في الطريق إلى خيبر
وقوف يهود خيبر ضد الإسلام
خيبربعد أن قام النبي بمراسلة قادة وزعماء العالم، وإعلان العالم كله بهذا الدين الجديد، قام الرسول بفتح ملف خيبر. وخيبر -كما نعلم جميعًا- هي من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود مع الرسول بصفة عامَّة أسود، بل شديد السواد، وهذه السِّمة قد وَسَمَتْ كل فترات المعاملات، سواء في السِّلم أو في الحرب.
وكانت هناك معاهدة مع يهود المدينة المنورة: يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ولكن اليهود كان دأبهم الخيانة، وكان الأصل في الأمور والأصل في التعامل هو خيانة اليهود المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام. ثم تطور الأمر -كما تعلمون- إلى معارك حقيقية بين المسلمين ويهود القبائل الثلاثة، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبقَ من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر، وما حولها من تجمعات أصغر منها، مثل تجمع تيماء وتجمع فدك ووادي القرى، ولكن التجمع الرئيسي كان تجمع خيبر؛ وهذا التجمع الكبير كان من أكبر التجمعات اليهودية مطلقًا، والذي ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر.
وإذا كنا قد رأينا من قبل أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول -بلا استثناء- كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن عَلاقة يهود خيبر بالرسول لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم بالكيد للدولة الإسلامية الموجودة في المدينة المنورة.
وكان من أخطر محاولات ومؤامرات خيبر مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فيما عُرف بغزوة الأحزاب، وكوَّن يهود خيبر وفدًا كبيرًا جدًّا مكوَّنًا من عشرين زعيمًا من زعماء خيبر بالاشتراك مع بعض زعماء بني النضير، وبدءوا يجمعون القبائل العربية الكبرى مثل قريش وغطفان وغيرها لتحفيز هذه القبائل لحرب المسلمين، مع أنه لم تكن هناك علاقة مباشرة بين يهود خيبر ورسول الله . ولم يكتفِ يهود خيبر بدور التنسيق بين الأحزاب بل بذلوا المال أيضًا، فقد اتفقوا مع قبائل غطفان على أن يدفعوا لهم نصف ثمار خيبر؛ وذلك حتى يدفعوهم دفعًا لاستئصال المسلمين.
ونحن نعلم أن قبائل غطفان مثل المرتزقة يحاربون بالمال، لقد ضحت خيبر بنصف ثمارها حتى تدفع غطفان لحرب المسلمين، وكان لهم دور كبير جدًّا في إقناع بني قريظة بخيانة عهد رسول الله ، وأوشك هذا الأمر أن يؤدي إلى كارثة حقيقية، لولا أن الله لطف بعباده المؤمنين. ورغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا قَطُّ عن محاولاتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتخابر مع المنافقين في المدينة المنورة حتى يدبروا مؤامرات كيديَّة بالمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول .
فهذا التاريخ الطويل من الكيد والدسِّ والمؤامرات كان يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل أن تكون الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، ولكن هذا لم يكن متيسرًا في ذلك الوقت؛ لأن الرسول كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، فمن الممكن أن تجمع العرب من جديد، وتحاصر المدينة المنورة وتقتحمها، إضافةً إلى أن الرسول لا يريد أن يترك المدينة المنورة بدون جند، وخاصةً أن حصون خيبر كانت شديدة الحصانة والقوة، وأعداد اليهود كانت كبيرة، والرسول كان متوقعًا أن فتح خيبر سوف يأخذ وقتًا طويلاً؛ لذلك لم يكن يريد أن يترك المدينة حتى يأمن جانب قريش؛ ولذلك أَجَّل قضية يهود خيبر حتى تأتي الفرصة المناسبة.
الظروف تتهيأ لفتح خيبر
جاء الوقت الذي ينتظره الرسول ، فبعد صلح الحديبية تغيرت الأوضاع، وأمن الرسول جانب قريش، فقد وضعت الحرب -كما تعلمون- بين الدولتين مدةَ عشر سنوات كاملة، وكان أول شيء فكر فيه الرسول بعد صلح الحديبية هو التوجُّه إلى خيبر؛ وذلك من أجل استغلال هذه الهدنة التي عقدها مع قريش في تأمين المدينة المنورة. وكان الرسول سريعًا في الخروج إلى خيبر، لدرجة أنه خرج بعد أقل من شهر من عودته من صلح الحديبية، فقد خرج في محرم سنة 7هـ إلى خيبر لفتحها.
الأسباب التي جعلت الرسول يسارع بفتح خيبر
كانت هذه السرعة لأهدافٍ يريدها الرسول :
1- كان يريد حفظ كرامة الأمة الإسلامية، فلا يتأخر الثأر لكرامتها كثيرًا، ووقفت الظروف سنة كاملة أمام تأديب اليهود على كيدهم للمسلمين، والظروف قد انتهت الآن، فلا بد من الإسراع لحفظ كرامة الأمة الإسلامية بالردِّ على اليهود.
2- كان الرسول لا يأمن غدر قريش وحلفائها؛ لذلك يريد الرسول أن يأخذ هذه الخطوة قبل أن تفكر قريش في الغدر أو تستعد له. ومنها أيضًا أن خبر صلح الحديبية وصل حتمًا إلى يهود خيبر، وقد يتوقعون هجومًا من المسلمين، فكان الإسراع أفضل قبل أن يستعدَّ اليهود.
3- أراد رسول الله أن يرفع معنويات المسلمين المنكسرة بعد صلح الحديبية؛ لأنهم لا يدركون الخير من وراء هذا الصلح، فأراد الرسول أن يعوضهم بهذا الفتح القريب.
4- وفوق كل هذه الأسباب أن الله I كان قد بشَّر المؤمنين أن هناك مغانم كثيرة سيحققونها بعد صلح الحديبية، ونزل هذا في سورة الفتح التي نزلت بعد الصلح، ولعل هذه الغنائم تكون غنائم خيبر، كما قال الله تعالى في سورة الفتح: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20].
أي صلح الحديبية، والمغانم الكثيرة هي مغانم خيبر، وغير خيبر من الفتوحات الإسلامية التي جاءت بعد هذا الصلح العظيم.
الرسول يحتاط من غدر المنافقين
كان الرسول يخاف من خيانة المنافقين في داخل المدينة المنورة، وقلنا قبل ذلك إن المنافقين كانوا يتعاملون مع اليهود، وكانت العلاقة بينهما حميمة من أيام بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والآن ثبت أنهم يتعاملون أيضًا مع يهود خيبر، والرسول لا يريد من المنافقين أن يخرجوا معه في هذا الجيش، فماذا يفعل؟ فهو لا يستطيع أن يقول للمنافقين لا تخرجوا؛ لأن النفاق هذا أمر قلبي، فأعلن الرسول أنه لا يخرج إلى خيبر إلا من شهد صلح الحديبية، وبذلك ضمن أن كل من سيشارك في فتح خيبر سيكون من المؤمنين؛ لأن هذه المجموعة التي شاركت في صلح الحديبية جميعها من المؤمنين، كما قال الله : {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
فهؤلاء جميعًا مشهود لهم بالإيمان، وخرج الرسول بألف وأربعمائة مقاتل، وهم الذين كانوا في صلح الحديبية، ونحن قد رأينا أن الصفَّ المؤمن إذا كان خالصًا نقيًّا مؤمنًا فإن الله يعطي له النصر، وهذا الصف -وهو خارج من المدينة- يعلم أن نصر الله سيحالفهم؛ فخرج هذا الجيش العظيم بهذه الروح الطيبة المتفائلة، برغم أنهم سيحاربون أعدادًا ضخمة، فأعداد اليهود كانت أضعاف أضعاف الجيش الإسلامي، ومع ذلك خرج الكل بتصميم على أن النصر -إن شاء الله- سيكون في ركاب المسلمين، يقول الله I في كتابه الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
التحالف بين المنافقين واليهود وغطفان
وخرج الجيش الإسلامي، وكما توقع الرسول أرسل المنافقون إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول إلى خيبر، بل شجَّعوهم على قتال الرسول ، وقالوا لهم: لا تخافوا منهم، فإن عددكم وعُدَّتَكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، لا سلاح معهم إلا قليل.
ووصلت الرسالة إلى أهل خيبر، واستعدَّ أهل خيبر، ولم يكتفوا بالاستعداد والتحصن، بل أرسلوا أحد زعماء اليهود -وكان اسمه كِنانة بن أبي الحُقَيْق، وهو أخو سَلاَم بن أبي الحقيق الذي قُتل من عدة أشهر على أيدي المسلمين- إلى قبائل غطفان، وهي قبائل مرتزقة، وتقاتل من أجل الأموال، وعرضوا عليهم المال؛ لكي يساعدوهم ويعاونوهم في حرب المسلمين، وعرضوا عليهم نصف ثمار خيبر. وبالفعل بدأت قبائل غطفان في الاستعداد للخروج في اتجاه خيبر، وأعدوا جيشًا كبيرًا جدًّا لهذا الأمر، وبفضل الله اكتشفت مخابرات الرسول هذا التحرُّك لغطفان، وبسرعة أخذ الرسول عدة قرارات حتى يأمن عملية اجتياح خيبر:
1- أخرج رسول الله سرية بقيادة أَبَان بن سعيدٍ في اتجاه أعراب نجد حتى يثير الرهبة في هذه المنطقة، فلا تجرؤ غطفان ولا غير غطفان على مهاجمة المدينة المنورة؛ لأن المدينة -كما نعلم- خالية تقريبًا من الرجال، فأمَّن الرسول بذلك المدينة المنورة.
2- أرسل الرسول سرية في الشمال الشرقي إلى ديار غطفان؛ ليوهم جيش غطفان أنه سيغزو ديار غطفان وليس ديار اليهود، وأمر هذه السرية أن تُظهِر أمرها، وأن تظهر شأنها ولا تتخفَّى، وتُحدِث صوتًا عاليًا حتى تلفت أنظار جيش غطفان ويعودوا إلى ديارهم، ولا يشتركوا مع يهود خيبر في الدفاع عن خيبر. وبالفعل عندما سمع جيش غطفان وراءه الصوت، انطلق مسرعًا راجعًا إلى دياره، وترك يهود خيبر في حرب الرسول منفردين.
3- وغيَّر الرسول الطريق المعروف لدخول خيبر، وأخذ بعض الأَدِلَّة لتدله على طريق آخر؛ ليدخل خيبر من شمالها وليس من جنوبها؛ لأننا نعرف أن المدينة المنورة في جنوب خيبر، فبدلاً من أن يدخل خيبر من الجنوب، دخلها من الشمال، وحقق بذلك شيئين:
أولاً: سيحول بين غطفان وبين خيبر بجيشه.
ثانيًا: سيمنع اليهود من الفرار إلى الشام، فيحصر اليهود في منطقة خيبر؛ لأن الطريق إلى الشمال سيكون مغلقًا بالجيش الإسلامي.
فكان التخطيط العسكري على أعلى مستوى، وتظهر في الجيش الإسلامي ملامح الجيش المنصور؛ فالجيش بكامله من المؤمنين الصادقين كما رأينا، حتى لو كان هؤلاء قلة، فإنهم ينتصرون بإذن الله . والجيش كله مرتبط ارتباطًا وثيقًا، ويجمعهم رباط العقيدة، ونحن قد رأينا غطفان وهي تتخلى عن اليهود؛ لأنه لا يجمعهم غير المصالح الدنيوية، أما الجيش الإسلامي الذي يتكون من قبائل الأنصار والمهاجرين وغير ذلك من القبائل التي دخلت مع الرسول في المدينة المنورة، يجمعهم الإيمان بالله ، والحرص على الشهادة في سبيل الله.
أخذ الرسول بالأسباب، وأعَدَّ الخُطَّة والعُدَّة والخطط البديلة، وتغيير الاتجاه وإرسال العيون؛ وبذلك أخذ المسلمون بأسباب النصر المادية.
المسلمون يتوجهون إلى خيبر
اقترب الرسول من خيبر، وكان هذا الاقتراب في الليل، والرسول كان من عادته ألاّ يقاتل بالليل، فكان ينتظر حتى يأتي الفجر، ثم يقاتل بعد الفجر ؛ فاختار مكانًا قريبًا من خيبر وعسكر فيه، وكان هذا المكان قريبًا من مجموعة حصون موجودة في خيبر اسمها حصون النَّطَاة، ولكن جاء إليه الحُبَاب بن المُنْذِر ، وقال له: إن هذا المنزل قريب من حصن النطاة، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بَيَاتهم. وأيضًا هذا المكان بين النخلات، وهو غائر وأرض وَخِيمة، ومن الممكن أن يتسلل اليهود من خلال النخيل، ولا يدرك المسلمون هذا التسلل، ولو أمرت بمكان خالٍ عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا. فقال : "أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ"[1].
وغيَّر المسلمون المكان إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر ، وهو نفس الموقف الذي قام به الحباب قبل ذلك في موقعة بدر، وبذلك نرى عظمة النبي في الأخذ بمبدأ الشورى، وأخذ الرأي، وكيف كان ذلك سببًا في النصر. وبالفعل استقر الرسول وجيشه في المكان الجديد.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة، بيروت، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص20.