غزوة خيبر (2-2)
اليهود ينتقلون إلى حصون منطقة الشق
فتح خيبروبعد هذه الفتوح انتقل اليهود إلى الحصن الذي يليه، وهو حصن (قلعة أُبَيّ) أَحد حصون منطقة الشَّقِّ. ونحن نعلم أن منطقة النطاة قد فتحت كلها، وبقي منطقة الشق، وكان فيها حصنان هما أُبَيّ والنزار، ودار قتال عنيف أيضًا حول قلعة أُبَيّ، وبنفس الطريقة حصار ثم قتال ثم هرب لليهود إلى داخل الحصن الذي يليه، وهو حصن النزار وهذا هو الحصن الخامس، ووقف الرسول محاصِرًا لهذا الحصن عدة أيام، ولكن هذا الحصن كان أمنع حصون هذا الشطر مطلقًا؛ لذلك وضع اليهود في هذا الحصن أطفالهم ونساءهم وأموالهم، وظن اليهود أنه من المستحيل أن يفتح.
وبالفعل استمر الحصار فترة طويلة من الزمان قياسًا إلى الحصون التي قبله، وما استطاع الرسول أن يفتح الحصن. وهنا لجأ الرسول إلى طريقة جديدة في الحرب، فقد أخرج المنجنيق، وكان المسلمون قد استولوا على المنجنيق من بعض الحصون اليهودية السابقة، ويقال: إنها كانت في حصن الصعب بن معاذ. ونصب الرسول المنجنيق وبدأ يضرب حصن النزار، حتى أحدث المسلمون خللاً في داخل بعض الجدارن في هذا الحصن، ومن هذا الخلل تسلل المسلمون إلى داخل الحصن، ودار قتال من أعنف أنواع القتال في معركة خيبر الرهيبة. وكما ترون استمر اللقاء فترة من الزمان، وكتب الله النصر للمسلمين للمرة الخامسة، وفتح المسلمون الحصن العظيم حصن النزار.
سقوط حصون الكتيبة في يد المسلمين
حصن الوطيحهرب اليهود إلى حصون المنطقة الأخرى، وكان اسمها حصون (الكتيبة)، وتركوا خلفهم النساء والأطفال وكل شيء، وانتقل الرسول إلى منطقة الكتيبة، وهي منطقة واسعة، فيها ثلاثة حصون كبيرة، وهي القَمُوص وحصن الوَطِيح وحصن السُّلاَلِم، وكانت هذه الحصون من الحصون المنيعة، وتحصن فيها اليهود، ولكن اليهود كانت قد أصابتهم هزيمة نفسيَّة كبيرة نتيجة للهزيمة في أكثر من موقعة في خيبر؛ لأن خيبر لم تكن مجرَّد لقاء عابر، فقد دار القتال في عدة مواقع متتالية في مكان واحد حصن تلو الحصن كما نرى، حتى فتح المسلمون خمسة حصون صعبة دون هزيمة واحدة؛ لذلك فإن خيبر محفورة في أذهان اليهود، وفي أذهان المسلمين على السواء، ومن أعظم انتصارات المسلمين على الإطلاق، وسماها الله في كتابه الكريم بالفتح القريب، قال الله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13].
وبدأ المسلمون في حصار أول الحصون، وهو حصن القموص، واستمر الحصار أربعة عشر يومًا متصلة، واختلف الرواة فيما حدث في هذا الحصن، هل دار قتال بعد هذا الحصار أم سَلَّم اليهود دون قتال؟ والثابت أن الحصنين التاليين -وهما حصن الوطيح وحصن السلالم- قد سَلَّما دون قتال.
اليهود يطلبون الصلح مع الرسول
طلب اليهود بعد عدة أيام أن ينزلوا على الصلح، وأن يدخلوا في نوع من المفاوضات مع رسول الله ، وقَبِل أن يتفاوضوا في هذا الأمر، وكان الذي نزل للتفاوض هو كِنانة بن أبي الحُقَيْق -أخو سلام بن أبي الحقيق الذي قتله المسلمون قبل ذلك- وقال كنانة بن أبي الحقيق: أنزلُ فأكلمك؟ فقال الرسول : "نَعَمْ".
فنزل ودار بينهما حوار طويل، وكانت خلاصة المفاوضات في صالح المسلمين مائة في المائة، فقد صالح اليهود الرسول على حَقْن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المُقَاتِلَةِ والذرية والنساء، على أن يتركوا خلفهم الديار والسلاح والأموال والذهب والفضة، ويخرجوا بملابسهم فقط في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقًا. والحقيقة أن الانتصار كان كبيرًا بالنسبة للمسلمين، وشَرَط الرسول في هذه المعاهدة عليهم شَرْطًا مهمًّا، فقال: "وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا". أي: لو أن اليهود أخفوا أي شيء من الأموال أو من الذهب أو الفضة، فيجوز للرسول أن يقتلهم بهذا الإخفاء للمال أو للذهب أو للفضة. وبالفعل قبلوا هذا الأمر، وبدأ اليهود بالخروج من خيبر.
كنانة بن أبي الحقيق يخفي أمواله
اكتشف الرسول أن كنانة بن أبي الحقيق قد أخفى مالاً، وذكر له ذلك أحد اليهود، فأُتِي بكنانة بن أبي الحقيق، وقال له الرسول : "هَلْ أَخْفَيْتَ مَالاً؟"
فقال: لا.
فقال : "أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ، أَأَقْتُلُكَ؟".
قال: نعم.
فأمر بالبحث في أرضه، وكان أحد اليهود قد عيَّن مكانًا معينًا، وقال: إن كنانة أخفى المال في ذلك المكان. سبحان الله! وبحثوا في هذا المكان فوجدوا كَنْزًا كبيرًا من المال، وقُتِل كنانة بن أبي الحقيق نتيجة مخالفته للمعاهدة التي كانت مع المسلمين، وسُبِيت امرأة كنانة بن أبي الحقيق.
الرسول يتزوج صفية بنت حيي بن أخطب
وكانت امرأة كنانة بن أبي الحقيق هي صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها الرسول ، وأصبحت من أمهات المؤمنين. ولنا وقفة مع زواج الرسول من السيدة صفية رضي الله عنها. وبداية الأمر أن السيدة صفية عندما أُخذت في السبي، أخذها أحد أصحاب رسول الله وهو دِحْية الكلبي ، فأتى إليه أحد الصحابة وقال له: إن هذه بنت ملك، ولا يجوز أن تكون إلا لرسول الله ؛ فتزوجها الرسول . والحقيقة أن في زواج الرسول من السيدة صفية حكمة كبيرة، ومن هذه الحِكَم أنه رفع درجة السيدة صفية، فهذه بنت ملك أو بنت زعيم من زعماء اليهود، وزوجة زعيم من زعمائهم، فلا يجب أن تُعطى هكذا إلى أي إنسان من المسلمين، فرفع قدرها وعظم من شأنها وتزوجها هو ، بعد أن أعلنت إسلامها.
ثم إن في هذا استمالة لقلوب اليهود عندما يكون بينهم وبين زعيم الدولة الإسلامية أو نبي هذه الأمة عَلاقة نسب، فهذه قد ترقِّق قلوب اليهود وتفتح قلوبهم للإسلام. ثم إنه بذلك الزواج سيمنع الخلاف بين الصحابة؛ لأن أحد الصحابة جاء إليه وقال: "أعطيت دحية الكلبي صفية بنت حيي سيِّدة قريظة والنضير؟"[1]. فقد ينظر أحد الصحابة إلى أنه قد أعطى أحد الصحابة شيئًا قد يناسب النبي أو غيره من عموم الصحابة، وبذلك قطع الخلاف بين الصحابة أجمعين، وهذه كانت بداية خير كبير للسيدة صفية، وأصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها، وروت الكثير والكثير عن رسولنا الكريم .
اليهود يدبرون مؤامرة لقتل الرسول
هل امتنع كيد اليهود بعد هذه الغزوة، وبعد هذا القتال المرير الذي دار في عدة أيام، والذي بلغ شهرًا أو أكثر من شهر؟ لم يكفّ اليهود عن ذلك، بل استمروا في المؤامرات والكيد والدس إلى درجة أنهم فكروا في قتل الرسول قبل أن يغادروا خيبر؛ فقد اجتمع اليهود ودبروا محاولة لقتل الرسول ، والجميع يعلم قصة الشاة المسمومة، ونحتاج هنا إلى أن نقف وقفة مع هذه الشاة لنرى ردَّ فعل الرسول لهذا الأمر؛ فاليهود قد اجتمعوا على محاولة اغتيال رسول الله بعد انتصار خيبر، وقد اتفقوا جميعًا على ذلك، وليس تفكيرًا من امرأة واحدة كما تروي بعض الروايات.
والحقيقة أن الروايات كلها صحيحة ولا بد من الجمع بينها، فهناك رواية في صحيح البخاري تقول: إن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة، فأكل منها الرسول ، فجيء بهذه المرأة إلى الرسول فسألها عن ذلك، فقالت: أردتُ لأقتلك. فقال: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ"[2]. وفي بعض الروايات أن هذه المرأة هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم الذي قتله المسلمون قبل ذلك، فأرادت أن تنتقم لزوجها القتيل ولقومها بصفة عامَّة. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري، ويروي هذه الرواية أبو هريرة ، يقول: "لما فتحت خيبر، أُهدِيت لرسول الله شاة فيها سَمٌّ، فقال رسول الله : "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ". فجُمعوا له، فقال لهم رسول الله : "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟"
فقالوا: نعم يا أبا القاسم.
فقال لهم رسول الله : "مَنْ أَبُوكُمْ؟"
قالوا: أبونا فلان.
فقال رسول الله : "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ".
فقالوا: صدقت وبررت.
فقال: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟".
فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
قال لهم رسول الله : "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟".
فقالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفوننا فيها.
فقال لهم رسول الله : "اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا".
ثم قال لهم: "فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟".
قالوا: نعم.
فقال: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟".
فقالوا: نعم.
فقال: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟"
فقالوا: أردنا إن كنتَ كذَّابًا نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرك[3].
فقد اجتمع اليهود على جعل السم في الشاة ليقتلوا الرسول ، ثم أعطوا هذه الشاة لامرأة سلام بن مشكم لتعطيها لرسول الله ، وهذا -دائمًا- دأبُ اليهود الخيانة والغدر، فهل نتعلم من تاريخهم مع المسلمين في العهد النبوي؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
الرسول يعفو عن اليهود !!
الرسول بعد هذا الموقف -واعتراف اليهود اعترافًا صريحًا بأنهم دبروا لقتله - عفا عنهم جميعًا؛ وهذا من أبلغ مواطن الرحمة في حياته ، بل إنه عفا عن المرأة التي قدمت له الشاة، وسُئِل مباشرة ألا تقتلها؟ قال: "لاَ". ولم يقتل المرأة، وكان أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور قد أكل مع رسول الله وقت أكله من الشاة المسمومة، وكما هو مشهور أن الشاة المسمومة قالت لرسول الله : "لا تأكل مني؛ فإني مسمومة"[4]. فالرسول لَفَظَ الشاة وأمر الصحابة ألاّ يأكلوا، ولكن هذا الصحابي بشر بن البراء بن معرور كان قد ابتلع قطعة من اللحم من هذه الشاة المسمومة فمات بها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور ، أقام رسول الله الحدَّ على المرأة التي قَدَّمت الشاة، فقتلها به. وبالجمع بين الروايات نجد أنه من كل أرض خيبر لم تقتل إلا امرأة واحدة؛ لأنها قتلت رجلاً من المسلمين أكل من الشاة المسمومة.
موقعة خيبر في الميزان النقدي
عند مقارنة هذه المعركة العظيمة بكل معارك الأرض، يتبين لنا أنها من أرحم المعارك وأقلها في الخسائر البشرية. وفي نظرة سريعة إلى الحرب العالمية الثانية نجد أن ألمانيا قد قُتل منها عشرون مليونًا، معظمهم من المدنيين: تسعة عشر مليونًا، ونجد أن هذا تكرر في معظم المعارك الأخرى؛ فقد قتل في هيروشيما ونجازاكي ربع مليون وكلهم من المدنيين، رجال ونساء وأطفال، لكن شتَّان بين حروب المسلمين وحروب غير المسلمين!
ولعل هذه فرصة لنعرض عدد مَن قُتل في هذه المعركة من اليهود، فقد قُتل ثلاثة وتسعون من اليهود، ففي هذا اللقاء الشديد والحروب المستمرة قتل من اليهود ثلاثة وتسعون، واستشهد من المسلمين ستة عشر إلى ثمانية عشر بحسب اختلاف الروايات، وترك اليهود غنائم ضخمة، وتركوا أموالهم وديارهم، وتركوا أراضي كبيرة من النخيل، وقد كانت خيبر بلادًا غنية بالزراعة، فتركوا كل هذا وراءهم وبدءوا في عملية الخروج.
ثم إن اليهود بعد قرار المعاهدة، وقرار الخروج من خيبر، قدموا عرضًا لرسول الله ، وقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم. فالأرض كبيرة، والصحابة لم يكن لهم علم كبير بالزراعة، وهذه أراضٍ بعيدة عن المدينة المنورة، واليهود يستطيعون أن يزرعوا هذه الأرض، وأن يُخرِجوا منها إنتاجًا وفيرًا، فقالوا: دعنا نقوم على إصلاح هذه الأرض، ثم نقيم معاهدة بيننا وبينكم على اقتسام هذا المزروع. وفكر الرسول ، فوجد أن هذا العرض مناسب للمسلمين، فأقر اليهود على ذلك على أن يعطيهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله أن يقرهم؛ أي يظلوا في خيبر بأمر رسول الله ، فإذا أمر في يوم من الأيام بخروج اليهود من خيبر فعليهم أن يخرجوا، وهو ما تمَّ بعد ذلك في عهد عمر بن الخطاب .
وانتهت المعركة بهذا الأمر، وبدأ الرسول يقسِّم غنائم خيبر الكثيرة على المسلمين، لدرجة أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول كما روى البخاري: "ما شبعنا حتى فتحنا خيبر"[5].
وتقول السيدة عائشة -رضي الله عنها- كما جاء أيضًا في البخاري: "لما فُتِحت خيبر قلنا الآن نشبعُ من التمر"[6].
فكان فتح خيبر نصرًا عظيمًا حققه المسلمون.
وغنم الرسول في غزوة خيبر صحائف التوراة، ومع أنه يعلم أنها محرَّفة تمام التحريف، وأنها قد أزيلت عنها البشارات التي تبشر به ، وأنه قد اعتدى اليهود فيها كثيرًا على حرمات الله ، إلا أنه سَلَّم هذه الصحائف كاملة لليهود عندما طلبوها منه، ولم يحرق هذه الصحف، وسمح لهم بالمعتقد الذي يعتقدونه، وإن كان يعلم أنه معتقد فاسد تمامًا، وهذا من سعة الصدر عند المؤمنين، والله قال في كتابه الكريم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وهذه القصة واردة وثابتة، وشهد بها الجميع، بل وشهد بها المستشرقون أيضًا.
ويجب ألاّ ينسى المحلِّل لهذه الغزوة أنها من أوَّلها إلى آخرها جاءت عقابًا لليهود على خياناتهم المتكررة، وتأليبهم لجميع القبائل العربية على حرب المدينة المنورة، ومحاولاتهم المستمرة لاستئصال أهل المدينة المنورة، واغتيال الرسول ؛ أي أن هذه الموقعة كانت عقابًا لليهود على جرائم سابقة فعلها اليهود، وقبول الرسول بخروجهم أحياء هذا تَفَضُّلٌ منه ، وكان من حقه أن يعاملهم بالمثل، ويعاملهم بالقصاص، ويقتل الرجال الذين يقاتلون منهم، ولكن أقيمت المعاهدة على هذا المعنى، والمستشرقون في الغرب يقولون ويعلقون على موقعة خيبر بأن اليهود قد ظُلموا فيها، وأن هذا من الشر في الحروب، ومن التجاوز في المعاملة؛ ولكن هذه طبيعة الحروب، فاليهود كانوا منذ لحظات حريصين تمام الحرص على قتل المسلمين.
والناظر إلى تاريخ الحروب في الأرض يجد أن حروب الرسول هي من أرحم الحروب على الإطلاق في تاريخ الإنسانية، ولننظر إلى عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية، وأعدادهم التي تقدر بالملايين، ولكن الرسول ما قتل مدنيًّا قَطُّ في حياته ، بل كان يأمر الناس أن يغزوا في سبيل الله، على بركة الله، لا يقتلوا شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأةً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا من لم يقاتل المسلمين، وكان يفرِّق بين الكافر الذي يقاتل المسلمين وبين الكافر الذي لا يقاتل المسلمين، بل أمر الله رسوله أن يُبلِّغ الكافر الذي لا يقاتل المسلمين مَأْمَنَهُ؛ حتى يسمع كلام الله فيعرفَ الحق وتُقام عليه الحُجَّة.
نتائج فتح المسلمين لخيبر
عندما سمع اليهود الذين هم في أماكن أخرى بعيدة أو قريبة من خيبر بأنباء خيبر، بدءوا يفكرون تفكيرًا جديًّا في التسليم لرسول الله ، ومن هؤلاء اليهود يهود فَدَك الذين قبلوا أن ينزلوا على نفس الصلح الذي نزلت عليه يهود خيبر، على أن يكون لهم النصف من الثمار مثلما جرى مع يهود خيبر. وكذلك اليهود في وادي القرى قاوموا في البداية بعض المقاومة، ثم إنهم بعد ذلك قبلوا بنفس الصلح، وكذلك يهود تيماء؛ وبذلك حيَّد المسلمون جانب اليهود تمامًا في الجزيرة العربية، ورجع الرسول بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنورة في أواخر صفر أو أوائل ربيع الأول سنة 7هـ؛ أي أنه ظل أكثر من شهر في منطقة خيبر، كما توقع أن يقضي وقتًا طويلاً في خيبر، وبذلك تخلص المسلمون نهائيًّا من خطر اليهود.
فإذا أضفنا إلى هذا التخلص ما حدث في صلح الحديبية من تحييد جانب قريش، نجد أن معظم القوى الموجودة في الجزيرة قد تعامل معها الرسول .
ولم يبقَ من قوةٍ في الجزيرة إلا قوة غطفان، التي -وإن وجَّه إليها الرسول بعض السرايا- تحتاج هي الأخرى إلى وقفة جادة، وتصرُّف حكيم وسريع من رسول الله .
[1] البخاري: أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يذكر في الفخذ (364). مسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (1365).
[2] رواه مسلم (2190)، وأبو داود (4508).
[3] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم (2998).
[4] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/397.
[5] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (4000).
[6] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3999).