو أحد مشاهير الأدباء، بحيث يسمح عمله وتتيح ثقافته وخبرته القيام بهذه المسئوليات الجسام على أكمل صورة.
وعلى هذا.. كان للحياة العلمية على المستوى العام في قرطبة لونٌ آخر.. وشأنٌ جديدٌ، لم تعهدهما تلك البقعة الجغرافية في زمانها.