سمات عامة في السيرة النبوية (1-2)
بعض سمات السيرة
السيرة النبويةوبعد، فإنه لا بد أن نقف وقفة بعد هذه السيرة العطرة؛ لنستخرج بعض السمات العظيمة لا كلها؛ فإن ذلك يستحيل. وهذه السمات التي أَنتقيها هي السمات التي تظهر في عموم البعثة النبوية، لا موقف عابر، وليس في حدث معين، إنها سمات عامة تصاحب كل مواقف السيرة من أولها إلى آخرها، ونسأل الله أن ينفعنا بها جميعًا.
السمة الأولى: شخصية رسول الله الباهرة
أما السمة الأولى التي نلحظها في السيرة النبوية فهي الشخصية المبهرة لرسول الله ، والتي ظلت محافظة على هذا الإبهار منذ الميلاد وإلى الممات، وهذا أمر عجيب حقًّا، لا يفسر إلا بكون هذا الرجل رسولاً من رب العالمين، معصومًا من الآثام والشرور، لا أثر للشيطان عليه من قريب ولا بعيد، ولا سبيل إلى غوايته بصورة من الصور.
إنه أعظم شخصية في تاريخ الخلق، ليس في السابقين فقط، ولكن أيضًا إلى يوم القيامة، وليس بالمقارنة إلى عموم البشر فقط، بل بالمقارنة بالأنبياء والمرسلين.
مع أنه لم يكن رسولاً فقط، ولكن كان حاكمًا، وقائدًا، وزعيمًا كذلك، إلا أنه عاش مع صحابته، وأتباعه كواحد منهم، ما تفضل عليهم بطعام، ولا بشراب، ولا بسكن، ولا بمال، تحمل معهم الأذى في كل موضع، جاع معهم كما يجوعون، بل أكثر، وتعب معهم كما يتعبون، بل أشد، حوصر معهم، وهاجر معهم، وقاتل معهم، بل كان أقربهم للعدو، ما فر يومًا في حياته قَطُّ، لا في أُحُد، ولا في حنين، ولا في غيرهما، لم تزده كثرة الأذى إلا صبرًا، ولم يزده إسراف الجاهلية إلا حلمًا، ما غضب لِذَاتِه قَطُّ، وما انتقم لنفسه قَطُّ، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم حينئذ لله.
كان كريمًا واسع الكرم، جاءت له الدنيا راغمة، فأنفقها كلها في سبيل الله، فقد كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير، مع كونه يرأس دولة تشمل الجزيرة العربية بكاملها، لم يُورِّث درهمًا ولا دينارًا، وما عرف عنه قَطُّ أنه اختص نفسه بشيء، دون أصحابه وأتباعه.
كان كثير المخالطة لشعبه، لم يعتزل عنهم أبدًا، كان يجالس الفقراء، ويرحم المساكين، وتسير به الأَمَةُ في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يعود المرضَى، ويشهد الجنائز، ويخطب الجُمَع، ويعطي الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وهو في كل ذلك دائم الابتسام، منبسط الأسارير، متهلل الوجه.
كان رحيمًا بأمته تمام الرحمة، ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وكان كثير العفو حتى عمَّن ظلمه وبالغ في ظلمه، وكان واصلاً للرحم، حتى لمن قَطع رحمه، وبالغ في القطع.
ولهذه الخلال الحميدة، والصفات الفريدة أحبَّه أصحابه حبًّا لم يحبوه لأحد غيره قَطُّ، وأحبوه حبًّا لم يحبه أحد لأحد مطلقًا، حتى لاحظ ذلك أعداؤه، فقالوا في أكثر من موضع: ما رأينا أحدًا يحبه أصحابه، كما يحب أصحاب محمد محمدًا .
قدموه فعلاً على حب الوالد والولد، وعلى حب الزوج والعشيرة، وعلى حب المال والديار والأوطان، حتى كان الصحابي يجعل صدره درعًا يتلقى السهام؛ ليحمي رسول الله ، بل كان الصحابي يتمنى أن يقتل ولا يشاكَّ رسول الله شوكة في قدمه، وما كان الصحابة يقدرون على فراقه ، فإذا عاد بعضهم إلى بيته، أسرع بالعودة إلى المسجد، حتى يرى رسول الله ، حتى بكى بعضهم؛ لأنهم سيفارقونه يوم القيامة إذا دخلوا الجنة لعلوّ منزلته، وما سكنوا وارتاحوا إلا عندما بشرهم بأن المرء يُحشر مع من أحب.
ولم تكن عظمته في معاملاته مع الناس، أو في أخلاقه الكريمة فقط، ولكنه كان سياسيًّا بارعًا، وقائدًا حكيمًا، وخطيبًا مفوهًا، لا تفوت عليه صغيرة ولا كبيرة، تفيض الحكمة من فمه، أُوتي جوامع الكلم، يتكلم بالكلمات القليلة، فيمكث العلماء والحكماء الأعوام والقرون يستخرجون المعاني الهائلة منها، يحاور كأفضل ما تكون المحاورة، ويفاوض فما يتنازل أو يذلّ أو يظلم أو يغضب، يستعين بأصحابه ويشاورهم مع رجاحة عقله عنهم، وارتفاع منزلته فوقهم؛ فما يسفه رأيًا، ولا ينتقص أحدًا، الحكمة ضالته، أينما وجدها أخذها، ما دامت في حدود الشرع.
وكانت عظمته الحقيقية في أنه اتصف بكل هذه الصفات الحميدة، وغيرها في كل مواقف حياته، رأينا هذه الصفات في مكة، ورأيناها في المدينة، رأيناها في سلمه، ورأيناها في حربه، رأيناها وهو مطارد ومضطهد، ورأيناها وهو حاكم مُمَكّن، رأيناها وهو يتعامل مع أصحابه، وكذلك وهو يتعامل مع ألد أعدائه.
لا يفقد صوابه مهما ضاقت الدوائر، ولا يظلم حتى مع ألدّ أعدائه، ولا يفعل ما يوجب الندم، ولا يستحي أن يقول لا أعلم.
كانت حياته كلها على هذه الصورة البهية النقية، حتى انبهر به أعداؤه قبل أصحابه، وحتى عظّمه وبجَّله وقدره من سمع عنه، ولم يره، بل من لم يعاصره أصلاً من غير المسلمين.
يقول (بسمارك) زعيم ألمانيا وأوربا المشهور في القرن التاسع عشر: "إني أدعي أن حضرة محمد قدوة ممتازة، وليس في الإمكان إيجاد قدوة كمحمد ثانية".
ويقول أيضًا، وهو يخاطب رسول الله خطابًا معنويًّا: "إن البشرية رأت قدوة ممتازة مثلك مرة واحدة، ولن ترى ذلك مرة أخرى".
ويقول (برنارد شو) الأديب البريطاني المشهور: "لو كان محمد بن عبد الله بيننا الآن لحل مشاكل العالم كلها، وهو يشرب كوبًا من القهوة".
ويقول (لا مارتان) الشاعر الفرنسي المتميز: "من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان؟!".
ويقول أيضًا: "أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود".
ويقول (تولستوي) الأديب الروسي الكبير: "أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضًا آخر الأنبياء".
ويقول (جوته) الشاعر الألماني الشهير: "بحثت في التاريخ عن مثلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي محمد".
ويقول الدكتور (شبرك) العالم النمساوي: "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمته".
هذا هو رسولنا الذي نفخر، وتفخر البشرية بالانتساب إليه، تعرفنا على طرف ضئيل جدًّا من شخصيته العظيمة في هذه الصفحات، والإحاطة بعظمته -كما ذكرنا- تدخل في باب المستحيل.
هذه هي السمة الأولى البارزة من خلال دراسة السيرة النبوية.
السمة الثانية: عظمة جيل الصحابة
أما السمة الثانية في السيرة النبوية، فهي روعة وعظمة، ورقي الجيل الذي عاصر رسول الله من المؤمنين، وهم الصحابة .
والصحابة هم خير البشر بعد الأنبياء، وخير الأجيال منذ نشأة الأرض، وإلى يوم القيامة، ولا نقول ذلك استنباطًا، ولا استنتاجًا، ولكن نقوله نقلاً عن رسولنا .
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله قال: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الِّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".
والله قد اختار الصحابة لصحبة نبيه تمامًا كما اختار نبيه ، وقد كان الرسول أُمّيًّا لا يكتب ولا يقرأ، فكان لا بد من وجود جيل صالح ورع حكيم دقيق؛ لينقل بأمانة وبدقة ما قاله، أو فعله، أو أقره رسول الله .
فعدالة هذا الجيل أساس لنقل هذا الدين صحيحًا إلى الأجيال التي ستلحق بعد ذلك، وأي طعن في هذا الجيل يعني طعنًا مباشرًا في دين الإسلام.
لقد ظهر لنا منذ الصفحات الأولى في هذه السيرة، وحتى الخاتمة أن هذا الجيل كان أمينًا، مجاهدًا، متجردًا لله، حريصًا على كل خير، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، باذلَ الوسع كل الوسع لنصرة الله ورسوله ودين الإسلام.
رأينا في هذه الصفحات التي قرأناها مواقف مشرفة لا تحصى في كل المواطن؛ في مكة والمدينة وفي بدر وأُحد والأحزاب والحديبية والفتح وتبوك وغيرها، وليس في الغزوات أو المعارك فقط، ولكن في كل مواقف السيرة.
وليس معنى هذا أنهم جيل بلا أخطاء، أو أنهم معصومون من الزلل، ولكن -كما يقولون– أخطاؤهم تذوب في بحار حسناتهم، كما أنهم كانوا سريعي التوبة من ذنوبهم، سريعي الأوبة إلى الله ، وفوق ذلك لم يُتّهم واحد منهم بالكذب أو الخيانة أو التضليل، بل كانوا قدوة للبشرية جميعًا في كل خلق حسن، أو كل سمت محمود.
ويكفي لذكر فضلهم أن نذكر تعديل رب العالمين لهم، وذكره I إياهم في كتابه، وذلك عندما قال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
وإن النفس لتعجب، وإن العقل ليحار عندما يتخيل هذا الفضل العظيم الذي يستوجب أن يذكر الله طائفة من عباده في قرآنه المعجز، ويمدح صفتهم، ونصرتهم لله ورسوله، وشدتهم على الأعداء، ورحمتهم مع المؤمنين، ويثني على عبادتهم، ويطلع على قلوبهم، فيذكر أنها تبتغي فضل الله ورضوانه، ويذكر أنهم ذُكروا في التوراة والإنجيل قبل ميلادهم بمئات السنين، ويقرر رضاه عنهم، ومغفرته لهم، ومنَّه عليهم بالأجر العظيم.
هؤلاء هم صحابة الرسول ، والذين وصفهم عبد الله بن مسعود بقوله: "كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
وصدق عبد الله بن مسعود ، وعن الصحابة أجمعين.
السمة الثالثة: السنة مصدر أساسي للتشريع
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السنة النبوية مصدر أساسي لا غنى عنه من مصادر التشريع في الإٍسلام، والسنة التي أقصدها هنا، هي منهجه في الحياة، وهي كل قول، أو فعل صدر منه، وهي كذلك كل تقرير أقره.
وليس القرآن هو مصدر التشريع الوحيد كما يدعي بعض المنكرين للسنة، بل رأينا في السيرة النبوية من خلال دراستنا لأحوال الرسول أن حياته كانت تشريعًا كاملاً للأمة، وكانت تفسيرًا جليًّا لآيات القرآن الكريم، وكانت تفصيلاً لما أُجْمل في القرآن، وكانت بسطًا لما اختُصر في القرآن، بل كانت أحيانًا مشرعًا لأحكام لم تأتِ في القرآن أصلاً، مثلما رأينا في غزوة خيبر، عندما حرَّم رسول الله لحوم الحمر الإنسية.
لقد كانت دراسة السيرة النبوية تطبيقًا واضحًا لوصف السيدة عائشة -رضي الله عنها- الدقيق لرسول الله عندما قالت فيما رواه الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ . قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
لقد رأينا في السيرة النبوية بوضوح أن قصته لم تكن مجرد قصة لعابد يصلي ويصوم ويقوم ويقرأ القرآن؛ لكن حياته كانت تشريعًا كاملاً متكاملاً، قام فيها بتوضيح موقف الشرع في كل قضية من قضايا الحياة، مما يجعلنا نقول بصدق: إن الاستغناء عن السنة يعني الاستغناء عن الدين، وإن الطعن في حجيتها هو طعن في الإسلام ذاته، والسيرة أكبر دليل على ذلك.
السمة الرابعة: شمول الإسلام
وحديثنا عن أهمية السنة في التشريع الإسلامي يسحبنا للحديث عن شمول الإسلام، فالإسلام ليس كما يعتقد الكثيرون صيام وصلاة فقط، وليس موطن تطبيقه المسجد فقط، ولكن الإسلام دين يحكم كل دقائق الحياة، وكما يتضح من اسمه (الإسلام) هو إسلام كامل لله رب العالمين، ويظهر معنى الإسلام الذي أقصده في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
فالعبادة والحياة والممات كلها لله ؛ فلذلك فإن الدين الإسلامي مختلف تمامًا عن غيره من الأديان، فما بقي من الكتب السماوية الأخرى غير القرآن، قد حُرّف تحريفًا شديدًا، حتى لم يبقَ فيه إلا مجموعة من القصص والحكايات، وبعض الرقائق والأخلاق.
أما القرآن والسنة فهما دستور وقانون وتشريع، ومن ثَمَّ فالمسلمون لا يحتاجون إلى قانون وضعي، كما تحتاج الأمم الأخرى، بل وضع لنا قانوننا ربُّنا الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلح له ويصلحه.
وليس معنى هذا أن في التشريع جمودًا يمنعه من مواكبة تغيرات الزمان، ولكن على العكس التشريع به مرونة كبيرة جدًّا، تجعله صالحًا لكل ظرف، وقابلاً للتطبيق في الجزيرة العربية، وفي غيرها من بقاع العالم المختلفة، وقابلاً للتطبيق في زمان رسول الله ، وكذلك في الأزمان التي لحقت، وفي زماننا، وإلى يوم القيامة، وهذا لاحظناه بجلاءٍ في السيرة النبوية، فقد واجه ظروفًا متباينة تمامًا في مراحل حياته المختلفة، ومع ذلك فقد كان هناك قانون لكل فترة حسب الظروف والمتغيرات، وكان هذا القانون من الشمول بحيث إنه غطى كل جوانب الحياة الإيمانية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والعسكرية، وغير ذلك من الجوانب.
استوعب القانون معاملات الرسول وأصحابه في فترة مكة، فترة الاضطهاد والتعذيب والتنكيل، وكذلك معاملات الرسول وأصحابه في المدينة المنورة، في كل مراحلها؛ سواء في فترة الإعداد، أو في فترة الصدام مع العدو، أو في فترة التمكين والعلو في الجزيرة، أو في فترة العالمية.
كذلك شمل القانون الإسلامي كل بنود السياسة المُتخيلة، فكان له بنود تختص بالمعاهدات، وبنود تختص بالحروب، وبنود تختص بالأسرى، وبنود تختص بالعلاقات الدولية والدبلوماسية مع الغير، وبنود تختص بالمسلمين وبغير المسلمين.
وفي أبواب الاقتصاد قوانين هائلة وتشريعات في منتهى الدقة تحدد كيفية المعاملات الاقتصادية على مستوى الفرد، وعلى مستوى الدولة، ورأينا في السيرة النبوية حرص الرسول على هذا الجانب واهتمامه به، ووضوح الرؤية لكل فروع الاقتصاد في هذا المنهج الرباني المحكم.
وما ذكرناه عن السياسة والاقتصاد ينطبق على كل فروع الحياة مهما دقَّت أو صغرت؛ مما يجعلنا نجزم بشمول المنهج الإسلامي، وأنه منهج بلا ثغرات مطلقًا، وكيف يكون به ثغرات وهو منهج رب العالمين I؟!
وكيف يصل المخلوق إلى ما هو أبدع وأروع مما صنعه الخالق؟!
السمة الخامسة: الوسطية
السمة الخامسة البارزة في السيرة النبوية، هي الوسطية في منهج حياة الرسول ، ولا بد أن نتحدث عن الوسطية بعد حديثنا عن الشمول، فالذي يدرس السيرة ويتجول بين صفحاتها يدرك تمامًا أن الرسول تعامل مع قضايا حياته المختلفة بتوازنٍ رائع، ووسطية موفقة.
فليس معنى أنه كان يجد قرة عينه في الصلاة أن يهمل بيته، بل كان يأمر الصحابة الذين يبالغون في العبادة إلى درجة إهمال شئون حياتهم الأخرى أن يقللوا من العبادة، وأن يأخذوا من وقت صلاة القيام ومن وقت الصيام قسطًا، ويعطوا زوجاتهم وأولادهم.
وليس معنى أنه يحب الإنفاق في سبيل الله، ويحض عليه أنه يترك أصحابه ينفقون كل أموالهم في سبيل الله، دون أن يتركوا شيئًا لأولادهم، بل أمرهم أن يتركوا ورثتهم أغنياء، ولم يقبل منهم إنفاق المال كله في سبيل الله، إلا في ظروف معينة، ومن أفراد بعينهم كالصديق في قصة الهجرة وتبوك.
وليس معنى أنه يحب الموت في سبيل الله حتى قال: "لَوَدِدْتُ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ"؛ أن يُلقِي بنفسه في المهالك دون اكتراث، أو أن يأمر أصحابه بذلك، بل رأيناه في السيرة يلبس درعين، ويؤمّن ظهره، ويحمي جيوشه وشعبه.
وليس معنى أنه يكثر من التسامح والعفو، ويؤثر جانب اللين والرفق أنه يتهاون في حق الله ، أو في حقوق العباد، أو فيما يمس كرامة الدولة الإسلامية، فكما رأيناه يعفو عن أهل مكة مع شدة إيذائهم له، وجدناه يهدد مجموعة من أكابر المجرمين، ويأمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة. وكما رأيناه يعفو عن قبائل كثيرة صدت عن سبيل الله، وجدناه يثور ويغضب لامرأة مسلمة كُشِفت عورتها، ولرجل مسلم قُتل، فأخرج جيشًا لحرب بني قينقاع.
وهكذا، حياة متوازنة راقية، لا إفراط فيها ولا تفريط، ولا تركيز على جانب وإهمال آخر، لا تشدد وتطرف، وكذلك لا تَسيّب وتنازل، ولا ركون ودعه، وكذلك لا اندفاع وتهور، ولا بخل وشح، وكذلك لا إسراف وتبذير، حياةٌ متوازنةٌ، عبر عنها قول الله وهو يصف هذه الأمة العظيمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
السمة السادسة: البعد الأخلاقي العظيم في كل التشريعات الإسلامية
لقد قصر رسول الله الهدف من بعثته على إتمام مكارم الأخلاق، فقال فيما رواه البيهقي عن أبي هريرة : "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ".
وعند النظر إلى كل شعائر الإسلام تجد أنها في المقام الأول تسمو بالأخلاق، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم ينهى عن قول الزور، وعن الشقاق والعراك والتشاحن، والصدقة تطهر النفس، وتوطد العلاقات الطيبة في المجتمع، وهكذا في كل الشعائر، وفي كل التشريعات. وفي قراءتنا للسيرة رأينا أن الرسول كان حريصًا على هذا الجانب الأخلاقي في كل مواقفه، وفي كل معاملاته.
وبلغ هذا الرقي في الأخلاق من المستوى ما لا يتخيله أحد، ويكفي أن نذكر جانبين يتعجب الكثير في زماننا الآن من ارتباط الأخلاق بهم، فقد دأب العالم الذي يسمونه متحضرًا على إنكار الأخلاق في هذين الجانبين بالذات.
أما الجانب الأول فهو (الجانب السياسي)، فقد أَلِف الناس تصوير السياسة على أنها خبث وكيد وخيانة وغدر ونفاق وعنف، وأَلِف الناس على تصوير السياسي بأنه رجل بلا أخلاق ولا ضمير ولا عهد، ولكن رسول الله أثبت لنا عكس ذلك تمامًا، وأثبت لنا أن الدين له مكان في كل شيء في حياتنا، حتى في السياسة بكل متقلباتها، وأثبت لنا أنه لا صحة للمقولة الفاسدة التي تقول: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.
رأيناه في مكة، وفي المدينة يحاور ويناور ويفاوض، ولكنه ما كذب ولا غدر ولا خان، بل إنه لم تخرج منه كلمة سوء يندم عليها، ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، حتى مع أعتى الأعداء، وألد الخصوم، بل كان واسع الصدر متبسّمًا هادئًا حَيِيًّا، حتى عند غضبه، فإن غضبه لا يخرجه عن شعوره ولا عن أدبه، وكان على خُلُقٍ عالٍ في سياسته الداخلية مع شعبه وحكومته وأعوانه وأنصاره بل مع معارضيه، بل مع المنافقين معلومي النفاق بالوحي، وكان يحسن صحبتهم، ويعفو عن سبابهم، أو قطيعتهم.
وكان على خُلُقٍ عالٍ كذلك في سياسته الخارجية مع رسل وأمراء وملوك العالم، حتى من حاربه منهم، فإنه لم يخرج أبدًا عن حدود اللياقة والأدب وحسن الخلق.
وإذا أردتم الاطّلاع على أخلاقه في السياسة، فراجعوا محاورته مع كفار مكة، أمثال عقبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبي جهل، ووفود قريش المتتالية، وكذلك اطلعوا على مباحثاته مع بني عامر، وبني شيبان وغيرهم، وراجعوا بيعتي العقبة الأولى والثانية، وراجعوا معاهداته ومحاوراته مع اليهود، ومع مشركي المدينة، وراجعوا صلح الحديبية، وراجعوا استقباله للوفود المختلفة على مدار السنوات المتتالية، وراجعوا رسائله إلى ملوك العالم، وراجعوا خُطَبه السياسية، ومكاتباته إلى عماله وأمرائه.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن علينا أن نراجع حياته بكاملها؛ لأنه ما خلت لحظة من لحظات حياته، ولا مرحلة من المراحل التي مر بها من سياسته، إلا تبدت فيها -إلى جانب الحكمة والحنكة- الأخلاق الرفيعة، والخِلال الحميدة.
كانت هذه هي الأخلاق في الجانب السياسي من حياته، وهو ما قد يستغربه سياسيو العصر الحديث، ومحللو العالم ومفكروه.
وأما الجانب الآخر الصعب الذي يفشل زعماء العالم، وقادته في تجميله بالأخلاق، فهو (الجانب العسكري)، وهذا الجانب -كبقية الجوانب في حياته - كان متصفًا بالخُلُق الرفيع في كل مراحله، وهذا أمر لا يعيه أو يفقهه الكثير، فالناس تتعجب كيف أتّصف بالخُلُق وأنا أحارب؟!
وكيف أتصف بالخُلُق، وأنا أقاتل الآخرين في معركة أو في هجوم؟!
الواقع أن الضوابط الأخلاقية التي وضعها رسول الله في حروبه من المستحيل الإلمام بها في هذه العجالة، ولكنها تحتاج إلى بحث مفصل، ودراسة متأنية، ويكفي أن نذكر أنه كان دائمًا يجعل الحروب آخر الحلول، فلم يكن متشوقًا للدماء كما نرى الكثير من قادة وعسكريي العالم، وكان كثير العفو عن العدو في حال تسليم العدو ورضوخه، وراجعوا فتح مكة، وغزوة حنين، كان يحرم الخيانة في الحرب، أو نقض العهد، أو الهجوم دون إنذار، وكان يحرم قتل النساء، والأطفال، وكبار السن، ورجال الدين غير المحاربين، وكان يُكْرم الأسرى، ويوصي بهم، وكان يحرم قطع النخيل، والأشجار إلا لضرورة عسكرية، وكان لا يهدم الديار، ولا يخرب الأراضي، ولا يعيث في الأرض فسادًا، ولم يكن متصفًا قَطُّ بما اعتدنا أن نراه في الحروب غير الإسلامية، سواء في القديم أو الحديث.
لقد كانت دعوة الإسلام دعوة أخلاق في المقام الأول، والقارئ للسيرة سيجد أن هذه سمة بارزة لا تخفى على محلل، ولا يجهلها منصف، وصدق الله في وصفه للرسول عندما قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].