أخلاق الرسول في معاهدات خيبر وشمال الجزيرة
أولاً: معاهدات الرسول في خيبر وما حولها:
تعتبر معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود سواء في المدينة، أو خارجها صورة شديدة الأهمية من المعاهدات النبوية؛ وذلك لاتساع دائرة احتكاكهم بدولة الإسلام على عهده صلى الله عليه وسلم، إلى جانب ما انتهت إليه أغلب هذه المعاهدات من غدر الطرف اليهودي؛ برغم اتصال الوفاء النبوي العظيم.. مما يعطينا اليوم صورة مشرقة للثبات الأخلاقي عند المسلمين، وعلى رأسهم أسوتهم وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترات حياته المختلفة كل اليهود بالجزيرة العربية، فعاهد يهود المدينة، ومنهم ذوو الأصول العربية الذين تهوَّدوا بعد اختلاطهم باليهود، كيهود بني عوف وغيرهم، وكلها فروع من قبيلتي الأوس والخزرج، ممن ورد ذكر قبائلهم في عهد المدينة الشهير الذي أبرمه صلى الله عليه وسلم معهم عقب هجرته إلى المدينة، ومنهم القبائل اليهودية الثلاث المشهورة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. وقد كان هؤلاء ينتسبون عرقيًّا إلى اليهود، كما عاهد يهود خيبر ومَن إليهم، ولم يعاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن انتصر على معظمهم في غزوة خيبر مطلع العام السابع الهجري، وكما ذكرت قبل ذلك فإنه لكون هذا البحث يتناول أخلاق الحروب، فلن يتم التعليق على المعاهدات التي تمَّت في ظروف غير حربية، مما لا يصح أن يُطلق عليها معاهدات هدنة، وعلى ذلك فلن نتناول في هذا البحث المختصر إلا معاهدته مع يهود خيبر، فقد تمَّت في أعقاب غزوة خيبر، وفيها من وضوح الأخلاق النبوية ما لا يخفى على مُنصف!
كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون وقلاع ومزارع، وهي تقع على بُعد ثمانين ميلاً شمال المدينة، وكانت على مدار سنوات عديدة تمثّل منطلقًا للكثير من المؤامرات اليهودية الموجهة ضد المسلمين في المدينة المنورة، ولأهمية المعاهدة معهم فإننا سنفصِّل قليلاً في تاريخ علاقة خيبر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يكن هناك أي عداء أو تحرّش حربي من المسلمين ضد يهود خيبر، بل على العكس من ذلك كانت الدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ومراسلتهم من خلال كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، والذي يدعوهم فيه إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ويذكّرهم ببعض ما عندهم في التوراة، وقد ذكر ابن إسحاق ذلك عن ابن عباس قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب موسى وأخيه والمصدق لما جاء به موسى: ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] ، وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله؛ إلا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم، قد تبين الرشد من الغي، فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه» ..
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل في صراع أو حربٍ مع خيبر؛ إلا أن هذه المدينة كانت ملاذًا آمنا ومستَقَرًّا معروفًا لمن يريد التخطيط لهدم الدولة الإسلامية وتقويض بنيانها، فقد لجأ إليها سلامُ بن أبي الحقيق المعروف بأبي رافع، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وهم من أشراف بني النضير ، ومن ألدّ أعداء المسلمين، ومن الذين أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما اقترفوا من الجرائم الكثير والكثير. وإن مجرد إيواء هذه القيادات من الأعداء لهو جريمة كبرى ضد الدولة الإسلامية، كما أنه تحدٍ واضحٍ للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم، خاصَّة أن هذا اللجوء لم يكن لمجرد العيش والاستقرار بين أهل خيبر؛ وإنما كان لإشعال نيران الحرب ضد المسلمين، وتجميع من حولهم على قلب رجل واحد لاستئصال شأفة والمسلمين، ولاقتلاع المدينة من جذورها.
وقد بدأ يهود بنو النضير المقيمون بخيبر، ومن معهم من يهود خيبر وزعمائها بتأليب المجتمع القَبَلي على المسلمين.. فخرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب المشركة بهدف حصار المسلمين، فتوجهوا أولاً إلى قريش لإغرائها بحرب المسلمين وأن هذه فرصة لجمع كل القبائل لقتال المسلمين، ومما قالوه لمشركي قريش: إنا سنكون معكم حتى نستأصله ..، وبدأت قريش في تجميع المقاتلين فتجمع أربعة آلاف مقاتل، ثم انتقل اليهود من قريش إلى غطفان لإغرائهم بقتال المسلمين، وتخوّفت غطفان من حرب المسلمين رغم أنهم قبائل كثيرة وقوية، فقام اليهود بإغراء غطفان بالأموال، ورغم بخل اليهود بالمال إلا أنهم عند الصدّ عن سبيل الله ومحاربة الإسلام ينفقون ببذخ، فقد عاهد اليهود غطفان على أن تكون لهم ثمار خيبر لمدة عام، والمعروف أن ثمار خيبر كانت كثيرة، فضحُّوا بكل هذا من أجل حرب المسلمين، وإلحاق الأذى بهم، ووافقت قبائل غطفان بعد أن أغراهم اليهود بالمال على أن يعملوا على تجميع ستة آلاف مقاتل، فيكون مجموع الأحزاب عشرة آلاف مقاتل، كان ليهود خيبر - كما نرى - الدور الأكبر في تجميعهم لغزو المدينة.
ولو تمّ للأحزاب ما أرادوا لأُبيد شعب المدينة عن آخره، عدا يهود بني قريظة – بالطبع – لتعاونهم مع الأحزاب، وخيانتهم للمسلمين.
كانت خيبر –إذن– تمثّل بؤرة خطرٍ عظيمٍ على المسلمين، فعلى الرغم من أن المسلمين لم يقتربوا منها بسوء، إلا أنها كانت دائمًا على عداء تام للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، مما جعل هناك ضرورة ملحَّة لتأديبهم، ومحاسبتهم على بعض ما اقترفوا من جرائم في حق الدولة الإسلامية. فلما تفرّغ الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر قريش بصلح الحديبية، التفت إلى يهود خيبر فحاصرهم وقاتلهم حتى نزلوا على رأيه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يهود خيبر ليستسلموا سريعًا، فهم يملكون الحصون العظيمة التي يستطيعون من خلالها توفير الحماية لهم، ومواجهة من يقاتلهم مدةً طويلة، كما أظهروا ألوانًا من الصمود والشراسة في القتال، وأظهروا الكبر والعناد ضد المسلمين. وبعد معارك عديدة وحصار لحصونهم الواحد تلو الآخر طلب اليهود أن ينزلوا على الصلح، وأن يتفاوضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، وكانت خلاصة الأمر أن تم التصالح على حقْن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المقاتلة والذرية والنساء، وعلى أن يتركوا خلفهم الديار والسلاح والأموال والذهب والفضة ويخرجوا دون شيء، كما اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة عليهم شرطا هاما فقال: "وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَتَمْتُونِي شَيْئًا" . أي لو أن أحدًا من اليهود أخفى شيئًا من الأموال، فللرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتله بهذا الإخفاء . وقبِل اليهود هذا الصلح، وبدءوا في الخروج من خيبر، وقد حقن الرسول صلى الله عليه وسلم دماءهم جميعًا بهذا الصلح، وذلك رغم ما قدَّمت أيديهم من سوء، ولم يقتل إلا من برزت خيانته، كما وقع لكنانة بن أبي الحقيق .
إلى هذا الحدّ كان الأمر كله بيد المسلمين، وليس أمام اليهود اختيار غير الخروج، ومع ذلك ولرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعايش السلمي مع الآخر؛ قَبِلَ بطرح جديد قدّمه اليهود..
لقد طلب اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزرعوا هذه الأرض مناصفة مع المسلمين، ففي البخاري عن عبد الله –رضي الله عنه- قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها .
وكان هذا الصلح بمثابة الإحسان التامّ من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، وإنقاذًا لهم من الخروج إلى الصحراء، فقد كانت المعاهدة الأولى تنصّ على إجلائهم تاركين خلفهم كل شيء.
وقد جرت الحياة بصورة طبيعية مع أهل خيبر، الذين ظلوا في أعمالهم يقومون بها بحرية تامة، ولم تُؤْثَر أي مواقف تدلّ على تعنُّت المسلمين مع يهود خيبر؛ برغم الاختلاط الواضح والمستمرّ لفترة كبيرة نظرًا لطبيعة العمل الذي يربط بين الفريقين، مما يدل على إحسان المسلمين وسُمُوِّ أخلاقهم مع يهود خيبر.. فعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر، فأسرع الناس في حظائر يهود، فقال: يَا خَالِدُ، نَادِ فِي النَّاسِ أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ فَفَعَلْتُ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُكُمْ أَسْرَعْتُمْ فِي حَظَائِرِ يَهُودَ، أَلَا لَا تَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا بِحَقِّهَا" ..
وعلى الرغم من حرص الرسول صلى الله عليه وسلم الدائم على الوفاء لليهود بعهدهم إلا أنه قد ظهرت منهم عدة مخالفات، بدأت -بينَّا قبل ذلك- بمحاولة قتله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد تجاوز عنهم، بل وتعامل معهم بمنتهى الرفق والحلم والعدل، إلى درجة قد لا يستوعبها سياسيو الزمان الذي نعيش فيه الآن!
ومع أن الفارق كان ضخمًا في القوة بين الطرفين لصالح المسلمين، ومع أن المسلمين كانوا في ازدياد دائم، إلا أن ذلك لم يدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجور عليهم في تقسيم الثمار، بل كانت القسمة تتم وِفق المعاهدة تمامًا، بل إن المخالفة أتت من جانب اليهود، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ليتولَّى تقسيم الثمار، فحاولوا رشوته ليقسم لهم، فلما رفض اعترضوا على قسمته، واتهموه بالظلم، فقال كلمته المشهورة: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَإِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلِي، فَقَالُوا بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَدْ أَخَذْنَا فَاخْرُجُوا عَنَّا" . فالظلم غير مسموح به حتى وإن كان الحُكْمُ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى قلب ابن رواحة رضي الله عنه، واليهود أبغض الناس إليه..
وأعظم من ذلك ما رواه سهل بن أبي حَثْمَةَ رضي الله عنه من أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً، وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلاً، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً، فَقَالَ: "الْكُبْرَ الْكُبْرَ ، فَقَالَ لَهُمْ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ!! قَالَ: فَيَحْلِفُونَ؟ قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ" فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ .
فهذه - والله - قصة عجيبة!!
لقد تمت هذه القصة في زمن الصلح مع يهود خيبر، وذلك كما جاء في رواية مسلم "وهي يومئذ صلح"، وهذا يعني أن القصة تمت بعد هزيمة اليهود في خيبر، وقبولهم الصُلحَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن اليهود كانوا في موقف ضعف، والمسلمين في موضع قوة، ويستطيع المسلمون أن يفرضوا رأيهم بالقوة إن أرادوا..
وفي هذه الظروف قُتل أنصاري خزرجي اسمه عبد الله بن سهل رضي الله عنه، كما في رواية مسلم، وتم هذا القتل في أرض اليهود، والاحتمال الأكبر والأعظم أن يكون القاتل من اليهود.. ومع ذلك فليس هناك بينة على هذا الظن، والأمر في مجال الشك والظن، وهذا لا يُفلح في الدعوى؛ ولذلك لم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بأي صورة من صور العقاب، بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم يفعلوا!!
وقد أُسقط في يد الأنصار؛ لعلمهم أن اليهود لا يبالون بحلف كاذب، وعلموا أن حقهم سيضيع، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأثر حكمه بحزن الأنصار، ولا رغبتهم غير المؤيدة بدليل، فرفض أن يُغرِّم اليهود دية، أو أن يقتل منهم أحدًا، أو أن يُنْزِلَ عليهم أي صورة من صور العقاب، فشعر الأنصار بالغُبن؛ كونهم لم يُعَوَّضُوا عن قتيلهم، وهنا يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يتخيله أحد، فقد تولى بنفسه دفع الدية من أموال المسلمين لكي يُهدِّئ من روع الأنصار، ودون أن يظلم اليهود، فلتتحمل الدولة الإسلامية العبء في سبيل ألا يُطَبَّقَ حَدٌّ فيه شُبْهَةٌ على يهود!
يقول العلامة الإمام النووي تعليقًا على هذا الحدث: "إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي دفع ديته) قطعًا للنزاع، وإصلاحًا لذات البين" . إنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُغلق الباب تمامًا؛ فيُنسي الأنصارَ هذه القضية بعد أخذ الدية.. ويأمن اليهودُ من أي تعدٍّ عليهم انتقامًا للقتيل..
ألا ما أروع هذا الموقف وأعجبه!!
فهل هناك مثل هذا الرُّقِيِّ في التعامل!! وهل هناك من يتَّبع هذه القيم في علاقاته مع المخالف له!! وإن شئتم المقارنة فعودوا لما فعله الصليبيون عند سقوط الأندلس، وما فعله الرومان عند سقوط أورشليم في أيديهم...
وبضدها تتميز الأشياء!!
ثانيًا: معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم في شمال الجزيرة:
على الرغم من أهمية معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، إلا أن هذه المعاهدة لم تتم في ظروف حربية، ولذلك لن يتم تناولها في هذا البحث، وسنقصر الحديث هنا عن معاهداته صلى الله عليه وسلم مع نصارى القبائل التي تقطن شمال الجزيرة العربية، وذلك لوجود تاريخ حربي طويل معها، فتصلح لإبراز الأخلاق النبوية في مجال الحروب، وسيتم التعليق هنا على ثلاث معاهدات كما يلي:
أولاً: معاهدته صلى الله عليه وسلم مع دومة الجندل:
تقع دومة الجندل على طريق الشام قريبًا من تبوك، وبينها وبين المدينة قريب من (450 كم).. وقد اتَّصل منذ سنوات عداؤها للمسلمين، واشتركت في الجموع المتألِّبة على دولة الإسلام، ولعل وراء ذلك العداء بعض الدوافع منها تبعيَّتها للدولة البيزنطيَّة ولاءً وديانةً، فقد كان عامة أهل تلك المنطقة يدينون بالنصرانية، ومنها كذلك انتماء أهل دومة الجندل إلى بطون قحطانية، مما يساعد على اندفاعهم عرقيًّا لعداء المسلمين الذين يتَّبعون نبيًّا عدنانيًّا صلى الله عليه وسلم (وخاصة مع تأصُّل اعتبارات التعصب القَبَلي في ذلك الوقت).
وعلى كلٍ فقد اهتمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلِّ ما في صدور أهل دومة الجندل من ضغائن، واهتم بإقرار السلام بينه وبينهم منذ وقت مبكِّر، فأرسل عبد الرحمنِ بن عوف رضي الله عنه في العام السادس من الهجرة على رأس سريَّة إلى دُومة الجندل؛ ليدعو فرع "بني كلب" إلى الإسلام، وهي السريَّة التي انتهت بإسلام ملكهم "الأصبغ بن عمرو الكلبي" مع خَلْقٍ كثير من قومه، وبقاء طائفة منهم على النصرانيَّة مع الرضا بالجزية، كما تزوَّج ابن عوف رضي الله عنه "تماضر بنت الأصبغ" عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا يبدو لنا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إحلال السلام والوئام مع هذه القبيلة وغيرها من قبائل العرب، فهو يرسل إليهم من يدعوهم، لا من يسفك دماءهم، وعندما أسلم ملكهم، عمل على تقوية أواصر الصداقة بينه وبين المسلمين من خلال نصيحته صلى الله عليه وسلم لابن عوف –رضي الله عنه- بأن يتزوج ابنة سيد القوم، ليعلم الرجل أن إسلامه لم يزده إلا عزًّا، بمصاهرته لقائد الجيش الإسلامي، وأحد العشرة المُبَشرين بالجنة، وهذه الطريقة تفتح الباب أمام كل الزعامات النصرانية للتفكير في الإسلام، أو على الأقل في مسالمة المسلمين.
لكن مع هذا التقدير من المسلمين لنصارى المنطقة الشمالية، والتي تضم دومة الجندل حدثت عدة مخالفات خطيرة من هؤلاء النصارى، وكانت هذه المخالفات على النحو التالي:
1- أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة مع الحارث بن عمير الأزدي إلى هرقل إمبراطور الروم، وقيل: إلى صاحب بُصرَى، ولكن عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني؛ فأوثقه رباطًا، ثم قدَّمه، فضرب عنقه.
2- جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش مؤتة الشهير من ثلاثة آلاف مقاتل، وسمع العدو بخروج جيش المسلمين؛ فتجمعت الجموع الهائلة: مائة ألف من الروم، ومائة ألف من نصارى العرب الذين تجمعوا من بطون كثيرة من قبائل: بهراء ولخم وجذام وبلى .. وكلها فروع قحطانية تنتمي لقضاعة وغيرها، وتتشاطر النسب وبنوة العم مع فروع أخرى تسكن دومة الجندل مثل السَّكونيين من بني كِنْدة.
3- تحالف هذه القبائل مع الروم الذين تجمعوا في العام التاسع من الهجرة للهجوم على المدينة المنورة؛ مما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج لهم في تبوك، وعلى الرغم من قلة عدد المسلمين بالمقارنة بأعداد الرومان الهائلة؛ إلا أن الله عز وجل ألقى الرعب في قلوب الرومان، فتراجعوا إلى الشمال تاركين وراءهم مناطق نفوذهم وحلفاءهم العرب (وفيهم من أهل دومة الجندل) الذين ملأت هيبةُ المسلمين قلوبهم..
لذا لن نتعجب عندما نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضيِّع فرصة تواجده في تبوك في هذا الوقت؛ فبعث سيف الله المسلول: خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى ملك دومة الجندل "أُكَيْدِر بْن عَبْدِ المَلِك السَّكونيّ" وكان نصرانيًّا، وأمر خالدًا وجنوده قائلاً: "إِنْ قَدرتُمْ عَلَى أخْذهِ فَخُذُوه وَلَا تَقْتُلُوه، وَإَنْ لَمْ تَقْدَرُوا عَلَى أَخْذِه فَاقْتلُوه" .. فأسره خالد رضي الله عنه بالفعل، فلما أُتِيَ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سجد أُكَيْدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده: "لا.. لا.." مرَّتين .. وصالحه على الجزية، وحقن دمه، وخلَّى سبيله بعد أن كتب له كتابًا. وليس عندنا نص صحيح يُورِد ما جاء في هذا الكتاب، وإن كان قد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية مما يثبت أنه لم يسلم، وهذا الأمر وإن كان يختلف عليه بعض المؤرخين إلا أن عامة أهل السير والمغازي والمحققين يذكرون أن أُكيدر لم يُسِلم البتة . إلا أن اللافت للنظر بكل يقين هو ذلك الكرم البالغ الذي تعامل به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أكيدر عندما وقع في يده أسيرًا بعد تاريخ طويل من العداء والتحريض كما رأينا، فلم يُذِلَّ صلى الله عليه وسلم كرامتَه، ولم يَرْضَ منه السجود بين يديه.. بل حقن دمه، واحترم زعامته، وصالحه صلحًا يحترم فيه المسلمون مصلحة أكيدر وقومه احترامًا بالغًا.
إن قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح بعدما أَسَر أُكيدر يدل دلالة قاطعة على حبه صلى الله عليه وسلم للسلام؛ فالرجل في يده، ويستطيع قتله، أو التنكيل به، أو إبقاءه أسيرًا واسترقاقه، وجعله مُثلَةً لقومه ولملوك العرب كافة، كما كان يفعل الفُرْسُ والروم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن تحيا الجزيرة العربية والعالم أجمع في ظل السلام والوئام بعيدًا عن الحروب؛ لذا فقد قبل بإجراء الصلح مع ملكٍ مهزوم أسير.. وقد أثَّر هذا كثيرًا في نفس أكيدر وتعددت الروايات الصحيحة التي تذكر صورًا من تودُّد أكيدر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى مسلم في صحيحه عن عليّ رضي الله عنه أن أُكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليًّا؛ فقال: "شَقِّقْه خُمُرًا بين الفواطِم" .
وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم -كعادته- على ذلك العهد، ولم يسمح بارتكاب ما ينقضه؛ فلم تهاجِم سريةٌ من المسلمين هذه البلاد مرةً أخرى، بل إن هذه البلاد أصبحت مرتَكَزًا لانطلاق الجيوش الإسلامية المتجهة لغزو الروم في عهد الصِّدِّيق أبي بكرٍ رضي الله عنه.
ثانيًا: معاهدته صلى الله عليه وسلم مع يُحَنَّة بن رؤبة:
كان من أصداء قدوم أكيدر دومة الجندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، وما أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم من عفوٍ وحُبٍّ للسلام وحقن الدماء؛ أن أتاه "يُحَنَّة بن رؤبة" ملك أَيْلة وما حولها، وكان هو الآخر نصرانيًا، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك.. وقد روى جابر رضي الله عنه: رأيت يُحَنَّة بن رؤبة يوم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية، فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم كفَّر وأومأ برأسه (أي: طأطأ رأسه خضوعًا ووضع يده على صدره)، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "ارفَع رَأْسَك"، وصالحه يومئذٍ وكساه بُردًا يمانيًّا.. .
إن ما قابل به النبي صلى الله عليه وسلم يُحَنَّة لدليل على رغبته صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح بالشكل الذي يحفظ كرامة الآخر؛ فقد جاء الرجل مرتديًا صليبًا، ولم يعنِّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يأمره بخلعه، لكي لا يشعر الرجل أنه في حضرة هرقل مثلاً، بل أمره الرسول صلى الله عليه وسلم برفع الرأس؛ دليلاً على رفعة شأنه عند المسلمين؛ فيعلم الرجل أن الصلح مع المسلمين الأقوياء المنتصرين على الروم ليس مذلَّةً ينبغي له ولقومه أن ينقضوه عندما تسنح لهم فرصة، بل هو عهد صادق مع قوم أوفياء يحترمون الآخر، فينبغي الإسراع بإبرام هذا العهد، والعَضُّ عليه بالنواجذ.
وقد كان نص الصلح كما يلي: "بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ.. هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللّهِ، ومُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنُهُمْ وَسَيّارَتُهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمَّةُ اللّهِ وَذِمَّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّامِ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ.. وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النّاسِ.. وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ" ..
والملاحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الأمان لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر، والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون هم خير من يوفي بعهده، والمعروف أن آيلة على ساحل البحر الأحمر، ولابد أن قومه أو جزءًا منهم على الأقل يعملون بالصيد، والمسلمون حتى هذا الوقت لم يستخدموا البحر إلا في الهجرة إلى الحبشة؛ فالبحر لديهم مجهول، وهم ليسوا بارعين في الإبحار فيه، ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُحَمِّل نفسه والمسلمين عبئًا خطيرًا ثقيلاً وهو حماية أهل آيلة في البحر، وهذا يقتضي استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء أسطول بحري وتجهيزه متى حصل اعتداء على أهل آيلة، وفي ذلك من الجهد والإنفاق الضخم والمخاطرة ما فيه. لقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذا العبء من أجل أن يعيش المسلمون مع من حولهم في أمان وسلام.
كما نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكفَّل بالسماح لهم بورود كل ماءٍ تعودوا على وروده، وهذا يقتضي - ليس عدم منع المسلمين لهم فقط، بل – محاربة أي عدو آخر يحاول منعهم عن مصادر المياه، وهذا جهد ضخم، وحِمْل جسيم يتحمله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أجل إقرار السلام في هذه المنطقة مع قومٍ لا يؤمنون بالإسلام، ولا بنبيه صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: المعاهدات مع أهل جرباء وأذرح
وبالمثل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى جرباء وأذرح فقد جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم لهم: "هذا كتاب من محمدٍ النبي لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله ومحمد، وأن عليهم مائة دينارٍ في كل رجبٍ وافيةً طيبةً، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين" .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمَّل هنا مسئوليات ضخمة في توفير الأمان لقبائل ضعيفة، قليلة العَدَد، هزيلة الغَنَاء عن المسلمين مقابل مبلغ زهيد لا يساوي شيئًا؛ وذلك من أجل ضمان السلام مع كل من يحيط بالمسلمين.
كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية)