سمات عامة في السيرة النبوية (2-2)
السمة السابعة: الحرب بين الحق والباطل أبدية
السيرة النبويةإن الحرب بين الحق والباطل والإيمان والكفر حرب أبدية، يستحيل أن تخلو منها فترة من فترات الحياة، فالحق من وظيفته أن يقاوم الباطل، كما كان الرسول يقول عند دخوله مكة المكرمة: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
وكذلك الباطل لن يرضي أبدًا أن يبقى الحق في الأرض دون مقاومة، حتى لو أعرض الحق عن قتال الباطل لظرف من الظروف، فإن الباطل لن يقبل بذلك، بل سيسعى حثيثًا إلى حرب الحق، ورأينا ذلك في كل مراحل السيرة، وكان رسول الله يدرك ذلك جيدًا، وكان مجاهدًا للكفار، وغيرهم بطرق مختلفة حسب المرحلة، فأحيانًا كان يجاهد باللسان والقرآن، وأحيانًا كان يجاهد بالسلاح والسنان، وتختلف الوسيلة، ولكنه في كل الأحوال يجاهد.
وأيضًا يختلف العدو حسب المرحلة، لكن دائمًا هناك عدو، فتارة يكون الأعداء من قريش، وتارة من مشركي المدينة، وتارة من المنافقين، وتارة من الأعراب، وتارة من اليهود، وتارة من النصارى، وتارة من المجوس.
يتنوع أعداء الأمة حسب المكان والزمان، ولكن يغلب على صفة كل الحروب أنها حرب عقائدية تدور في محورها الرئيسي حول قضية الدين، قد يدخل فيها عوامل أخرى مثل الاقتصاد، أو بعض الأمور الاجتماعية، أو حب السلطة، ولكن يظل العامل الرئيسي في المعركة هو الدين، وفي هذا المعنى قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
فطالما أن المسلمين مستمسكون بدينهم فستظل الحرب دائرة، وقد رأينا الحرب في مكة على أشدها مع مجموعة قليلة من المؤمنين، ولما هاجرت هذه المجموعة القليلة إلى الحبشة لم يتركهم المشركون؛ بل تابعوهم هناك، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة لم يسكت المشركون كذلك، بل اجتهدوا جهدهم في إجهاض المشروع الإسلامي الذي يقام على بُعد خمسمائة كيلو متر من مكة المكرمة، وجيَّشوا الجيوش، وأنفقوا الأموال، وعقدوا الأحلاف، وظل الصراع دائرًا إلى آخر حياة الرسول ، إن لم يكن في مكة فهو في المدينة، وإن لم يكن في المدينة فهو في أي بقعة من بقاع العالم، ما دام فيها مَن يذكر الله .
وكان الرسول يدرك أن هذا الصراع ليس شخصيًّا معه ، إنما هو صراع عقائدي سيستمر مع أصحابه، وأتباعه إلى يوم القيامة، ولذلك كان آخر وصاياه إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى حرب الرومان، وظل محافظًا على مسيرة الجهاد إلى آخر لحظة، وأوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وجعل الجهاد ذروة سنام الإسلام، وبشَّر المسلمين بأن الأجر عليه أكثر من الأجر في أي أمر آخر، وذكر فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن "الْخَيْلَ -وهي وسيلة من وسائل الجهاد والقتال- مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وبوَّب البخاري -رحمه الله- للباب الذي جاء فيه هذا الحديث بعنوان (الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر)، فهذا أمر تعارف عليه علماء الإسلام، وهو أمر واقعي لا جدال فيه. نعم لا يسعى المسلمون للحرب أولاً، ولكن هذا أمر لا يمكن تجنبه للأسباب التي بَيَّنّاها، ولن يأتي أبدًا زمان على الأرض يختفي فيه الشر، وينتهي الباطل، أو يرضَى فيه أهل الباطل عن أهل الحق، فتكون حالة من الحوار فقط دون قتال، والسلام دون حرب، فهذا مستحيل؛ لأن الله وعد الشيطان بالبقاء إلى يوم يبعثون، وسيظل له محاولات ومحاولات لإضلال الخلق، ولن يقبل المؤمنون الصادقون بهذا الإفساد في الأرض، وستبقى محاولات الإصلاح مستمرة، ومن ثَمَّ فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.
السمة الثامنة: الأمل واليقين
السمة الثامنة في السيرة النبوية هي سمة الأمل الذي كان يبثه رسول الله في المسلمين في كل المواقف، وبلا استثناء حتى أصبح الأمل والتفاؤل واليقين بنصر الله صفة غالبة، وسمة مميزة لكل أحداث السيرة، والمؤمن لا يقنط أبدًا من رحمة الله وفضله، وكرم رب العالمين I، قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
والمؤمن يثق بوعد الله، وقوته وجبروته وقدرته على هزيمة عدوه وعدو المؤمنين، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160].
ولذلك فالمؤمن مع رؤيته للظروف القاسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، لا يتأثر مطلقًا بذلك، ويعلم دائمًا أن ميزان القُوى في صالحه، ما دام الله معه؛ لأنه ليس لأحد بحرب الله طاقة.
من هذا المنطلق، فإننا نفهم الروح المتفائلة التي كان يتصف بها المجتمع الإسلامي في كل مراحل السيرة النبوية، حتى في أشدها ظلامًا، وأكثرها حرجًا.
رأينا ذلك في كل سنوات مكة الصعبة، وذكرنا بعض الأمثلة منها عند حديثنا عن سعادة المسلمين في مكة، وغير هذه الأمثلة كثير، فرأينا رسول الله يبشر سُراقة بن مالك بسواري كسرى، وهو مطارد في هجرته من مكة إلى المدينة، ورأيناه يطمئن المسلمين بعد مصيبة أُحد أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، ورأيناه يبشر المؤمنين بفتح الشام واليمن، ورأيناه يبشر المسلمين بدخول مكة للعمرة، مع أنها بيد المشركين آنذاك، ورأيناه يبشر المسلمين بالفتح مع استحالته في تخيل العسكريين من أهل ذلك الزمن، ورأيناه يبشر المسلمين بالنصر على هوازن مع ضخامة عددها وعدته، ورأيناه في مواطن أخرى كثيرة -يصعب جدًّا حصرها واستقصاؤها- يبشِّر ويُطمْئن ويؤكد على نصر الله.
إنه منهج حياة رأيناه بارزًا في السيرة النبوية، ولم يكن هذا التبشير في المواطن الصعبة، أو مواقف الأزمات فقط، بل كان سياسة عامة انتهجها رسول الله في كل أحاديثه وخطبه وحواراته وتعليقاته، ولا يبشِّر أن ذلك سيكون في زمانه فقط، بل يبشر المسلمين إلى يوم القيامة بالفتح والنصر والتمكين، إن هم تمسكوا بشرع الله وبسنة نبيه .
روى الإمام مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا".
وروى الإمام أحمد عن تميم الداري أن رسول الله قال: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ".
وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ، وَالشَّرَفُ، وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ، وَالصَّغَارُ، وَالْجِزْيَةُ.
وأمثلة هذه الأحاديث كثيرة مما يجعل هذه البشرى، وهذا الأمل منهجًا واضحًا من مناهج رسول الله لبناء أمته.
السمة التاسعة: سعادة المسلمين بمنهجهم
السمة التاسعة البارزة في السيرة النبوية هي سعادة المسلمين بمنهجهم الإسلامي، حتى في أشد حالات التعب والمعاناة.
ومفهوم أن نلحظ السعادة بعد بدر، والأحزاب، وفتح مكة، وغير ذلك من الانتصارات والإنجازات، ولكن قد يتساءل أحد الدارسين للسيرة: هل هناك سعادة في تعذيب مكة للمؤمنين؟ وهل هناك سعادة في مصيبة أُحد؟ وهل هناك سعادة في أزمة حنين؟
والحق أنه ليس هناك فترة من فترات السيرة النبوية إلا وتلحظ فيها لونًا من ألوان السعادة، حتى ولو كان الظاهر حزنًا وألمًا.
كل الناس يتعب، وكل الناس يألم، ولكن ليس كل الناس سعداء، يقول ربنا I في كتابه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].
فالإنسان بصفة عامة يعيش حياة الكبد والمعاناة، ويذكر ربنا تعليقًا على مصيبة أًحد: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104].
فالألم هذا ملازم للمنتصر والمنهزم، والصحيح والمريض، وللغني والفقير، وللحاكم والمحكوم، وكل الناس يألم، وكل الناس يعاني، ولكن ليس كل الناس سعداء.
المسلم الصادق يعاني ويتألم، وهو يعلم -كما ذكرنا في النقطة السابعة- أن العاقبة للمتقين، يعلم أنه سيأتي يوم يُمَكّن الله فيه الإسلام، ويعز فيه الدين، وهذا الأمل في نفسه يبعث فيه الراحة والسعادة والاطمئنان، ورأينا في فترة مكة الرسول يبشر المؤمنين الذين يعذبون ويعانون بأنهم سيملكون العرب والعجم في يوم من الأيام، ويبشر زيد بن حارثة بنصر الدين، وبإظهار الرسول على أعدائه، ويبشره بذلك وهم عائدون من الطائف، بعد كل آلامها وأحزانها، وهكذا في كل مراحل الألم تجد التبشير بتغيير الأوضاع لصالح المسلمين.
ثم إن هناك سعادة المسلم بعدم انفصاله عن الكون والأرض والمخلوقات، فالكل يعبد الله في تناسق جميل، وانسجام طبيعي، أما الكافر فهو يعيش في تناقض مع نفسه ومع الكون، فالكون كله يشهد بكل ذرة فيه بعظمة الخالق ووحدانيته وحكمته، وهو لا يقر بذلك، فأي تعاسة تكون في نفسه، وأي كآبة يعيش فيها.
والمسلم فوق ذلك ينتظر جنة في الآخرة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويعلم يقينًا أنه سيعوض يوم القيامة عن كل ظلم وقع عليه، وعن كل ألم تحمله، وعن كل همّ أو غمّ عاش فيه، وهذا التعويض المنتظر يخفف عليه كثيرًا ألمَه ونَصَبه وكبده، حتى رأينا في السيرة من يفقد كل شيء، حتى يفقد حياته، وهو مع ذلك يقول كلمات تعبر عن منتهى السعادة، ولقد رأينا حرام بن ملحان يُطعن بالحربة في ظهره، فتخرج من صدره، وهو يقول: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة".
أليست هذه سعادة؟!
وأمثلة ذلك كثيرة في السيرة، لعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن في باطن كل ألم سعادة؛ لأن المسلم يستشعر ساعتها أن هذا الألم قد كَفَّر عنه جانبًا من خطاياه، ورفع قدره بدرجة معينة في الجنة، وهذا مصداق حديث رسول الله ، والذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، حيث قال: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ، وَلا حُزْنٍ، وَلا أَذًى، وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ".
إذن يغلب على أحداث السيرة بصفة عامة أنها كانت أحداثًا مرهقة ومتعبة ومؤلمة، إلا أنها لا تخلو من سعادة ورضا واطمئنان. يقول تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124].
السمة العاشرة: وضوح مهمة البلاغ
أما السمة العاشرة والأخيرة التي نشير إليها في هذا المضمار فهي وضوح مهمة الرسول ، ومن ثَمَّ مهمة أتباعه من بعده في هذه الحياة، فمن أول يوم في البعثة إلى آخر يوم في حياة الرسول والمهمة هي البلاغ.
وقد ذكر ربنا I ذلك تصريحًا لرسول الله ، وحدد له المهمة بوضوح، وجاء ذلك في مواضع شتى في القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92].
وقال : {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]. وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشُّورى: 48].
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
والرسول من أول أيام الدعوة وهو يفقه ذلك جيدًا، وحرص على تبليغ كل من يعرف، ومن لا يعرف، واختلفت وسائل الإبلاغ حسب المرحلة، لكن الإبلاغ كان سمة عامة في كل مراحل السيرة.
وفي أول أيام الدعوة كان الإبلاغ سرًّا، وعن طريق الانتقاء، واستمر ذلك ثلاث سنوات كاملة، ثم بعد ذلك أعلن الأمر على الناس، وبلغ أهل مكة جميعًا، وناداهم قبيلة قبيلة، ورهطًا رهطًا، فصدوه عن دعوته وقاوموه، لكنه عاش لهذه القضية تمامًا، ولما كانت السيدة خديجة تشفق عليه من كثرة التعب وشدة الإرهاق، فترجوه أن يستريح قليلاً، فكان يقول لها: "مَضَى عَهْدُ النَّوْمِ يَا خَدِيجَةُ". ويكمل الإبلاغ هنا وهناك.
كان لا يترك زائرًا يدخل مكة إلا وحدثه عن الإسلام وبلغه، وكان لا يترك وفدًا، ولا فردًا أتى للحج إلا ويشرح له الرسالة الإسلامية ويبشره وينذره، وكان يجد الإعراض والسخرية كثيرً، ومع ذلك ما توانى لحظة عن إيصال رسالته للناس، وفي فترة المدينة المنورة اجتهد في نشر دعوته، وتبليغ الناس، ليس في المدينة فقط، ولكن في كل أرجاء الجزيرة، وقد يرسل الصحابة إلى قبائلهم البعيدة، وقد يرسل الصحابة إلى قبائل لم يعرفوها قبل ذلك، وقد يرسل الجيوش لحماية الدعاة إلى الله، وقد يرسل المراسلات والمكاتبات إلى كل من يعرفه، ووصل الأمر في السنة السابعة من الهجرة إلى مكاتبة زعماء وملوك العالم لتبليغهم دعوة الإسلام، فأُرسلت الرسائل إلى قيصر الروم، وإلى كسرى فارس، وإلى مقوقس مصر، وإلى نجاشي الحبشة، وإلى زعماء مَهْرة، والبحرين، وعُمان، واليمن، ودمشق، وبُصْرَى.
لقد كانت المهمة واضحة تمام الوضوح في ذهنه ، لا بد من الوصول إلى كل إنسان يستطيع أن يصل إليه، مهما كانت لغته أو جنسيته، أو وضعه الاجتماعي، أو دينه، أو المسافات التي تفصل بين رسول الله وبينه.
إنها المهمة العظيمة النبيلة، مهمة الأنبياء: (البلاغ)، قال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].
فهذه هي مهمة الرسل، وهذه مهمة أتباعهم الذين يسيرون في طريقهم، وليس من مهمة الرسول أبدًا، ولا من مهمة أتباعه أن يهدوا الناس إلى الإيمان، أو أن يغيروا قلوبهم إلى الإسلام والإخلاص لله؛ فهذا فوق حدود البشر، وهذا لله وحده، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].
حتى أولئك الذين يحبهم رسول الله حبًّا فطريًّا، ويشعر تجاههم بمسئولية خاصة، فإن أولئك ليس من مهمته أن يهديهم فقط، ولكن من مهمته أن يصل إليهم بالدعوة بيضاء نقية، قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
ولا يملك القلوبَ بشرٌ مهما كان، بل يملكها رب العالمين I، ويصرفها حيث شاء. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ".
ثم قال : "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ".
ولقد كان رسول الله متفانيًا في أداء المهمة النبيلة إلى درجة أنه كان يحزن حزنًا شديدًا يكاد يهلكه عندما لا يهتدي إنسان بكلمات القرآن، مع أن مهمته البلاغ فقط وليس الهداية، إلى الدرجة التي رفق الله به، وأنزل آيات في مواطن عدة من القرآن الكريم تنهاه عن الحزن الشديد، وتنصحه بألا يشدد على نفسه، وأن يكتفي بالبلاغ، ولا يحزن على من لم يرد الهداية، فنزلت الآية الكريمة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
ونزلت الآية الكريمة: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
ونزلت الآية الكريمة: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم.
وعلى المسلم الفاهم الواعي أن يلتقط هذه المهمة النبيلة ليجعلها مهمة حياته، ولا يرضى بأقل منها رسالة، ولا بأبسط منها قضية، وهذا الذي أعطى الخيرية لهذه الأمة، وفضلها على غيرها، فهذه الأمة من مهمتها أن تحمل الخير إلى أهل الأرض جميعًا، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].
وقد رأينا الرسول حتى آخر لحظات حياته حريصًا على إبلاغ أمته، حتى إنه أكثر من هذه الكلمة في حجة الوداع فقال مرارًا: "أَلا قَدْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ".
وقال لأصحابه: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ".
وحتى في لحظات موته الأخيرة ، وهو يعاني الألم من سكرات الموت؛ ما توقف لحظة عن تعليم أمته وتبليغها ونصحها وإرشادها، إنها رسالة الحياة بكاملها، فما أعظمها من رسالة، وما أنبلها من قضية.
كانت هذه هي السمة العاشرة من السمات البارزة في السيرة النبوية، فتلك عشرة كاملة.
ولا شك أن السمات العظيمة للسيرة النبوية كثيرة، ولا شك أن إحصاءها يصعب بل يستحيل، والباب مفتوح لكل من أراد أن ينهل من هذا النهر العذب، والعين السلسبيل. ونسأل الله أن ينفعنا بكل مواقف السيرة وأحداثها.
هل هذا كل شيء أردنا أن نذكره عن رسول الله ؟
بالطبع لا، البعض يتعجب من الحديث عن السيرة في ستٍّ وأربعين محاضرة، كل سنة في محاضرتين.
هذه بداية وليست نهاية.
جوانب أخرى مضيئة من السيرة
هذه أوراق كتبناها عن سيرة رسول الله ، كان يغلب عليها الحديث عن الجانبين السياسي والعسكري في حياته، وليس معنى هذا أن هذه هي الجوانب الوحيدة في حياته فقط، ولكن هناك جوانب هائلة من جوانب عظمته تحتاج إلى تفريغ وقت، وإلى بذل جهد؛ لكي تُدرس وتُفهم، وعلى هذا فإنه سيتم إعداد المواد الآتية لتصبح مكملة لما ذكرناه في هذه السيرة الطيبة:
1- الرسول وأخطاء المؤمنين: وفيها نتعرض للأخطاء التي وقع فيها الصحابة في حياة رسول الله ، وأسباب الوقوع في هذه الأخطاء، وكيف عالج رسول الله المشكلة، وكيف خرج الصحابة من أزمتهم.
2- الرسول والدولة الشاملة: وفيها سنتعرض لخطواته في بناء أمته في كل المجالات، وذلك مثل خطواته في البناء السياسي للأمة، وكذلك في البناء الاقتصادي، والاجتماعي، والتشريعي، والترويحي، والروحي، وغير ذلك من التخصصات المهمة في داخل الدولة الإسلامية الشاملة.
3- الرسول وحل مشكلات العالم: وفيها نتحدث عن طرق الرسول في معالجة المشاكل الضخمة التي واجهته، وتواجه كل أمة إلى زماننا الآن، كحَلِّه لمشاكل الفقر، واللاجئين، والجريمة، والأمية، والعنوسة، والتصحر، والعنف، وغير ذلك من مشاكل هائلة قد تؤدي إلى هلاك الأمم.
4- الرسول وفقه المعاملات: وكيف كان يتعامل مع أولاده، وزوجاته، وأصحابه، وأعدائه، وجيرانه، وعماله، وما إلى ذلك من معاملات.
5- أخلاق الرسول: كالصدق، والأمانة، والكرم، والشجاعة، وغير ذلك من أخلاق تميز بها رسول الله .
6- الجانب الأخلاقي في التشريعات الإسلامية: في أثناء السيرة النبوية، كالجانب الأخلاقي في السياسة، وفي الحروب، وفي التجارة، وفي معاملة أهل الكتاب، وفي معاملة الزعماء والأمراء، وهكذا.
7- الرسول وفن امتلاك القلوب: وفيها ندرس كيف كان يؤثر في مَن حوله، ويفتح قلوبهم لدرجة أن الذي يراه أول مرة يحبه والذي يخالطه يحبه، والذي يتعامل معه بالمال يحبه، والذي يخدمه يحبه، وكان لرسول الله منهجٌ واضح ومعروف لامتلاك قلوب الناس والتأثير فيهم، وهذا المنهج يحتاج إلى دراسة مفصَّلة لأهميته في كل تطبيقات الحياة.
8- خصائص الرسول وما تميز به عن عموم المسلمين: وما اختص به من صفات، وأحكام وشريعة، وما يجوز في حقه، ولا يجوز في عموم المسلمين، وهكذا.
9- معجزات الرسول: سواء كانت القرآن الكريم وأوجه إعجازه، أو كانت المعجزات الحسية التي رآها معاصروه، أو الإنباء بالغيب، أو الإسراء والمعراج، وتفاصيل الأحداث فيه، أو إعجازه البلاغي، ودقة ألفاظه، وما عُرف بجوامع الكلم، وغير ذلك من معجزات.
10- جوانب متخصصة في حياة الرسول: مثل فن الإدارة، وفن القيادة، وفن التغيير، وفن الخطابة، وفن تربية الأطفال، وغير ذلك من فنون مبدعة تحتاج إلى تأصيل ودراسة وتعمق.
هذه بعض البحوث التي نريد القيام بها، وهي مجرد فصول من سِفْر ضخم يستحيل إتمامه، وسيظل الدعاة والعلماء ينهلون من هذا النبع الصافي إلى يوم القيامة.