أزمة تبوك وطبقات المجتمع المسلم (2-2)
عرفنا في المقال السابق أن المجتمع المسلم ينقسم إلى طبقات، وأن هذه الطبقات تكون مختلطة عادة في المجتمع المسلم، فلا يستطيع إنسان تمييز أهل طبقة عن أهل طبقة أخرى، وأن هذه الطبقات لا تتميز إلا في الشدائد. ووقفنا أمام الطبقة الأولى في المجتمع المسلم وهي طبقة عمالقة الإيمان، وتوقفنا أمام نماذج لهذه الطبقة من واقع أزمة تبوك. والآن إلى باقي هذه الطبقات:
الطبقة الثانية: طبقة عموم المؤمنين
إذا كانت الطبقة السابقة هي طبقة القادة في الخير، فهذه هي طبقة الأتباع في الخير أيضًا، هؤلاء هم أصحاب الفطرة السليمة، والأخلاق الحميدة، والروح الإسلامية النقية، يستجيبون لنداء الجهاد دون تردد، ويتحركون دون تكاسل، ويرفعون راية الحق ما دام قد طلب منهم ذلك، وهذه هي الطبقة الرئيسية في الأمة المنتصرة الممكنة، وهذه الطبقة -وهي إن كانت تأتي خلف طبقة عمالقة الإيمان- إلا أنها عماد الدولة وكيانها الرئيسي، وعموم الناس، وفيهم خير كثير، وأمل كبير.
نَعَمْ، هم ليسوا قادة الناس ومحركيهم، ولكن ليس كل الناس أبا بكر، ولا عمر، وقادة الناس ماذا يفعلون بغير شعوبهم وجنودهم، وأي قيمة لقائد متميز إن كان شعبه فاسدًا، والعكس كذلك، فلا قيمة لشعب متميز إن كان قائده فاسدًا؛ لذلك فإن سنة الله تقضي بأن يكون الحكام على شاكلة شعوبهم، وأن تكون الشعوب على شاكلة حكامها، فالشعب الطيب يحكمه قائد طيب، والشعب الفاسد لا يفرز إلا حاكمًا فاسدًا.
وعموم الناس تولد على الفطرة، وتولد على حب الله والدين حبًّا فطريًّا، وهذا الحب مزروع تلقائيًّا في قلوب عامة العباد، لكن تأتي عوامل التربية والبيئة لتغير من طبائع الناس، فكما أن الطفل يولد على الفطرة، ثم يتغير حسب تربيته، كذلك الشعوب، قال رسول الله في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة : "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتِجُ الْبَهِيمَةَ، هَلَ تَرَى فِيهَا جَدَعَاءَ؟".
كذلك الشعوب، فبسهولة يستطيع الحاكم الطيب الصالح أن يُحول شعبه إلى شعب طيب وصالح؛ لأن عموم الناس في فطرتها الخير، وفي نفوسها انسياقٌ طبيعي للفضيلة، لكن المؤثرات الخارجية تخرجهم عن جادة الطريق، ووظيفة الحاكم هي قمع المؤثرات الخارجية الفاسدة التي تسبب انحراف الناس، والقائد الذي لا يستطيع أن يمنع المفاسد والشرور والمعاصي والظلم والبغي، هو قائد لا يستحق القيادة، ولا ينبغي له أن ينال شرف الإمارة، وعليه أن يترك الأمر لمن يصلح البلاد والعباد، وأمثله القادة الذين غيّروا شعبهم في وقت قليل في التاريخ كثيرة، منهم: عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين، وقطز، وألب أرسلان، ومحمد الفاتح، وغيرهم، وغيرهم.
وقبل كل هؤلاء معلمهم ومعلمنا، وقدوتهم وقدوتنا رسول الله ، فالرسول حرك بواعث الخير الموجودة أصلاً في داخل نفوس العموم من الناس، فاستجابت لدعوة الحق وآمنت، وتحركت وجاهدت وضحت، وسعدت بذلك في الدنيا والآخرة.
وليس مطلوبًا من القائد الصالح أن يجعل شعبه كله من عمالقة الإيمان -ولا يستطيعه- ولكن المطلوب منه أن يجعل قلوب العموم من شعبه تميل إلى الحق، وأن تحب الخير، وأن تقبل به وتتمناه، وأن تطيع الله فيما أمر، ومن هؤلاء العموم سيخرج له قليلٌ من هؤلاء العمالقة، سيحركون الآخرين، ويقودونهم، وبذلك تسير البلاد من وضع حسن إلى أحسن منه، وهكذا.
كيف تقوم الأمم وتبنى؟
من كلامنا السابق نستطيع أن نستنتج كيف تقوم الأمم وتُبنى؛ إذ الأمر يبدأ بمُرَبٍّ مخلص يربي مجموعة مختارة على الإيمان والعمل الصالح، ويزرع فيهم الفكرة التي من أجلها ستقوم الأمة، ثم يتزايد هذا العدد الذي يربيه قائدهم، ولكن يبقون في عداد القليل بالنسبة لمجموع الناس، وهؤلاء هم طبقة عمالقة الإيمان، ثم يأذن رب العالمين بالتمكين لهذا القليل بعد مراحل متعددة من الابتلاء والاختبار، ويأتي التمكين بصورة لا يتخيلونها، ومن طريق لا يتوقعونه، فإذا مُكِّنوا في الأرض فإنهم يستطيعون بفضل الله أن يُغَيِّروا معظم العموم من الشر إلى الخير، ومن الفساد إلى الصلاح.
وعادة ما يكون هذا التغيير سريعًا، فالجهد كل الجهد، والوقت كل الوقت، يكون في تربية طبقة عمالقة الإيمان، أما طبقة عموم الشعب فإنها تُرَبَّى في وقت سريع، وكما قال عثمان بن عفان : "إن الله ليَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن".
وهكذا تقوم أمة الإسلام؛ مُرَبٍّ يُرَبي عمالقة الإيمان، ثم ابتلاء، ثم تمكين، ثم تربية لعموم الناس واستجابة سريعة منهم.
فهاتان طبقتان أساسيتان من طبقات الأمم الصالحة، طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين الصالحين، وفي كلٍّ خير، وهما اللذان جاءا في قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فالذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا هم طبقة عمالقة الإيمان، والذين أنفقوا من بعد الفتح والتمكين وقاتلوا، هم طبقة عموم المؤمنين، وعلى الرغم من أن كلتا الطبقتين على خير، وعلى الرغم من أن كلتيهما موعودتان بالحسنى، إلا أنهما لا يستويان {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
الطبقة الثالثة: طائفة المؤمنين القاعدين
هي طبقة من المؤمنين الصادقين، ولكن من الذين غلبتهم شهوتهم، وانتصر عليهم شيطانهم، فأقعدهم عن أمر الله ، مع إيمانهم به، وهؤلاء من المؤمنين، بل أحيانًا يكونون من طبقة عمالقة الإيمان، ولكن كل إنسان يخطئ ويقعد، ويفتر ويكسل، قال فيما رواه ابن ماجه عن أنس : "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
فكل الناس يخطئ ويعصي، إلا المعصومين من الأنبياء والمرسلين فقط، وهؤلاء المخطئون قد يقعدون عن الجهاد في سبيل الله في وقت تَعَيُّنِه، ليس إنكارًا لأهميته، وليس استهزاء بالتشريع، ولكن لحظة من لحظات الضعف البشري المتوقعة.
وكلما ارتفع مستوى التربية في المجتمع، وكلما حرصت القيادة على أخلاقيات ومبادئ وقيم الأمة، قَلّت أعداد هذه الطائفة الثالثة، طائفة المؤمنين القاعدين مؤقتًا، أو طائفة المتخلفين عن الجهاد بدون عذر سائغ.
ومهما كان مستوى التربية راقيًا، ومتميزًا لا بد أن توجد هذه الطائفة، ويستحيل حقيقة أن يوجد مجتمع إسلامي مهما كان بدون هذه الطائفة، ولو كان هناك إمكانية لوجود مثل هذا المجتمع الخالي تمامًا من معصية بين صفوف المؤمنين، لكان هذا المجتمع هو مجتمع رسول الله ، ولكن هذا يستحيل فعلاً؛ لأن البشر ليسوا ملائكة، ولا يطلب منهم أن يكونوا ملائكة، ولكن يطلب منهم أن يتوبوا بسرعة إذا أذنبوا، وأن يشعروا بغُصّة في حلوقهم، وألم في قلوبهم، عند ارتكاب الذنب، مما يمهد بعد ذلك للتوبة.
ولكون التربية كانت متميزة فعلاً، بل مبهرة، فإن أعداد هذه الطائفة قَلَّت إلى درجة لا يتصورها إنسان، لقد تخلف عن الركب ثلاثة من أصل ثلاثين ألف مجاهد، أقل نسبة تخلف عن الجهاد في العالم بين صفوف المؤمنين بفكرة معينة، وهؤلاء الثلاثة هم من طبقة عمالقة الإيمان الذين سبقوا بإيمانهم، وجهادهم، وعملهم الصالح، ولكنها كانت هفوة لم تتكرر، وغلطة لم يعتادوا عليه، وذنبًا تابوا منه سريعًا، وهؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وقد أقعدهم النظر في أموالهم، والتسويف في أمر الخروج للجهاد.
ولا يقولن أحدٌ لَيْتهم خرجوا لتصبح نسبة الخروج بين الصف المؤمن مائة بالمائة، لأن هذا -كما ذكرنا من قبل- مستحيل، لو خرج هؤلاء لقعد غيرهم، وهذه رحمة من رب العالمين بنا نحن الذين نشاهد أحداث السيرة بعد مرور مئات السنين عليها، فلو كان الصف المؤمن يخرج بكامله دون استثناء لكان قعود أحد المؤمنين في زماننا -وهو أمر حتمي- كارثة نقف أمامها مكتوفي الأيدي، ولكن السيرة النبوية صيغت بعناية، ورسمت بقدرة إلهية عجيبة؛ ليحدث فيها كل ما يحدث في الأرض، وإلى يوم القيامة، وبالتالي نرى تصرف رسول الله في كل المواقف، ومن ثَمَّ نستطيع أن نتأسى به، ولتُحَقق الآية الكريمة الشاملة الجامعة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
هذه ثلاث طوائف مؤمنة برزت بوضوح في أزمة تبوك، وهي موجودة بدرجات متفاوتة في كل مجتمع مسلم:
- طبقة عمالقة الإيمان.
- طبقة عموم المؤمنين الصادقين.
- طبقة المؤمنين المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة.
وتقل أو تزيد نسبة كل طبقة حسب طريقة التربية، ومستوى الفَهْم عند كل جيل من الأجيال.
المنافقون وطبقاتهم
هل هذه فقط طبقات المجتمع المسلم التي تبرز عند حدوث الأزمات؟
لا، بقيت طبقتان خطيرتان، فالطبقات الثلاثة السابقة هي طبقات مسلمة مؤمنة، أما الطبقتان المتبقيتان فهما طبقتان مسلمتان، ولكن -للأسف- منافقتان.
ولا بد من وجودهما، فليس هناك مجتمع مسلم مُمكّن في الأرض بغير منافقين، ليست هناك دولة مسلمة في الأرض بغير منافقين، مهما بلغت درجه التربية، ومهما ارتفعت درجه تطبيق الشرع.
ولقد وجدوا أيام رسول الله ، ووجدوا بعد أيامه، وهم معنا في زماننا، وسيبقون إلى يوم القيامة.
والمنافقون طبقه خطيرة حقًّا، ولعلها أخطر من طبقة الكافرين ظاهري الكفر؛ لأنها طبقة في ظاهرها مسلمة، ويتكلمون بكلام المسلمين، ويتوجهون إلى قبلتهم، ولكنهم يبطنون الكفر بالله، والكراهية للإسلام، ويخططون ويدبرون ويكيدون لهدم دعائم الدين.
وهم ينقسمون إلى طبقتين:
الطبقة الأولى: طبقة عموم المنافقين
وهم الذين يتأثرون بقول غيرهم، ويسمعون أوامر ساداتهم، فيصبحون سوطًا في يد الجلاَّد، وعصًا في يد الظالم، وقلمًا في يد المزور والمدلس.
الطبقة الثانية: طبقة مردة المنافقين
وهي طبقة شديدة الخطورة، شديدة الخبث، وهم الذين يقودون حملات التشكيك في الدين، ويتزعمون فرق المنافقين الضالة التي تضمر الشر - كل الشر - للإسلام والمسلمين، وهؤلاء أخبث من الكفار، ومن الشياطين، لذلك قال الله في حقهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].
فهم أسفل طبقات المجتمع، وأسفل طبقات النار.
ولكون هذه الفرقة المنحرفة من المنافقين موجودة في كل زمان، فإن الله لم يشرع لرسوله الكريم أن يصرح بأسمائهم لعموم المؤمنين، ولكن ذكر صفاتهم وعلاماتهم فقط، وذلك لكي يتعرف المؤمنون على المنافقين في كل زمان، ولا يعتمدون على الوحي الذي سيغيب بعد وفاة الرسول إلى يوم القيامة.
صفات المنافقين وعلاماتهم
وصفاتهم تمتلئ بها صفحات القرآن الكريم، وتكثر في أحاديث الرسول الحكيم :
1- فمن صفاتهم أنهم يعتادون على الكذب في كل صغيرة وكبيرة.
2- ومن صفاتهم أنهم يستأذنون في عدم المشاركة في كل عمل يخدم الإسلام والمسلمين، فيعتذرون عن الجهاد، وعن العمل، وعن قول الحق، وعن الدعوة، وعن الإصلاح.
3- ومن صفاتهم إثارة الفتن بين صفوف المؤمنين؛ لينشب بينهم الصراع والضغينة.
4- ومن صفاتهم أنهم يفرحون إذا أصاب المسلمين مصابٌ أو أذى، ويحزنون إذا حصّل المسلمون خيرًا.
5- ومن صفاتهم أنهم يتكاسلون عن الصلوات.
6- ومن صفاتهم أنهم لا يصلون الفجر ولا العشاء في جماعة.
7- ومن صفاتهم أنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم شديدو البخل في الإنفاق على أمور الإسلام، مع كونهم كثيري الإنفاق على لهوهم ولعبهم.
8- ومن صفاتهم أنهم دائمو السخرية من الملتزمين بالدين.
9- ومن صفاتهم أنهم يتحدثون بغير أدب، ولا توقير عن رسول الله .
10- ومن صفاتهم أنهم يكرهون، وأحيانًا يسبون أصحاب الرسول .
11- ومن صفاتهم أنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
12- ومن صفاتهم أنهم ينهون الناس عن كل معروف، ويثبطونهم عن فعل كل خير.
13- ومن صفاتهم أنهم يأمرون الناس بفعل المنكر، ويشجعونهم على المعاصي.
14- ومن صفاتهم أنهم يخلفون الوعد، وينقضون الميثاق.
15- ومن صفاتهم أنهم يفجرون في الخصام والشقاق.
16- ومن صفاتهم أنهم يخونون الأمانة.
17- ومن صفاتهم أنهم يتحالفون مع أعداء الأمة ضد إخوانهم المسلمين.
18- ومن صفاتهم أنهم يتشبهون بالكفار، ويفخرون بذلك، ويستحيون من الانتماء إلى أمة الإسلام، وإلى المسلمين.
19- ومن صفاتهم أنهم يكثرون من الخطب الرنانة التي تحمل معاني عظيمة، وأخلاقًا رفيعة، ولكنهم لا يفعلون منها شيئًا، فهم يتحدثون عن الأمانة، وعن الشرف، وعن الإصلاح، وعن الحرية، وعن العمل، وعن الشورى، بل عن الجهاد، ولكنهم لا يفعلون من ذلك شيئًا أبدًا.
20- ومن صفاتهم أن ذكر الله لا يأتي على ألسنتهم إلا قليلاً.
21- ومن صفاتهم أنهم لا يحتكمون إلى كتاب الله ، إلا إذا كان سيحكم لهم، فإن كان سيحكم لغيرهم رفضوا حكمه.
22- ومن صفاتهم أنهم يفرون في المعارك، وعند الأزمات.
23- ومن صفاتهم أنهم يظهر عليهم الهلع الشديد، والرعب الدفين عند أول احتمال لحرب، أو أول توقع لغزو؛ وذلك لشدة جبنهم، وضعف يقينهم.
24- ومن صفاتهم أنهم يتوقعون دائمًا أنهم مقصودون بالحديث إذا ذُكر الأشرار والمنافقون، فلعل كلامك عام، ولكنهم يحسبون كل صيحة عليهم.
25- ومن صفاتهم أنهم دائمًا يتهربون من المسئولية، وينسبون الأخطاء إلى غيرهم.
26- ومن صفاتهم أنهم يمدحون دائمًا أصحاب السلطان، فإن ترك السلطان منصبه، انقلبوا بألسنتهم عليه.
27- ومن صفاتهم تضارب الأقوال، لأنهم كثيرو الكذب، فلا يعرفون ماذا قالوا قبل ذلك، وبماذا وعدوا.
28- ومن صفاتهم أنك إذا أعطيتهم صاروا أصدقاءك وأحبابك، وإن منعتهم لسبب أو لآخر، انقلبوا عليك، ونسوا ما فعلته من معروف.
29- ومن صفاتهم أنهم يقطعون أرحامهم، ولا يحفظون حقًّا لوالدٍ، ولا لأخ، ولا لابن، ولا لعشيرة.
30- ومن صفاتهم أنهم يكثرون من الحلف؛ لأنهم يعرفون أن الناس لا يصدقونهم، فيقسمون -ببساطة- بالكذب، ويحلفون بالله دون اكتراث.
فهذه ثلاثون كاملة، ومن أراد الزيادة فليعد إلى سورة التوبة، والأحزاب، والنساء، والمنافقون، ومحمد، والفتح، والحشر، والنور، والبقرة، وغير ذلك من السور التي تحدثت عن المنافقين.
إنهم فئة شديدة الخبث، كثيرة المطاعن، مثيرة للشبهات، داعية للفجور؛ لذلك كثر الحديث عن صفاتهم ليتبين المؤمنون أمرهم.
ومع ذلك فالرسول ما أقام حَدًّا، أو وَقّع عقوبة على منافق علم أنه منافق بصفته، أو حتى عن طريق الوحي، ليعلمنا أن نعامل الناس على الظاهر، ونترك القلب لله رب العالمين، ولكنه في الوقت ذاته عَرّفنا بصفاتهم؛ لنأخذ جانب الحذر في التعامل معهم، فلا نثق بوعودهم، ولا نبني أحكامًا على آرائهم، ولا نأمن جانبهم، ولا نصدق تحليلاتهم، والأمر كما قال الله في إيجاز معجز: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4].
فجعلهم الله العدو بالتعريف بالألف واللام، وكأنه ليس هناك عدو غيرهم، وذلك على الرغم من كثرة الأعداء من غير المسلمين، ولكنهم إذا قورنوا بالمنافقين كانوا لا شيء، ولذلك قال عنهم: (هُمُ الْعَدُوُّ) أي: هم العدو الحقيقي الخطير، وفسر لنا كيف التعامل معهم بكلمة واحدة موجزة معجزة هي الحذر، فقال: (فَاحْذَرْهُمْ).
وهكذا كان نهجه في حياته، يحذر المنافقين، ولكن يُجري الأحكام على ظاهرهم.
دور المنافقين في أزمة تبوك
ماذا فعل المنافقون في أزمة تبوك؟
أولاً: قرروا جميعًا التخلف عن الجهاد سواء بالمال أو بالنفس، قال الله I: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].
ثانيًا: لم يترك هذا التخلف أي ألم في قلوبهم، ولا أي حزن في مظهرهم، بل على العكس، سعدوا بمعصيتهم، وملأَهم السرور بجريمتهم، إلى الدرجة التي قال الله فيها: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ} [التوبة: 81].
ثالثًا: ثم إنهم لم يكتفوا بالتخلف، ولا بالفرح بهذا التخلف، ولكن بدءوا يثبطون المؤمنين الصادقين عن الخروج، واستخدموا في ذلك دعايات شتى، ووسائل متعددة، وذلك مثل قولهم: {لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81].
ومثل قولهم للصحابة: أتحسبون جِلاد بني الأصفر (أي الروم) كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الحبال؛ لذلك يقول الله في حقهم: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب: 18].
رابعًا: كان موقفهم من المؤمنين الذين أنفقوا في سبيل الله شديد الخبث، فهم يطعنون في كل المتمسكين بالدين مهما كان فعلهم، فإذا أتى غنيّ من المسلمين بمال، قالوا: إنما أنفقه رياءً. وإذا أتى فقير بمال قليل بحسب قدرته، سخروا من قلة عطائه، واستهزءوا به، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
خامسًا: بل إن منهم من تجاوز ذلك، وبدأ يبحث عن بعض الأدلة الشرعية -أو التي يتوهم أنها شرعية- للتخلف عن الجهاد، ولإثارة الشبهات بين المسلمين، وذلك كما فعل الجَدُّ بن قيس أخو بني سَلِمَةَ، الذي رفض الخروج إلى تبوك لقتال الروم بزعم أنه يحب النساء، ونساء الروم جميلات، ويخشى أن يُفْتن بهن، فادعى أنه من ورعه وتقواه وتقييمه للأضرار، اختار -في زعمه- أخف الضررين، وهو التخلف عن الجهاد؛ ليحمي نفسه من فتنة النساء، وفيه نزل قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
سادسًا: ومنهم من قام بخطة أشد خبثًا، وهي أنه قرر الخروج مع الجيش الإسلامي لمسافة ما، ثم يرجع من منتصف الطريق، لعله يسحب معه عند الرجوع عددًا من المسلمين الصادقين، وكان ممن قام بهذا العمل الخبيث عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول زعيم المنافقين، وهو الدور نفسه الذي قام به في غزوة أُحُد قبل ذلك بستة أعوام.
سابعًا: أما أشد المنافقين شرًّا، فقد قرروا الخروج مع المسلمين إلى آخر المطاف؛ لبث الفتنة طوال الرحلة، والكيد للمسلمين ولرسول الله ، وسنعرض لبعض أفعالهم أثناء الحديث عن رحلة تبوك.
ونلاحظ في كل ما سبق أن المنافقين كانوا يحاولون الالتزام بالقانون العام في الظاهر، فلا يتخلفون عن الجهاد إلا باستئذان، وذلك لإيهام الجميع أنهم لا يزالون مسلمين ملتزمين بأمر الرسول ، وكان الرسول يأذن لهم بالقعود اقتناعًا منه أنه لن يجاهد إلا من رغب حقيقة في الجهاد، ولكن رب العالمين عاتبه في ذلك وقال: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]. فلو أنه رفض إذنهم لقعدوا برغم رفضه لقعودهم، وهنا كانت أوراقهم ستكشف أمام المسلمين، فيعلم المسلمون أمرهم عن بينة.
كان هذا طرفًا من أعمال المنافقين في المدينة أثناء أزمة تبوك، ومع كل الأضرار التي يحدثها المنافقون إلا أنه يبقى أشد خطر لهم هو تغيير اقتناع بعض المؤمنين الصادقين بفكرتهم، فيصل الأمر إلى أن يطيع بعض المؤمنين كلام المنافقين ظنًّا منهم أن هذا هو الصواب، وفي ذلك يقول الله : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
فبعض المؤمنين لا يستمع إلى المنافقين فقط، بل يكثر السماع، لأن "سمَّاع" صيغة مبالغة تفيد كثرة السماع، وليس ذلك لضعف يقين، أو لشك في القلب، ولكن لقوة الشبهة، ومهارة الصياغة، وحلاوة اللسان، وبلاغة القول، وقد يقع المؤمنون بسبب هذه الشبهات في أخطاء جسيمة، وكبائر عظيمة، ما كانوا يتخيلون الوقوع فيها، ولكن أحيانًا للقول فعل السحر في الإنسان، ولذلك يقول رسول الله -فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا".
ومع ذلك لا يجب أن يحزن المؤمن إذا شاهد كثرة المنافقين في زمان من الأزمان، وتبجحهم وظهورهم في وسائل الدعاية والإعلام، والكلام بشكل فاضح معلن، فإن ذلك يحمل خيرًا عظيمًا، ومن هذا الخير أنه يكشف أوراقهم، ويظهر نياتهم المختفية في صدورهم، فيحذرهم المسلمون، ومن هذا الخير أيضًا أن ظهورهم بكثافة دليلٌ على قوة الأمة الإسلامية وصلابتها؛ فالدولة الضعيفة لا تُنَافق، ولكنهم ينافقونها حين يشتد عودها، وتقوى شكيمتها، فإذا رأيت المنافقين كثرة، فاعلم أن الإسلام بخير، وأن قوته قد بلغت حدًّا يدفع الآخرين إلى نفاق المسلمين.
كان هذا هو الوضع في أزمة تبوك، لقد تميز الصف بوضوح إلى هذه الطبقات الخمس التي يتألف منها أي مجتمع مسلم في أي زمان، وفي أي مكان، ولكن بنسب متفاوتة.
وبرغم كل معوقات المنافقين إلا أن الجيش العملاق تجهز بفضل الله، ووصل عدده إلى ثلاثين ألف مقاتل مسلم، وهذا أكبر جيش إسلامي حتى هذه اللحظة.