قرطبة دار العلوم 1
قرطبة دار العلوم
في عمق التاريخ.. وفي غابر الزمن.. وفي أرض حُجبت فيها شمسُ العلم والحضارة بغيمٍ كثيف من ظلمات الجهل والتخلف.
وسط كل ذلك.. وامتدادًا لحضارة إسلامية إنسانية، طالت السماء وناطحتها؛ علمًا وقِيَمًا ومجدًا.. بزغ نجم مدينة قرطبة، كشاهدٍ حي على ما وصلت إليه حضارة المسلمين وعزّ الإسلام في ذلك الوقت من التاريخ، وهو منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).. يوم أن كانت أوربا تغطّ في جهل عميق.
قرطبة.. ذلك الاسم الذي طالما كان له جرس معين، ووقع خاص في الأذن الإسلامية.. بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة والحضارة الإنسانية.
قرطبة.. تلك المدينة التي ينسب إلى عبد الرحمن الناصر أنه قال فيها:
هِمَــم الملـوك إذا أرادوا ذِكْـرَهَـا مـن بَعْـدهـم فَبِألْسُن البنيان
أَوَ ما تَرَى الهرمَيْن قد بقيا وكم مَلِكٌ محـاه حوادث الأزمـان
إن البنــاء إذا تعـاظـم شـأنه أضحــى يَـدُلّ علـى عظيم الشان
والتي أنشد أبو البقاء الرندي يرثيها:
وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالمٍ قد سَمى فيها له شان؟!!
وتلك هي الحقيقة.
ولنبدأ بالبداية..
فهي مدينة تقع على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا.. وقد أرَّخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت: "أسسها القرطاجيون فيما يعتقد، وخضعت لحكم الرومان والقوط الغربيين"[1]
وقد قام بفتحها القائد الإسلامي طارق بن زياد، وذلك سنة (93 هجرية - 711 ميلادية).
ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخط لنفسها خطا جديدًا وملمحًا مهمًا في تاريخ الحضارة.. فبدأ نجمها في الصعود كمدينة حضارية عالمية، لاسيما في عام 138هـ / 756م، عندما أسس عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) لقيام الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي العباسيين.
وفي عهد عبد الرحمن الناصر (أول خليفة أموي في الأندلس) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر، بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقمة ريادتها وحضارتها، خاصة وأنه اتخذها عاصمة لدولته الفتية، ومقرًا له كخليفة للمسلمين في العالم الغربي.. وقد جعل منها منبرًا للعلوم والثقافة والمدنية.. حتى غدت تنافس القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في قارتها، وبغداد عاصمة العباسيين في المشرق، والقيروان والقاهرة في إفريقيا.. وحتى أطلق عليها الأوربيون "جوهرة العالم"..!!
وقد شمل اهتمام الأمويين بقرطبة اهتمامهم كذلك بنواحي الحياة المختلفة فيها، من زراعة وصناعة، وبناء الحصون، ودور الأسلحة وغيرها.. وقد شقوا الترع وحفروا القنوات، وأقاموا المصارف، وجلبوا للأندلس أشجارًا وثمارًا لم تكن تزرع فيها..!!
معالم من قرطبة
في هذه السطور القادمة سنتعرف على بعض مظاهر الرقي والحضارة التي تميزت بها الأندلس عامة، وقرطبة خاصة؛ لنقف على الإسهامات الإسلامية لمسيرة الإنسانية.
قنطرة قرطبة:
كان من المعالم المهمة في قرطبة "قنطرة قرطبة"، والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وقد عرفت باسم "الجسر" وأيضًا "قنطرة الدهر"، وكان طولها سبعةً وثلاثين مترًا تقريبًا، وعرضها ثمانون ذراعًا (الذراع يساوي 46.2 سم)، وارتفاعها ستون ذراعًا!!
وقد وصفها ابن الوردي فقال: وبمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، وعدد قسيها سبعة عشر قوسًا، كل قوس منها خمسون شبرًا وبين كل قوسين خمسون شبرًا[2].
ووصفها الإدريسي فقال: ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر فخرًا في بنائها وإتقانها، وعدد قسيها سبع عشرة قوسًا، بين القوس والقوس خمسون شبرًا، وسعة القوس مثل ذلك خمسون شبرًا، وسعة ظهرها المعبور عليه ثلاثون شبرًا، ولها ستائر من كل جهة تستر القامة، وارتفاع القنطرة من موضع المشي إلى وجه الماء في أيام جفوف الماء وقلته ثلاثون ذراعًا، وإذا كان السيل بلغ الماء منها إلى نحو حلوقها، وتحت القنطرة يعترض الوادي رصيف سد مصنوع من الأحجار القبطية والعمد الخاشنة من الرخام، وعلى هذا السد ثلاث بيوت أرحاء، في كل بيت منها أربعة مطاحن[3].
مسجد قرطبة:
يعتبر الجامع الكبير من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم.. وهو يُسمى بالأسبانية Mezquita (وتنطق: ميتكيتا) وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس (على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا..!!
وقد بدأ بناءه عبد الرحمن الداخل سنة 170هـ/ 786م ومن بعده ابنه هشام الأول.. وكان كل خليفة جديد يضيف لهذا الجامع ما يزيد في سعته وتزيينه.. ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة، ومن أكبر المساجد وقت وجوده..!!
وفي وصف لهذا الجامع يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أجلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقان بنية، تهمم به الخلفاء المروانيون فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف ويعجز عن حسنه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولاً وعرضًا!!
طوله مائة باع وثمانون باعًا، ونصفه مسقف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد قسي مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسواري مسقفه بين أعمدته وسواري قببه صغارًا وكبارًا مع سواري القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي، ارتفاع الجائزة منه شبر في عرض شبر إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يشبه بعضها بعضًا، قد أحكم ترتيبها وأبدع تلوينها بأنواع الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل، فهي تروق العيون وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها، وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.
ولهذا الجامع قبلة يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المذهب والبلور مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله.. وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان زرزوريان، لا تُقوَّم بمال، وعلى رأس المحراب خَصّة رخام قطعة واحدة مسبوكة منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعة، خشبه أبنوس وبقس وعود المجمر، يقال إنه صنع في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير من يخدمهم تصرفًا!!
وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطسوت ذهب وفضة وحسك، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي خطه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويخرج هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولى إخراجه قوم من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسي يوضع عليه، فيتولى الإمام قراءة نصف حزب فيه، ثم يرفع إلى موضعه.
وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفحة بصفائح النحاس وكواكب النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصّ المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواع شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.
وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي، منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلا إذا وصلا الأعلى، ووجه هذه الصومعة مبطن بالكذّان منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.
وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صفان من قسيّ دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مؤذنان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سوسنية، تسع الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستون رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[4]. ا. هـ.
وقريب من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب).
وقد كانت ساحته تملأها أشجار البرتقال والرمان، ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينة من شتى البقاع[5].
ومما يحزن له القلب وتدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تحوّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعًا للكنيسة، مع احتفاظه باسمه، وتحولت مئذنته الشاهقة إلى برج تنتصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، كما لا يزال يعلو جدرانه المنيعة نقوشٌ قرآنية تعكس عبقرية فنية نادرة!! وهو الآن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله.. وتستطيع دخوله مقابل دفع 6 يورو..!!
وفي ذلك يقول إقبال يخاطبه:
إن أرضًـا أنـت فيـهـا لسمـاء للعيـون
كيف لم يسمع أذانًا أهلها مـنذ قرون؟
جامعة قرطبة:
لم يقتصر دور مسجد قرطبة على العبادة فقط، وإنما كان أيضًا جامعة علمية تُعد من أشهر جامعات العالم آنذاك، وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية، وعلى مدى قرون..!!
وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة.. وكان طلاب العلم يفدون إليها من الشرق والغرب على السواء، مسلمين كانوا أو غير مسلمين..!!
وقد احتلت حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرغوا للدرس والتأليف، وكذلك أيضًا خصصت أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين..!!
وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلمية بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة، واستطاعت قرطبة أن تخرج للمسلمين وللعالم الجم الخفير من العلماء، وفي جميع مجالات العلوم.