الجيش الإسلامي يتوجه إلى تبوك
غزوة تبوك
الجيش الإسلامي يتوجه إلى تبوك
غزوة تبوكخرج الجيش بالفعل إلى تبوك في رجب سنة 9 من الهجرة، وترك رسول الله على إمارة المدينة محمد بن مسلمة ، وعلى أهله عليّ بن أبي طالب ، وقطع الجيش المناضل المسافة البعيدة في صبر جميل، لقد كانوا يقسمون الثمرة الواحدة بين الرجلين لقلة الزاد، وكان يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكانوا يدخرون الماء لندرته، حتى كانوا ينحرون الإبل ليشربوا الماء الذي تدخره في باطنها! ابتلاء كبير، ويُبتلى المرء على قدر دينه.
وكأن هذا الابتلاء ليس كافيًا، فيأتي ابتلاء جديد لاختبار الطاعة لأمر رسول الله ، فإن القوم وهم في شدة الحاجة للماء، وصلوا إلى منطقة الحجر، وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح ، والتي أهلكها الله بالصاعقة لما ظلموا وكفروا بربهم، وعند هذه القرية كانت آبار للماء، ولما رأى المسلمون آبار الماء أسرعوا إليها قبل استئذان الرسول ، وملئوا أوعيتهم بالماء، وعجنوا عجينهم بهذا الماء ليصنعوا خبزًا يشبعهم بعد طول جوع.
ولكن رسول الله عندما علم بذلك أمرهم أمرًا شاقًّا جدًّا على نفوسهم، لقد قال لهم: "لاَ تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلاَ تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلاَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا".
إن هذا الماء غير مبارك، وهو ماء الذين ظلموا، والأمر مباشر وصريح بعدم الشرب منه، وليس على المسلمين إلا الطاعة، وقد يقول قائل، أو يجادل مجادل: إن هذا الماء ليس له علاقة بشاربه، فيشرب منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ونحن في حاجة للماء، والرسول كان يشرب من ماء مكة، وغيرها دون أن يسأل أهو ماء كفار أم مسلمين؟
كل هذه حجج قد تقال، وشبهات قد تثار، وليست كل الأوامر يتضح لنا فيها الحكمة، بل إن بعض الأوامر قد يُخفي الله حكمتها عنا ليختبر مدى طاعتنا لأوامره دون تردد أو فتور.. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
ونجح المسلمون الصادقون في الاختبار، ولم يشربوا من ماء ثمود، بل أمرهم رسول الله ألا يدخلوا ديارها أصلاً، وإن حدث ودخلوها لأي سبب فليدخلوها باكين تأثرًا بما حدث لهم عندما خالفوا أمر الله .
أما هو فقد قَنّع رأسه بالثوب، وأسرع بالمسير، وقال لهم فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلاَ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ".
ويندرج هذا على كل آثار باقية لقوم أُهلكوا قبل ذلك لكفرهم، فلا يدخلها المسلم إلا للاعتبار، ولا يدخلها في فرح وسرور، بل في بكاء، وتأثر، وتذكر، وتدبر.
ثم حدثت أحداث كثيرة في الطريق ليس المجال لتفصيلها، منها بعض المعجزات لرسول الله مثل تكثير الطعام، ومثل الاستسقاء، ونزول المطر مباشرة، ومثل إخباره عن مكان شرود ناقته مع بُعد مكانها عنه، ومثل خروج الماء من وادي المُشقّق مع عدم وجوده في البداية، ومثل إخباره عن ريح قبل أن تهب، ومنها إبطاء أبي ذر لضعف بعيره، ثم إكماله الطريق إلى تبوك ماشيًا على أقدامه.
ومنها مواقف متعددة خبيثة من المنافقين، كالاستهزاء بالرسول وآيات الله، ونزول آيات قرآنية تكشف مكرهم وتدبيرهم.
ومنها نوم الصحابة، ومعهم الرسول عن صلاة الصبح في يوم من الأيام، ثم صلاة الصبح قضاء.
ومنها موت الصحابي الجليل ذي الْبِجَادَيْنِ .
نصر بلا قتال !
وفي النهاية وصل رسول الله ومعه الجيش العظيم إلى أرض تبوك، فماذا وجد؟ لقد وجد عجبًا، لقد تحقق نصر هائل للجيش الإسلامي وللأمة الإسلامية، ولكنه -ويا للعجب- نصر بلا قتال.
لقد فرت الجيوش الرومانية العملاقة التي تحكم وتسيطر على نصف مساحة المعمورة تقريبًا، عندما علمت بقدوم رسول الله .
كيف فرت جيوش الدولة الأولى في العالم من جيش المسلمين، مع وفرة جنودهم، وقوة عتادهم، وعمق تاريخهم ومهارة تدريبهم؟!
إن المعادلة صعبة حقيقةً، ولا تفهم إلا في ضوء الحقيقة القرآنية العظيمة {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا} [آل عمران: 151].
والرعب جندي معروف من جنود الرحمن ، ورأيناه كثيرًا في غزوات ومواقع رسول الله بدءًا ببدر، ومرورًا بكل الغزوات، وانتهاءً بآخر غزواته تبوك.
لقد علمت الرومان بقدوم ثلاثين ألف مسلم فيهم رسول الله ، فجاءتها ذكريات مؤلمة لموقعة مُؤتة التي لم يمر عليها عامان بعدُ، حيث ارتبكت الجيوش الرومانية أمام ثلاثة آلاف مسلم فقط، وليس ثلاثين ألفًا، ولم يكن في جيش مُؤتة رسول الله ، بينما في تبوك الرسول يتوسط جيشه.
لقد حسب الرومان حساباتهم فوجدوا الفرار من هذا الجيش غنيمة، حتى وإن سقطت هيبة الدولة العملاقة، وظهرت بصورة مخزية أمام الدولة الإسلامية الناشئة.
وليس هذا فقط بل فرت أيضًا قبائل العرب المُتَنَصّرة حليفة الرومان من هذه الأماكن، مع أن هذا المكان (تبوك) يدخل في نطاق أرضهم ووطنهم، ولكنهم لم يفكروا أصلاً في مبدأ المقاومة، بل وصل بهم الرعب إلى ترك كل شيء والفرار.
وإذا كان الرومان القادة قد فروا، فما بالكم بأذنابهم؟
لم يكتفِ الرسول بهذا النجاح الباهر، بل أصر على البقاء في تبوك بضعة عشر يومًا، وفي رواية عشرين يومًا؛ ليثبت للجميع أنه ليس خائفًا من الرومان وأعوانهم، مع أنه كان من عادة الجيوش في ذلك الزمن أن يمكثوا في أرض المعركة ثلاثة أيام فقط لإثبات جرأتهم على عدوهم، ولكن رسول الله ضاعف المدة إلى عشرين يومًا كاملة لضبط الأمن في كل المنطقة.
وتوّج رسول الله رحلته بإرسال سرية من المسلمين قوامها أربعمائة وعشرون فارسًا بقيادة خالد بن الوليد إلى دُومَةِ الجَنْدل، والتي تبعد حوالي 335 كيلو مترًا عن تبوك، وذلك لأسر أُكَيْدِر بن عبد الملك الكندي، وكان ملكًا نصرانيًّا ساعد الرومان في حربهم ضد المسلمين.
وقد أخبر رسول الله خالد بن الوليد أنه سيجد أُكَيْدِر يصطاد البقر خارج حصنه، فليأتِ به، وسبحان الله! كما أخبر الرسول الكريم وجد خالد بن الوليد أُكَيْدِر خارج الحصن يصطاد فأسره، وأتى به إلى رسول الله ، ثم صالحه رسول الله بعد ذلك على الجزية، وحقن له دمه.
ولم يقف نجاح هذه الحملة العسكرية عند هذا الحد، بل أتى ملوك وأمراء مدن الشام المتاخمة للجزيرة العربية يصالحون رسول الله على الجزية، ومن هؤلاء صاحب أَيْلَة يُحَنَّة بن رؤبة، وكذلك أَتاه أهل جَرْبَاء، وأهل أَذْرُح، وأهل مَقْنَا.
لقد تم هذا النصر المبين دون أن يُرْفع سيف، عدا المناوشات البسيطة التي تمت عند أسر أُكَيْدِر بن عبد الملك.
لقد أظهر لنا ربنا I طرقًا عديدة لتحقيق النصر للمسلمين، فتارة يجري القتال العنيف الشرس بين المسلمين وأعدائهم كما في بدر، وتارة يصبر المسلمون على حصار عدوهم لهم كما في الأحزاب، حتى ينصرفوا دون نتيجة، وتارة يحاصر المسلمون أعداءهم فينزلون على رأي المسلمين دون قتال، كما في غزوات الرسول مع اليهود في بني قينقاع، وبني نضير، وبني قريظة، وتارة ينزلون على حكم المسلمين بعد قتال كما في خيبر، وتارة لا يفتح حصن يحاصره المسلمون، ولكن يأتي بهم الله بإرادتهم كما في أهل الطائف، وتارة لا يكون هناك قتال بالمرة كما هو الحال هنا في تبوك.
وخلاصة الأمر كما ذكره ربنا في كتابه الكريم: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
ليس المهم كيف يتم النصر؟ ولكن المهم أن يوجد الجيش الذي يستحق النصر، ثم الله ينصر من يشاء، كيفما يشاء، وفي الوقت الذي يشاء.
وقد فكر رسول الله في استكمال المسير شمالاً، ومطاردة الرومان في بلاد الشام، ولكنه قبل أن يتحرك استشار المسلمين، فأشار عليه عمر بن الخطاب بالرجوع إلى المدينة، وقال له: يا رسول الله، إن للروم جموعًا كثيرة، وليس بالشام أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله أمرًا.
فعمر بن الخطاب رأى -وكان رأيه صائبًا- أن دخول الشام مخاطرة كبيرة، وخاصة أن أراضي الشام ليست صحراوية، وقتال المسلمين فيها سيكون جديدًا عليهم، بينما سيكون قتال الرومان أكثر ضراوة ومهارة، كما أن أعداد الرومان في الشام لا تقل عن مائتين وخمسين ألف جندي، وهذه أعداد هائلة، غير القبائل المساعدة من العرب.
فرجوع الرسول وهو في نصر لا ينكره أحد، أفضلُ من مخاطرة غير محسوبة.
وقد أخذ رسول الله باستشارة عمر ، ولم يندفع اندفاعًا عاطفيًّا، ولم تخرجه نشوة النصر عن حدود العقل، فآثر العودة بعد أن حقق هذه المكاسب الهائلة.