أهمية غزوة الأحزاب
حسد الكفار للمسلمين وخوفهم منهم
استكان المنافقون في المدينة بعد تحركات المسلمين السابقة، ورضخوا لأوامر النبي ، وكتموا الكفر بداخلهم. أما اليهود فقد تحركت مخاوفهم، فلا يزال بنو قريظة داخل المدينة المنورة، ومع أنهم أعلنوا التزامهم بالمعاهدة إلا أنهم أخذوا يخافون من قوة المسلمين، بل انتقل زعماء بني النضير إلى خيبر مثل سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب؛ لذلك نتوقع وقوع خطر كبير يأتي من هذا التجمع الكبير لليهود في خيبر؛ لأنهم رأوا تناقص اليهود في المدينة المنورة، فبعد القضاء على اليهود في المدينة سوف يتوجه المسلمون إلى خيبر.
وبدأت قريش تشعر بالخطر بعد عدم خروجها إلى بدر الصغرى في شوال 4هـ، وعدم القدرة على مواجهة المسلمين، إضافةً إلى انقطاع تجارة قريش عن بلاد الشام بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، هذا إضافةً إلى أن القبائل التي تحيط بالمدينة المنورة بدأت تشعر بالخطر والقلق، مثل قبائل غطفان وبني سُليم وبني هُذيل وبني لِحْيان، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين في ماء الرجيع وبئر معونة. إضافةً أيضًا إلى بني فزارة، وهم فرع من بني سُليم وقائدهم عيينة بن حصن، الذي وادعه رسول الله ، فنراه ينقلب على المسلمين. كل هذه العوامل تنذر بخطر كبير على المسلمين، فالكل يترصد بهم، ويعمل على إبادتهم، ولكن الله لا يترك عباده المؤمنين أبدًا.
اليهود وتحالف الأحزاب
في كل المعارك السابقة كان المسلمون يقاتلون كل قوة على حدة، والعرب لا يتجمعون أبدًا، فهم قبائل متفرقة، ولم يُعرف عن العرب التجمع إلا مرة واحدة، وكانت في الجاهلية في اليوم المعروف (يوم ذي قار) الذي انتصر العرب فيه على الفرس، أما ما عدا ذلك فلم يعرف عن العرب أن تجمعوا بعد يوم ذي قار، فكل قبيلة تعمل من أجل مصالحها الشخصية، وفي تجمع هذه القبائل أزمة كبيرة على المسلمين، فهذا شيء مستغرب.
ولكن من قام بدور تجميع القبائل العربية هم اليهود، مع أنهم لم يشتركوا في القتال، فهذا دور يجيده اليهود من عصر النبي وحتى يومنا هذا؛ فدائمًا اليهود يؤلِّبون الآخرين على حرب دعوة الحق، ثم بعد ذلك لا يشتركون في القتال، وهذا دور ينفذه اليهود بمهارة واحتراف، فهم يحرضون الولايات المتحدة على حرب المسلمين في العراق، والتدخل في جنوب السودان، وتحريض روسيا على حرب المسلمين في الشيشان، وغير ذلك كثير، فهذا دأب اليهود في كل العصور والأزمان.
خرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب، وتوجه الوفد إلى قريش لإغرائها بحرب المسلمين، وأن هذه فرصة لجمع كل القبائل لقتال المسلمين، وبدأت قريش في تجميع المقاتلين، فتجمع أربعة آلاف مقاتل، ثم انتقل اليهود من قريش إلى غطفان لإغرائهم إلى قتال المسلمين، وتخوفت غطفان من حرب المسلمين، مع أنهم قبائل كثيرة وقوية، وقام اليهود بإغراء غطفان بالأموال؛ فرغم بخل اليهود بالمال -وهذا شيء معروف عنهم- إلا أنهم في الصدِّ عن سبيل الله ومحاربة الإسلام ينفقون ببذخ؛ فقد عاهد اليهود غطفان وعيينة بن حصن - الذي عاهد رسول الله ثم نقض عهده الآن - على أن تكون لهم ثمار خيبر مدةَ عام، وخيبر كانت غنية جدًّا، فضحوا بكل هذا من أجل هزيمة المسلمين، وإلحاق الأذى بهم. ووافقت قبائل غطفان بعد أن أغراهم اليهود بالمال على أن يعملوا على تجميع ستة آلاف مقاتل، فيكون مجموع الأحزاب عشرة آلاف مقاتل، وهذا عدد ضخم وكبير، فكيف سيواجه المسلمون هذه المحنة؟
وطار الخبر المرعب إلى المدينة المنورة، ولعل هذا هو أخطر الأنباء التي وصلت إلى المدينة المنورة منذ بداية الدولة الإسلامية في المدينة وحتى الآن؛ فالعرب إذا وصل عددهم إلى ألفٍ يفتخرون، حيث يقول أحدهم: "إنا لنزيد على الألف، ولن يغلب ألف من قلة". وهنا قال المؤمنون الصادقون كما أخبر الله في كتابه الكريم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
فالله قد أخبرهم بقيام تحالف ضدهم، وهذا ما تحقق، ولكن وعدهم بالنصر. وعلى الجانب الآخر فقد ارتعد المنافقون من هذا التجمُّع، وكيف يحاربون هذا التجمع الكبير، فنزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
قرر المنافقون عدم القتال مع المسلمين؛ لأنهم لا يؤمنون بقدرة الله في تحقيق النصر. إنهم خطر كبير على الأمة، ويتربصون بها الدوائر، ويتمنون اليوم الذي يأتي ولا يرون المسلمين في المدينة.
فالمسلمون -فعلاً- يواجهون محنة كبيرة، فلا بد أن يكونوا على استعداد تام لقتال هذه الجموع المشركة والظالمة، فإن ثبت المسلمون وخرجوا من هذه الأزمة منتصرين فسوف يُكتب لهم السيادة والسيطرة في الجزيرة كلها؛ فلذلك استبشر المسلمون بهذه الأزمة على ضخامتها؛ ففي بدر ظلت الأزمة تتصاعد وتتصاعد حتى وصلت إلى أقصاها في شهر شعبان، وبعدها بشهر في رمضان 2هـ خرجوا إلى بدر بصفات الجيش المنصور، فانتصر المسلمون بعد الصدام المروع في بدر، والآن توجد أزمة كبيرة مع المشركين والصدام أصبح قريبًا، وصدق القائل:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها ... فُرِجت وكنت أظنها لا تُفرج[1]
فالنصر أصبح قريبًا لأن الأزمة وصلت إلى أشدها، وبعد أن يصل الليل إلى ذروة الظلام يأتي نور الفجر؛ فقد أحاطت جيوش التحالف بالمدينة، كما يحيط السِّوَار بالمِعْصَم، ومع ذلك أخرج الله المسلمين من أزمتهم منتصرين.
كيف كان ردُّ فعل المسلمين تجاه هذه الأزمة؟
كيف اتخذوا قرارات لم تؤخذ من قبل في تاريخ العرب جميعهم؟
كيف ظهر أمر المنافقين في كل لحظة من لحظات المعركة؟
كيف ردَّ الله الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيرًا؟
إنها دروس عظيمة نتعلمها من السيرة النبوية العطرة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
أهمية غزوة الأحزاب
غزوة فارقة
تُعَدّ غزوة الأحزاب من أهم الغزوات التي مرت بالمسلمين خلال سنوات المدينة المنورة العشر، ليس فقط لخطورتها أو صعوبتها أو لانتصار المسلمين فيها، ولكن لأنها كانت غزوة فارقة بين مرحلتين رئيسيتين من مراحل الحياة في المدينة المنورة.
وضع المسلمين قبل الغزوة
فالوضع داخل الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل وأثناء غزوة الأحزاب لم يكن مستقرًّا أبدًا، فقد كانت المخاوف تأخذ المسلمين من كل جانب، وكانت القلاقل والاضطرابات تموج بالمدينة في كل يوم وفي كل ساعة، وكانت جموع الضلال والكفر تكيد للمسلمين في كل لحظة، وتجعل حياتهم سلسلة مضنية من الآلام والجراح والمكائد والفتن، وكانت جموع الضلال هذه تضم المدارس الفكرية والعقائدية المختلفة والمتشعبة في الجزيرة العربية، ففيها العرب المشركون سواء من قريش أو من غيرها، وفيها الأعراب حول المدينة، وفيها اليهود بكل جموعهم وقبائلهم، وفيها المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.
كل هذه الجموع كانت تؤجج نيران الفتنة في المدينة المنورة، وتجعلها وكأنها تعيش على أتُونٍ ملتهب لا يدع لمسلم وقتًا لراحة أو استقرار.
والذي يحلل الأوضاع قبل غزوة الأحزاب في السنة الخامسة يجد أن المسلمين كانوا قد حققوا انتصارًا باهرًا في غزوة بدر، ولكن هذا الانتصار المبهر أُتبع بثلاث مصائب كبرى، كانت أشهرها مصيبة أُحد، التي تحدثنا عنها بالتفصيل قبل ذلك، واستشهد سبعون من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم أُتبعت هذه المصيبة بمصيبتين خطيرتين؛ وهما مصيبة (ماء الرجيع) التي قتل فيها عشرة من المسلمين، ومصيبة (بئر معونة) التي قتل فيها سبعون من المسلمين. وكانت هاتان المصيبتان الأخيرتان بعد شهور قليلة جدًّا من غزوة أُحد، وذلك معناه أن المسلمين فقدوا في خلال أربعة أو خمسة أشهر مائة وخمسين من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهذا رقم هائل بالنسبة للجماعة المسلمة في ذلك الوقت.
والمحلل للأحداث أيضًا قبل الأحزاب يجد أن المسلمين حققوا انتصارين كبيرين على قبيلتين من قبائل اليهود، وهما بنو قينقاع وبنو النضير، وتم إجلاؤهما من المدينة المنورة، لكن ما زال الوضع غير مستقر حتى بعد إجلاء هاتين القبيلتين الكبيرتين؛ فزعماء بني النضير وعلى رأسهم حيي بن أخطب ما زالوا أحياءً، وقد هاجروا إلى خيبر في شمال المدينة، وهم يضمرون كل الشر للمسلمين، ولن يهدأ لهم بال إلا بالكيد للرسول وأصحابه. وغير زعماء بني النضير، فهناك القبيلة الخطيرة بنو قريظة، التي ما زالت تقبع في الجنوب الشرقي للمدينة المنورة، وهي قبيلة ذات حصون وقلاع وسلاح ورجال.
وهي وإن كانت تعاهد المسلمين معاهدة دفاع مشترك عن المدينة وحسن جوار، إلا أنهم كعامَّة اليهود لا أمان ولا عهد لهم.
وهكذا فالوضع قبل الأحزاب، وأثناء الأحزاب كان في غاية الخطورة وعدم الاستقرار.
وضع المسلمين بعد الغزوة
استمرت غزوة الأحزاب شهرًا كاملاً، وكانت فيها أحداث كثيرة مثيرة ومتشعبة، ثم انتهت الغزوة برحيل المشركين وأعوانهم وانتصار المسلمين - على قلتهم وضعفهم - انتصارًا عجيبًا، ووجه العجب أنه كان انتصارًا دون قتال تقريبًا، وذلك كما قال ربنا في كتابه: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
ومع ذلك سمعنا تعليقًا عجيبًا أيضًا من رسول الله بعد الأحزاب، أثبتت الأيام بعد ذلك مدى عمقه وقدرته على وصف الأحداث.
قال الرسول ، كما جاء في البخاري تعليقًا على انتهاء غزوة الأحزاب: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ"[2].
وفعلاً بانتهاء غزوة الأحزاب استقر الوضع في المدينة المنورة، وما عادت تخاف من أي تهديد، وما فكر أعداء الله في غزوها بعد ذلك، بل كانت الجيوش الإسلامية تخرج منها إلى كل مكان في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة.
والخلاصة
لقد كانت غزوة الأحزاب غزوة فارقة في حياة الأمة الإسلامية، وغزوة محورية في بناء الكيان الإسلامي الراسخ.
وغزوة بهذه القيمة وبهذه الآثار، لا بد أن تدرس بعناية، وتحلل بعمق؛ لنستخرج منها الأسس التي على أساسها تم هذا النصر المبين، ولنعرف الضوابط الشرعية التي حكمت الجماعة المسلمة في هذه الفترة الحرجة من حياة الأمة.
وتستمد دراسة غزوة الأحزاب أهمية خاصة في زماننا الآن؛ وذلك لكثرة الأحداث التي تشبهها، فما أكثر الأحزاب التي تحزبت ضد أمة الإسلام في زماننا الآن! وما أكثر الشبه بين هذه الأحزاب الحديثة وبين الأحزاب التي تجمعت أيام رسول الله ! سواء من ناحية طرق التجميع، أو من ناحية المدارس الفكرية، أو من ناحية الخطة والتنظيم.
تشابه كبير جدًّا بين الماضي والحاضر، وهذا يعطي أهمية قصوى لمراجعة مصادرنا الأصيلة في تحليل الأحداث، وأهم هذه المصادر مصدران هما الكتاب والسنة؛ ففي كتاب الله عز وجل تعليق مباشر عميق معجز عن غزوة الأحزاب، وقد ترك الله عز وجل في هذا التعليق ذكر الأسماء والشخصيات ليتحدث عن سمات عامة وأصول ثابتة لتصلح بعد ذلك هذه التعليقات لكل زمان ومكان، وكذلك في السنة المطهرة، فقد مر الرسول في حياته بعد البعثة بكل المتغيرات والأحداث التي من الممكن أن تمر بها الأمة في أيِّ زمان ومكان، ومن ثَمَّ تستطيع أن تجد ضالتك في إحدى غزواته أو مواقفه ؛ وذلك بأن تعرف بدقة الظروف التي تمر بها الأمة في فترة ما وفي مكان ما، ثم تبحث عن الفترة التي تشبه هذه الفترة في حياة الرسول ، ثم تدرس هذه الفترة بعمق، وتأخذ بعناية المنهج النبوي في التعامل مع الأحداث، ثم تسير بدقة وإخلاص على نفس الطريق الذي سار فيه رسول الله ، فتصل بفضل الله إلى موعود الله.
هذا المنهج في البحث والتطبيق يضمن لك السلامة من كل زيغ أو ضلال. روي عن العِرْبَاض بن سارية ، أن رسول الله قال: "... وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"[3].
وسنة الرسول هي طريقنا في الحياة، وكذلك منهجه في معالجة الأمور وأسلوبه في التفاعل مع الأحداث، وهذا كله حي ينبض في كل صفحة من صفحات سيرته ، وفي كل لحظة من لحظات حياته .
[1] القائل الإمام الشافعي.
[2] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (3884)، ترقيم البغا.
[3] رواه أبو داود (4607) ترقيم محيي الدين، والترمذي (2676) ترقيم شاكر، وابن ماجه (43) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (17182) طبعة مؤسسة قرطبة، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2549).