السيرة النبوية وصعوبة كتابتها
السيرة النبوية .. إنها قصة رجل له مكانة مرموقة عند خالق الأرض والسماوات، وهذا ما يجعل كتابة قصته أمرًا عسيرًا صعبًا؛ لأن كل تحليل أو خبر لا بد أن يكون موافقًا لما أراده الله وأحبه؛ وإلا كان الخطأ كبيرًا، والذنب عظيمًا.
تفاصيل أحداث السيرة النبوية
وليس هذا فقط الذي يجعل كتابة السيرة أمرًا صعبًا؛ ولكن يزيد من صعوبته أمور أخرى كثيرة! أحد هذه الأمور أن أحداث قصة الرسول صلى الله عليه وسلم سُجِّلَتْ بعناية شديدة، وبتفاصيل دقيقة، وبطريقة فريدة لم تحدث مع أي إنسان قبله أو بعده؛ وذلك لأننا مطالبون بتقليده، واتباع طريقته وسُنَّتِه في كل صغيرة وكبيرة في حياته؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ولذلك سَخَّر الله عز وجل من ينقل لنا كل تفصيل مهما دقَّ في حياته صلى الله عليه وسلم، لقد كان أصحابه يُسَجِّلُون كلماته وأفعاله، ويلفتون النظر دومًا إلى ردود فعله، فهنا ظهر الارتياح عليه، وهنا ظهرت الكراهية في قسمات وجهه، وهنا ابتسم، وهنا غضب، كما سَجَّلُوا ما يحدث في حياته الطبيعية كإنسان، كيف كان يأكل، وماذا أكل، وكيف كان تعليقه على طعام وُجد في حضرته، أو سمع به، كيف كان يشرب، وكيف كان يلبس، وكيف كان يمشي، وكيف كان يقاتل .. إنه تصوير عجيب لكل دقائق حياته.
وإذا كانوا يفعلون ذلك مع عاديات حياته فكيف بهم مع أحاديثه ودروسه وخطبه وتعليقاته وأفكاره وأحلامه وطموحاته؛ إنهم نقلوا كل ذلك بدقة حتى صارت حياته مرسومة بكاملها لكل البشر، حتى الذين لم يعاصروه، أو وُجِدُوا بعد زمانه بقرون عديدة.
بل لعلِّي أقول: إن إحدى الحِكَم وراء زواجه من أكثر من امرأة أنها كانت فرصة لهذا العدد الكبير من النساء أن ينقلن واقع بيته الذي لا يراه الناس، فنقلت عائشة وحفصة وأم سلمة -وغيرهن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن أجمعين- ما خَفِيَ عن عيون الناس، فشرحن كيف كان يعاملهن، وكيف كان حاله في بيته وعلى فِراشه، وفي نومه واستيقاظه، وفي عبادته وذِكْرِه، وفي صمته وفِكْرِه، وفي حزنه وفرحه، وفي كل انفعالاته وردود فعله.
إنها قصة عجيبة للغاية تلك التي نعرف عنها كل هذه التفاصيل!
أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية
يزيد كذلك من صعوبة كتابة قصة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية؛ فنحن نجد أحيانًا في تاريخ بعض الأمم أن حدثًا كبيرًا من أحداثها أخذ لُبَّ المفكرين هناك، فعاشوا القرون المتتالية يحلِّلون الحدث، ويستنبطون الفوائد منه والعبر .. هذا مع حدث واحد أو عدة أحداث على مدار عشرات السنين؛ بينما تجد أن معظم السنوات -باستثناء هذا الحدث- رتيبة تقليدية، ليس فيها جديد أو مثير، وهذا يجعل الكتابة في تاريخ مثل هذه الأمم أمرًا ميسورًا؛ لأنك من الممكن أن تُغْفِل عدة عشرات من السنين دون أن يتأثر السياق التاريخي بشيء؛ أما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فأحداثها كلها عظيمة، ويمكن توضيح الصورة بضرب مثال واحد يوضِّح ما أرمي إليه.
لو اطَّلعنا على أحداث العام الثاني من الهجرة على سبيل المثال وجدنا فيه هذه الأحداث مجتمعة: غزوة الأبواء في صفر، وغزوة بواط في ربيع الأول، وغزوة سفوان في الشهر نفسه، وغزوة ذات العُشَيْرَة في جمادى الأولى، وسرية نخلة في رجب، ثم غزوة بدر الكبرى بكل أحداثها المجيدة في رمضان من السنة نفسها، ثم غزوة بني قينقاع في شوال.
هذه كلها معارك كبيرة تحتاج إلى تحليل ودراسة وتعليق، فإذا أضفت إلى هذه المعارك حدوث بعض الأمور الأخرى؛ مثل فرض القتال، وفرض الصيام، وفرض الزكاة، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، إذا أضفت هذه الأمور علمت أن كل واحد منها يحتاج إلى صفحات ومقالا كثيرة ليُنَاقَش فيها ويُدْرَس، وفوق كل ما سبق ظهر في العام الثاني من الهجرة النفاق، وذلك عندما دخل عبد الله بن أبي ابن سلول الإسلام ظاهرًا وهو يُبطن الكفر، وهذا أمر يحتاج إلى مجلدات لدراسة هذه الظاهرة وتبعاتها! وكل ما سبق ما هو إلا أمثلة لما حدث في العام الثاني من الهجرة، فما بالكم بالتدبُّر الكامل فيما حدث في حياته الشخصية صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وحياة الأمة بشكل عام، بالإضافة إلى ما حدث في مكة أو العالم متزامنًا مع نشأة الدولة الإسلامية؟!
هذا مجرَّد مثال لضخامة الأحداث في السيرة النبوية، ولو تناولنا أي عام آخر فسنجد الأمر نفسه؛ وهذا يجعل محاولة احتواء السيرة كلها في كتاب واحد أو عدة مقالات أمرًا في غاية الصعوبة.
وليست الأحداث فقط هي التي يمكن أن تُوصَف بالعظمة؛ إنما الأشخاص الذين عاشوا في زمانه صلى الله عليه وسلم كانوا على الدرجة نفسها من العظمة!
إن الجيل العظيم الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق أحداثًا عظيمة لا حصر لها؛ فزمنٌ شهد حياة العظماء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم. زمنٌ يستحق أن يقف الإنسان مع كل لحظة من لحظاته؛ إنه زمن شهد المجاهدين أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن مالك، وشهد المنفقين في سبيل الله كعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة، وأبي الدحداح، وشهد العُبَّاد الزهاد أمثال: أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وشهد العلماء القُرَّاء أمثال: عبد الله بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وشهد الحُفَّاظ رواة الأحاديث أمثال: أبي هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
إنه زمن شهد أمهات المؤمنين أمثال: خديجة، وعائشة، وحفصة، وزينب، وشهد الصحابيات الجليلات أمثال: أسماء بنت أبي بكر، وأم عمارة، وأم حرام بنت ملحان. إنه زمن شهد المهاجرين والأنصار، وشهد الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وشهد الأطفال الذين ترعرعوا في حدائق الإيمان كعبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد .. إنه زمن عجيب!
إن كُلَّ صحابي أو صحابية خلق عشرات ومئات بل آلاف المواقف النادرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذه المواقف ما هي إلا صفحات من السيرة النبوية، ولو لم يكن هؤلاء عظماء ما خُلِقَت هذه المواقف، ولكنهم بإيجابيتهم وتضحياتهم ودقَّة أفهامهم، وحسن تصرفهم، وحميتهم للدين، وإخلاصهم لله عز وجل، وتجردهم لدعوتههم، تفاعلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاعلاً أثرى السيرة النبوية ثراءً لا مثيل له، ولن تجد نبيًّا من الأنبياء، أو مصلحًا من المصلحين، على مدار عمر البشرية كان له من الأصحاب مثلما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" [1].
التنوع الكبير الذي ميَّز حياة الرسول
وأخيرًا يزيد من صعوبة كتابة السيرة التنوع الكبير الذي ميَّز حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها متفرِّدة ومختلفة عن حياة أي إنسان آخر. وعلى سبيل المثال فإن الفقير الذي عاش حياته كلها فقيرًا، أو الغني الذي عاش حياته كلها غنيًّا، يمكن أن تُلَخِّص حياته في يسر وسهولة، فتقول: عاش حياته مُعْدمًا، أو عاش حياته موفور المال. ولكن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن كذلك؛ إنما شملت كل المتنوعات التي يمكن أن تقابل المسلم في حياته.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من حياته فقيرًا لا يجد ما يسد رمقه، ليس له من طعام إلا التمر والماء، أو كان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع؛ بينما عاش في فترة أخرى من فترات السيرة وقد أتته أموال العرب، وصار يعطي عطاءً لم يُعْرَف بين الناس، وبين هذا وذاك كانت هناك فترات أخرى يُوجَد فيها المال دون أن يكون وفيرًا.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من فترات حياته مضطهدًا معذَّبًا طريدًا هو وأصحابه، وعاش فترة أخرى ممكَّنًا في الأرض قويًّا عزيزًا، يسمع العرب جميعًا لكلماته. عاش حاكمًا وعاش محكومًا، وعاش مسالمًا وعاش محاربًا، وعاش لحظات النصر وذاق مرارة المصيبة، عاهد اليهود والنصارى في جانب من السيرة وقاتلهما في جانب آخر، وراسل كسرى وقيصر في فترة من فترات حياته، وأعلن الحرب عليهما في فترة أخرى.
رأيناه شابًّا يطلب الزواج، ورأيناه متزوِّجًا من واحدة لا يجمع معها أخرى، ورأيناه متزوِّجًا من عدَّة نساء معًا، ورأيناه أرملاً بلا زوجة، ورأيناه مطلِّقًا لزوجة من زوجاته. رأيناه يقضي بين الناس، ويأخذ القرارات السياسية الكبيرة، ويشرِّع القوانين الاقتصادية والتجارية، ويتعامل بالدرهم والدينار، ويعطي الدروس والمواعظ، ويعلِّم الصغير والكبير.
وغير ذلك من التنوعات رأيناه!
لا شك عندي في أن كل أحداث الدنيا قد كُثِّفَت في حياته صلى الله عليه وسلم، فحَدَثَ له ولأصحابه كل ما يمكن أن يحدث لمسلم في حياته؛ حتى تقام الحُجَّة على كل مسلم ومسلمة، فلا يقتدي به فقير دون غني، ولا حاكم دون محكوم، ولا شاب دون شيخ، ولا عربي دون أعجمي؛ بل يُصبح قدوة صالحة للتطبيق يقتدي بها كل مَنْ قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
هذه هي السيرة النبوية! أليست قصةً صعبة التسجيل حقًّا؟!
لذلك صار من الصعب جدًّا على إنسان أن يتناول كل جوانب حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ -فمن ناحية عملية- ينبغي لكل مَنْ أراد أن يُسَجِّل أحداث هذه السيرة العظيمة أن يختار جانبًا من الجوانب فيتناوله بالشرح والتفصيل، ويترك في الوقت نفسه -عامدًا- بقية الجوانب؛ وذلك حتى لا يتشعَّب به الحديث ويتفرَّع، ويُصبح غير قادر على إيصال مفهوم محدَّد لقرَّائه.
ولقد كنتُ مهتمًّا أثناء قراءتي لأحداث السيرة النبوية -وكذلك عند قراءتي لصفحات التاريخ الإسلامي أو الإنساني بشكل عام- بدراسة عوامل بناء الأمم أو سقوطها، وأحسب أن هذا منظورٌ نحتاجه بشكل خاص في زماننا؛ لكون الخلافة الإسلامية قد سقطت منذ ما يقرب من مائة عام حتى هذه اللحظة التي تُكتب فيها هذه المقالات، وغُيِّب الشرع عن حياة المسلمين، واحتاج المسلمون بشدة إلى أن يعيدوا بناء أمتهم من جديد، وأرى أن البناء لن يكون قويًّا وصالحًا للاستمرار والبقاء إلا إذا كان على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيناه يبني أمته باقتدار، ويجعل لها مكانًا مرموقًا بين الأمم بطريقة فذَّة فريدة، وأدركت إدراكًا كاملاً أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فعقدت العزم على كتابة هذه المقالات من هذا المنظور؛ أعني من منظور بناء الأمة الإسلامية، فحرصت على دراسة أسباب القوَّة في البناء، والعوائق التي اعترضت طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل معها وتغلَّب عليها؛ ومن ثَمَّ يتوافر عندنا ما يجعل من السيرة نورًا نرى به في ظلمات الدنيا، فنعرف اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الظروف التي مرت به: فهنا حارب، وهنا سَالَمَ، وهنا رضي، وهنا غضب، وهنا وافق على أمر، وهنا رفضه، فتُصبح عندها قراءة السيرة النبوية سببًا في تغيير قراراتنا إلى الأحكم والأصوب، وتُصبح -بحقٍّ- مخرجةً لنا من الظلمات على النور.
ولعلَّه لهذا السبب لم أُضَمِّن في مقالاتي الفترة الطويلة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهي فترة الأربعين سنة الأولى من عمره؛ وذلك مع العلم أنها فترة مهمَّة للغاية، وفيها من الدروس والعبر ما لا يُحصى، ولكنها قد تكون -نسبيًّا- خارجة عن منظور البناء الذي انتهجته في مقالاتي؛ ومع ذلك فأنا أعتزم -لو كان في العمر بقية وبركة- أن أُسَجِّل أحداث هذه الفترة الذهبية في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب مستقلٍّ أو مقالات مستقلة تبين تفاصيل إعداده صلى الله عليه وسلم؛ من يوم مولده، وإلى يوم بعثته الشريفة.
[1] البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (2509)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (2533).