غزوة الخندق (غزوة الأحزاب)
مجيء الأحزاب ومقاومتهم
وصل في شوال عام 5هـ إلى حدود المدينة المنورة عشرة آلاف مقاتل مشرك من قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم، ولم يكتف رسول الله بحفر الخندق، بل جمع الصحابة ثلاثة آلاف، ونظم نقاط الحراسة للخندق، وفرق للقتال، وكتائب للمقاومة، حتى يمنع المشركين من تخطي الخندق تحت أي ظرف.
وكان وقع المفاجأة مهولا على المشركين، إنها مكيدة ما عرفها العرب من قبل في فنون القتال، لقد أعدوا العدة لكل شيء، إلا أمر هذا الخندق المدهش.
بدأ المسلمون في رشق المشركين بالنبال لكي يمنعوهم من عبور الخندق أو ردمه، وحاول المشركون بكل ضراوة أن يقتحموا الخندق، ونجح بعضهم فعلا في العبور من مكان ضيق في الخندق بفرقة على رأسها أحد أبطالهم اسمه عمرو بن عبد ود، ومعه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، ولكن تصدى لهم المسلمون، حيث حدثت مبارزة رهيبة بين عمرو بن عبد ود وعلي بن أبي طالب حتى قتله البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب، وهرب بقية الرجال الذين جاءوا معه، وتكررت محاولة المشركين مرة واثنتين، وعشرة، وتصدى أسيد بن حضير في كتيبة من مائتي مسلم لفرقة فرسان خالد بن الوليد واستطاع أن يردهم منهزمين
كان الصراع يدور لفترات طويلة حتى أنه في أحد الأيام ظل المسلمون يدافعون عن الخندق من قبل صلاة العصر إلى ما بعد المغرب فضاعت عليهم صلاة العصر، وكان هذا الحدث فريدًا في السيرة، وانزعج المسلمون بشدة لأنهم أضاعوا الصلاة، وقال كما جاء في البخاري عن علي : "مَلأَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهَمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ".
بل إن مسند أحمد والشافعي ذكرا أن الكفار أضاعوا على المسلمين في يوم آخر صلاة الظهر والعصر والمغرب، فصلاها المسلمون جميعا مع صلاة العشاء.
كانت المقاومة فعلاً شرسة، وأصيب فيها بعض الصحابة، وطال الحصار.
لم يكن يومًا أو اثنين، ولا أسبوعًا أو اثنين، بل لمدة شهر كامل، وكان الموقف صعبًا على المسلمين، كما كان صعبًا على الكافرين.. {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104].
خيانة بني قريظة
وأسقط في أيدي الكافرين، واحتاروا في كيفية حل موقفهم ذلك، حتى جاءهم الحل أخيرًا، وكان من عند اليهود.
فاليهود مثلما جمعوا هذه الأعداد كلها ما زالوا يفكرون في استئصال المسلمين، وبدءوا يفكرون في الطريقة التي تمكنهم من ذلك، وكان مع المشركين أحد زعماء اليهود، وعتاتهم وهو حيي بن أخطب، وكان من أشدهم كفرًا وحقدًا وغلاًّ وحسدًا، فكر في الأمر، فلم يجد له مخرجًا إلا في يهود بني قريظة.
بنو قريظة كما ذكرنا كانوا في الجنوب الشرقي للمدينة، فلو فتحوا الباب من جهتهم لدخول المشركين المدينة، لانتهت المدينة، فماذا يحدث لو حاربوا مع المشركين، وراقت تلك الفكرة للمشركين جدًّا، ولم يتبق إلا إقناع بني قريظة بمخالفة العهد مع رسول الله، والسماح للمشركين بدخول المدينة لاستئصال الشعب المسلم بكامله، وذهب حيي بن أخطب لأداء مهمته القذرة والتقى بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يرجعوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه.
قال كعب: جئتني والله بذل الدهر، ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقًا ووفاءً.
لكن حيي ظل يكلم كعبًا ويزين له، ثم وعده إن تخلت قريش وغطفان عنه أن يدخل معه في حصنه، ويتحمل معه ما يحدث بعد ذلك.
وتحت تأثير شيطان بني النضير وقع شيطان بني قريظة، وقرر التحالف مع المشركين لتنفيذ ما ذكره حيي: لا نبرح حتى نستأصل محمدًا ومن معه.
وقضى التحالف ليس فقط بفتح باب للمشركين لدخول المدينة، بل وتجهيز فرق عسكرية للحرب ضد المسلمين. كارثة! المدينة على أبواب هلكة قريبة.. ماذا يحدث لو تمكن عشرة آلاف مسلح إضافةً إلى يهود بني قريظة من اقتحام المدينة؟ لا أحسب أن أحدًا كان سيبقى حيًّا في المدينة آنذاك.
يجب أن نضع هذا الأمر في اعتبارنا لكي نفهم رد فعل الرسول على بني قريظة لِمَا بدر منهم من خيانة.
على الفور نقلت المخابرات الإسلامية إلى رسول الله نبأ خيانة اليهود له، نعم، كان رسول الله على حذرٍ من اليهود، يعلم أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولذلك وضع عليهم هذه المراقبة.
وخبروني بالله عليكم: هل من قبيل المصادفة أن يخون مائة بالمائة من اليهود في تعاملهم مع الرسول ؟ هل من قبيل المصادفة أن يظهر الانحراف في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟
لا شك أن هذه ليست مصادفة ولا شك أن هذا الواقع لا بد أن ندركه جميعًا، ذكره ربنا I في كتابه حيث قال: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
هكذا في كل مرة، يجب أن يخونوا، ويغدروا، وهذه ليست مصادفة، هذه قاعدة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، لا عهد لهم ولا ذمة.
وصل الخبر للرسول ، وقبل أن يتخذ أي قرار أراد أن يستوثق من الخبر، أرسل مجموعة من الصحابة للتأكد، فيهم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وغيرهم، وقال لهم أمرًا في غاية الأهمية قال: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْ لاَ؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ وَلاَ تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ".
هذه هي الحكمة النبوية، والقيادة الذكية، كثيرًا ما ينشر المسلمون أخبار خطط وتسليحات وإمكانيات العدو على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، فيشعر المسلم المشاهد لذلك أنه لا أمل، ويحبط، وييئس من المقاومة، لكن الرسول r يعلمنا أنه ليس كل ما يعرف يقال.
ذهبت المجموعة الإسلامية إلى بني قريظة، ولما تكلموا معهم جهر يهود بني قريظة بالسوء، وسبوا الرسول وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
رجع الصحابة بسرعة إلى رسول ، وقالوا: عضل وقارة. أي غدر كغدر عضل وقارة بالصحابة عند ماء الرجيع.
حزن الرسول حزنًا شديدًا لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وفكر فيما سيحدث.
ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: "اللّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ".
يحاول قدر المستطاع أن يرفع من همة الصحابة .
انتشار خبر خيانة بني قريظة
وعلى الرغم من محاولاته لتجنب انتشار الخبر إلا أن الله شاء للخبر أن ينتشر، وهذا لحكمة واحدة، الابتلاء والتنقية والتمييز بين صفوف المؤمنين وصفوف المنافقين.
كل ما حدث من الأحزاب وحصار المدينة كان درجة من درجات الابتلاء، أما الآن فقد وصل المسلمون إلى ما أسميه بمرحلة الزلزال، المرحلة التي يزلزل فيها المسلمون زلزالاً لا يثبت فيه إلا الصادقون حقًّا، أما المنافقون مهما كانت درجة نفاقهم فلا شك أنهم سيقعون، وصف الله هذا الأمر في سورة الأحزاب حيث قال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10، 11].
مرحلة الزلزال، مرحلة خطيرة، لا بد منها قبل أن يأتي النصر، ولكن إذا أتت فمعناها أن النصر قريب إن شاء الله.
وفي الآية الأخرى، يقول : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
لكن المنافقين طبعًا وضعهم مختلف، المشركون من حول المدينة واليهود. لا أمل مطلقًا في نظرهم في النجاة {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب:12].
وكان أحدهم يقول: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وبدأ المنافقون في التسرب من الصف.. الفرار {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13].
بدأ الصف المسلم، والحمد لله، ينقى من الشوائب، من المنافقين، وهذا كله من مبشرات النصر.
والرسول قائد عملي، يجب أن يأخذ ردود أفعال واقعية، الجيش الإسلامي في حراسة الخندق في شمال المدينة، في منطقة خارج المدينة المنورة، النساء والأطفال في داخل المدينة، واليهود إلى جوارهم، فأول ما فكر فيه رسول الله إرسال مجموعة من الجنود لحماية النساء والأطفال.
والجدير بالذكر أن ما يروى من قصة دفاع السيدة صفية -رضي الله عنها- عن الحصن ضد اليهود، ورفض حسان بن ثابت أن يهاجم اليهودي هذه القصة لا أساس لها من الصحة، السند فيها منقطع، وفيها طعن لا يصح في صاحبي جليل.
أرسل رسول الله فرقة لحماية لجبهة الداخلية للمدينة المنورة، ويجب أن نفكر في الموقف الجديد بسرعة، لقد أصبح الحصار الآن من قريش وغطفان واليهود ماذا نفعل؟
يتوجب على المسلمين بدايةً فك هذا التحالف الرهيب، فكيف يتم ذلك الأمر؟ ومع أي جهة نبدأ؟ مع قريش أم مع اليهود أم مع غطفان؟
محاولة الرسول فك التحالف
فكر رسول الله في فك التحالف من خلال العرض المادي، والإغراء بالمال. المنطق يقول إن أي محاولة مع قريش ستفشل، فالعداء طويل، وهم أصلاً لم يأتوا من أجل المال، وكذلك الوضع مع اليهود؛ لأن حقدهم على الرسول كبير جدًّا، كما أنهم خونة، لا يمكن الاطمئنان إلى كلامهم، لم يتبق إلا غطفان، هذه القبيلة التي لم تأتِ ناقمة على رسول الله، وليس بينه وبينها عداء، وإنما جاءت من أجل مال خيبر، أي أنه من الممكن أن تنسحب، أو تفك ارتباطها بالباقين إذا أعطيت مالاً.
وفعلاً عقد لقاءً مع زعماء غطفان: عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، لا تذكر المصادر تفاصيل ذلك اللقاء، لكنه يبدو أنها كنت فرصة، فرصة سريعة جدًّا، لدرجة أن الرسول لم يجد وقتا لإشراك الصحابة في اللقاء أو أن اللقاء كان على مستوى عالٍ جدًّا من السرية، فلم يشرك فيه أحد من الطرفين، المهم أن اللقاء تم بين الرسول ممثلاً للمسلمين، وعيينة بن حصن والحارث بن عوف ممثلين عن غطفان، وبعد مشاورات ومداولات، استقر الطرفان على إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة على أن تعود غطفان وتترك حصار المسلمين، لكن الرسول علق هذه المفاوضات على قبول مجلسه الاستشاري للفكرة، وخاصةً سعد بن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فلماذا هذان الرجلان بالذات؟
أولاً: لأنهما قريبان في مساكنهما في المدينة من غطفان، ومن ثَمَّ فهما أدرى الناس بهم وبما يصلح معهم.
وثانيًا وهو الأهم: أن ثمار المدينة هذه التي ستكون ثمنا لفك الحصار ليست ملكًا للرسول ، وإن كان هو زعيم الدولة، وإن كان هو النبي ، ولكنه يحترم تمامًا الملكية الشخصية للأفراد، وهذه الثمار ملكية شخصية للأوس والخزرج.
ولهذا بعد اجتماع الرسول مع زعماء غطفان، قام باجتماع آخر بسرعة مع السعديْن: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وعرض عليهما الاتفاق الذي وصل إليه مع زعماء غطفان، وكان رسول الله يعتقد أن هذا العرض عرض مغرٍ لإنقاذ المدينة من الحصار (كان هذا بعد نحو شهر من الحصار)، فماذا كان رد فعل زعيمي الأوس والخزرج؟
لقد رحبا بالعرض بدايةً، ثم قال سعد بن معاذ بمنتهى الحكمة: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟
إذ إنه لو كان أمر من الله أو رسوله لما جاز له أن يفكر فيه أو يناقشه أصلا، فلا بد من السمع والطاعة، أما إن كان رأيًا بشريًّا فيمكننا حينئذٍ مناقشته، وعرض الرأي فيه.
فقال لهم رسول الله : "بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلاَّ لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ". فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء مع الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا أو فيضًا، أفحينما كرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف وحتى يحكم الله بيننا وبينهم.
هكذا تكون عزة المسلم، أعجب الرسول برأي سعد جدًّا على الرغم من مخالفته لرأيه، وقال له: "أَنْتَ وَذَاكَ".
فأمسك سعد بن معاذ بالصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وراسل رسول الله زعماء غطفان، وأعلمهم برأي المجلس الاستشاري ورفض المساومة.
والحقيقة أن رأي السعدين كان في منتهى العمق والحكمة، ليست نظرة عنترية غير مدروسة بل هي رؤية إستراتيجية رائعة، فمستقبل المدينة قد يتحدد بهذه المفاوضات فليست المشكلة فقد ثلث ثمار المدينة، ولكن المشكلة أن غطفان ستحقق انتصارا غير مقبول على الدولة الإسلامية، وستهتز صورة الدولة الإسلامية أمامها وستهتز أمام الجزيرة العربية بكاملها، وهؤلاء ليسوا من الزعماء النبلاء الشرفاء، بل هم مجرد مرتزقة مأجورين، وسيفتح هذا الباب الابتزاز المستمر للمدينة المنورة كلما احتاجوا إلى مال جاءوا المدينة. أما هذه الوقفة الصلبة الجريئة فإنها -ولا شك- ستهز غطفان من الأعماق، وبالذات أنهم لا يفكرون إلا في المال والدنيا، وطالِب الدنيا ضعيف، ضعيف جدًّا أمام طالب الآخرة.
ويجب ألا ننسى أن ديار غطفان قريبة من المدينة، وقريش إن آجلاً أو عاجلاً ستعود إلى ديارها بمكة، أما غطفان فباقية، ولهذا يجب أن نحافظ جيدًا على صورة قوية راسخة أمامهم، وهكذا كان القرار في منتهى الحكمة، وأقره الرسول دون تردد، وليعلم الجميع أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وكان من الممكن جدًّا أن يوحي الله I بهذا الرأي إلى رسوله مباشرة، ولكن حدوث هذه القصة بهذه الصورة يفتح للمسلمين أبواب الفكر والإبداع وإبداء الرأي لمصلحة الأمة الإسلامية.
ابتلاء سعد بن معاذ
وكأن الله أراد أن يختبر الصدق في كلام سعد بن معاذ ، فحدث أمر شاق على المسلمين كثيرً، ولكنه كان حلمًا لسعد بن معاذ.
لقد أصيب سعد بن معاذ البطل الإسلامي الشاب ، أصيب بسهم في ذراعه أو كتفه وكانت الإصابة شديدة خطيرة.
وكانت أزمة فوق الأزمات، وهذا زعيم الأوس وهذا حكيم المسلمين وهذا المطاع في قومه وهذا الحبيب ليس فقط لرسول الله بل لله رب العالمين، سعد بن معاذ قيمة كبيرة جدًّا في الإسلام، كانت أزمة كبيرة جدًّا، فماذا كان رد فعل سعد لهذه الإصابة؟ شاب يصاب إصابة قاتلة وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ماذا يقول؟
قال سعد يدعو الله: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدًا أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدُهُمْ فِيكِ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنَّنِي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي لَهُمْ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكِ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا".
يا الله! شاب عنده 37 سنة يرجو الله ألا يموت حتى يجهز على قريش، ويتمنى ألا يلتئم جرحه لكي يموت شهيدًا، عندما يصبح الموت أمنية.
هذه موتة شهيد، يدعو الله ألا تفوته فرصة الشهادة في سبيل الله.
ثم قال في آخر دعائه: "وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ".
حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية.
وكفى الله المؤمنين القتال
تأزم الموقف جدًّا لم يعد في الصف المسلم أحد من المنافقين، وبذل المسلمون جهدهم كله، حفروا الخندق في وقت قياسي، تحملوا في سبيل الله الجوع والبرد، حموا الخندق، ودافعوا عنه بأرواحهم، قاتلوا بضرواة، تعبوا، كافحوا ، قاموا بالمشاورات، واجتهدوا في الدعاء؛ لأن النصر من عند الله.
كان المسلمين يدعون الله تعالى أيام الأحزاب يقولون: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. وكان الرسول يقول: "اللُّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ".
بعد أن بذل المسلمون كل طاقتهم، ووسعهم ومحاولاتهم، يأتيهم نصر الله، ولا شك، ويأتيهم بطريقة إلهية، وترتيب رباني، حتى يعلم الجميع، ويوقنوا أن النصر من عند الله، وجاء جنود الرحمن في الأحزاب، وسأختار منهم ثلاثة جنود فقط من جنود الرحمن نتحدث عنهم.
الجندي الأول: نعيم بن مسعود
نعيم بن مسعود رجل من المشركين لا يتوقع إسلامه أبدًا في هذا التوقيت، بل يكاد يكون مستحيلا، ذلك أنه من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، كيف لرجل من الجيش القوي المحاصر للمسلمين، بعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمين في أي لحظة وخاصة بعد خيانة اليهود، كيف له أن يترك جيشه القوي لينضم لجيش المسلمين الضعيف المهدد بالانهيار في أي لحظة؟!
جاء نعيم بن مسعود إلى الرسول يقول له: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت.
فقال رسول الله : "إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ".
ولم يأمره بشيء يعمله، ولكن يشاء الله أن يلهمه بفكرة لم ترد على ذهن أحد من المسلمين، ولا رسول الله نفسه، ونعيم بن مسعود شخصية معتبرة قيادية معروف عند اليهود وعند قريش، فذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وقال لهم، وهم يحسبونه مشركً، ويعلمون أنه من قادة غطفان، فله معرفة بواقع الأمور وما يجري خلف الأبواب، قال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت. قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، ولا تقدرون أن تتحملوا منه إلى غيره، وإن قريشًا قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدًا، فانتقم منكم.
فقالوا: وما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم ذهب نعيم إلى قريش مباشرةً، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. فقال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمدٍ وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم.
ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم نفس الكلام.
قريش شعرت بالقلق وكذلك غطفان، أرسلوا رسالة سريعة إلى اليهود وبتدبير رب العالمين كانت يوم السبت، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فاعتلت اليهود بالسبت وقالوا: لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن.
قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود، وقالوا: إنا والله لا نرسل إليكم أحدً، فانهضوا معنا نناجز محمدًا.
فقالت اليهود: صدقكم والله نعيم.
فدبت الفرقة بين الفريقين، وتفتت الأحزاب، وهكذا، بحكمة الله وتدبيره، يسلم نعيم بن مسعود في هذا الوقت، ويلهمه الله بالفكرة التي ينجح بها في تفتيت الأحزاب، ورد كيدهم.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
الجندي الثاني: الريح
والريح جندي هائل من جنود الرحمن، وربنا I بعث ريحًا شديدة وقاسية البرودة على معسكر الكافرين لم تترك لهم خيمة إلا واقتلعتها، ولم تترك قِدرًا إلا قلبته، ولم تترك نارًا إلا أطفأتها، ووصلت شدة الريح وخطورتها إلى الدرجة التي دفعتهم لأخذ قرار العودة دون قتال وفك الحصار.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
لماذا لم تأت الريح منذ اليوم الأول؟! لماذا انتظرت شهرًا كاملا؟!
كان ذلك لكي يمتحن المؤمنين، ويتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن الصادق من المنافق.
ولماذا لم تهلكهم هذه الريح تمامًا مثلما أهلكت عادًا وثمود؟ لأن كثيرًا من هؤلاء الكفار سيسلمون بعد ذلك، ويتكون منهم جيش الإسلام.
سبحان الله! الكون يجري وفق نواميس غاية في الدقة والإعجاز.
الجندي الثالث: الملائكة
يقول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]
وسنرى فيما بعد في حديث بني قريظة أن الملائكة شاركت في الحرب بل شارك جبريل بنفسه.
هزيمة الأحزاب
وتم نصر الله وأرسل رسول الله حذيفة بن اليمان إلى معسكر الكفار ليطمئن على سير الأحداث، وعلى فعل الرياح بهم وعلى أثر الفرقة التي أحدثها نعيم بن مسعود ، فعاد حذيفة بالخبر الجميل وبالنصر العظيم.
لقد عزم الجميع على الرحيل.
كل ذلك بدون قتال.
قال I: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
وانتهت واحدة من أعظم معارك المسلمين مع أنه لم يحدث فيها قتال، وكان الله يريد أن يقول لنا، ليس المطلوب هو تحقيق النصر، ولكن المطلوب هو العمل من أجله، المطلوب هو قرار الجهاد، والثبات في أرض المعركة، المطلوب هو صفات الجيش المنصور، أما النصر فينزل بالطريقة التي يريدها رب العالمين، وفي الوقت الذي يريده الله .