عودة الأنصار إلى المدينة بعد البيعة
حرية الانتخاب من قواعد الإسلام
تمت بيعة العقبة الثانية وسيعود الأنصار إلى بلادهم لكي يمهدوها لاستقبال خير البشر ومن معه من المهاجرين، ولتكون العاصمة الأولى لدولة الإسلام، لكن كيف سيتابع رسول الله أمر الأنصار بعد ذلك، هل يرسل معهم رجلاً كما أرسل مصعب بن عمير من قبل؟ كلا، لقد نضج الأنصار نضجًا كافيًا يجعلهم أهلاً لإدارة أمورهم بأنفسهم، فهل يختار رسول الله زعيمًا عليهم؟
لا، لقد كان رسول الله حكيمًا إلى أبعد درجة في تعامله مع هذا الأمر، لقد أقر قاعدة عظيمة من قواعد الحكم في الإسلام وهي قاعدة الانتخاب، على الشعب أن ينتخب ممثليه انتخابًا حقيقيًّا ليس فيه تدخل من القائد الأعلى، ولا من أتباع القائد الأعلى، لقد قال رسول الله للأنصار: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثَنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا؛ لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِكُمِ بِمَا فِيهِمْ".
لم يتدخل رسول الله ولم يتدخل المؤمنون السابقون، ولكن الحرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم، وجلس الأنصار معًا يجرون عملية الانتخاب، وقد جلس الأوس والخزرج لأول مرة في تاريخهم، يختارون حكومة ائتلافية، كانوا من قبل يتصارعون ويتقاتلون ويذبح بعضهم بعضًا، ثم آمنوا، فانظر إلى حالهم، وقد وضعوا أيديهم على أكتاف بعضهم البعض، يختارون حكومة شرعية للمدينة المنورة، قائد الحكومة هو رسول الله ، ودستور الحكومة هو الكتاب والسنة، وجند الحكومة هم الأنصار والمهاجرون، عما قليل سيصبح للإسلام دولة.
الأوس والخزرجإن الذي جمع الأوس والخزرج هو توحيد الغاية والهدف، عندما كان الكرسي هدفًا والقيادة مطلبًا كان الخلاف والنزاع الذي لا نهاية له، وعندما أصبحت الجنة هي الهدف وهي الغاية وهي الثمن، علم الجميع أن جنة الأوس هي جنة الخزرج هي جنة المهاجرين هي جنة كل المسلمين، وانقلب التنافس على الكرسيّ إلى التنافس على الجنة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
وقد علم الجميع أن الوحدة والألفة طريق للجنة، وأن الفرقة والتشرذم طريق للنار، فجلس الجميع معًا منذ علموا هذه الحقيقة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وفي دقائق معدودة انتخب الأنصار نوابهم، وتم الانتخاب بنسبة التمثيل في البيعة، فكان الخزرج يمثلون خمسة وسبعين في المائة من المبايعين، وكذلك كان نوابهم يمثلون خمسة وسبعين بالمائة من النواب.
نقباء الخزرج
1- أسعد بن زرارة ، وهو من أوائل المسلمين من الأنصار، وهو الذي جعله الله سببًا في إسلام معظم الأنصار.
2- البراء بن معرور .
3- عبد الله بن عمرو بن حرام ، وهو من شهداء أحد.
ولنا وقفة مهمة مع هذين الاسمين، فهما وإن كانا حديثي الإسلام، إلا أنهما من سادة الخزرج سابقًا، والإسلام يحفظ للناس مكانتهم ووضعهم، ولم يقل لهما أحد إنكما لا تعرفان ما نعرف، بل وجد الأنصار في البراء بن معرور وعبد الله بن حرام -إلى جانب مهارتهما القيادية- فِقْهَ الأنصار السابقين إلى جانب الوضع الاجتماعي والمكانة المرموقة لقواد يثرب القدماء. وهكذا لا ينتقص الإسلام من قدر أحد بل يحافظ عليه ويستفيد منه.
4- سعد بن عبادة وهو أيضًا من سادات الخزرج المشهورين.
5- عبادة بن الصامت الصحابي الجليل المشهور.
6- سعد بن الربيع من أكابر الصحابة وأفضلهم، وهو من شهداء أحد.
7- عبد الله بن رواحة الصحابي المشهور الشاعر الشهيد، وهو من شهداء مؤتة.
8- رافع بن مالك ، وهو الذي كان يقول: ما أحب أني شهدت بدرًا ولم أشهد العقبة. وحجته في ذلك أنه لولا العقبة ما كانت بدر ولا غيرها.
9- المنذر بن عمرو ، وهو من شهداء يوم بئر معونة.
هؤلاء هم نقباء الخزرج.
نقباء الأوس
1- أسيد بن حضير ، الصحابي الجليل ومن أوائل الذين أسلموا من الأوس.
2- سعد بن خيثمة ، وقد استشهد في بدر.
3- أبو الهيثم بن التيهان ، وقيل بدلاً منه: رفاعة بن عبد المنذر.
ويختفي من هذه الأسماء البطل الإسلامي العظيم سعد بن معاذ ، الذي لم يستطع أن يحضر هذه المباحثات وهذه البيعة في مكة.
وبعد هذا الانتخاب الحر عقد رسول الله اجتماعًا مهمًّا على مستوى القمة مع هؤلاء النواب وقال لهم في هذا الاجتماع: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بِنْ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي". يعني المسلمين من أهل مكة.
فقالوا: نعم.
وبهذا يستطيع رسول الله أن يدير الأمور بكفاءة، ولم يكتف بذلك بل طلب من نقباء المدينة أن يختاروا واحدًا منهم يكون بمنزلة نقيب النقباء، فاختاروا أصغرهم، وهو أسعد بن زرارة . وواضح أنه شاب موهوب صاحب ملكات فذة أهلته لهذا المنصب الرفيع، كما لم يعفِ رسول الله نفسه من المسئولية، فجعل نفسه كفيلاً على المسلمين من أهل مكة، بمعنى أنه يتحمل أعمال هؤلاء، ويتكفل بأمورهم أمام الأنصار.
وهكذا انتهت مراسم البيعة الفريدة المباركة بنجاح، بل نجحت نجاحًا ما كان أحد يتخيله. كل هذا النجاح يتم في عقر دار المشركين، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله ، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
اختيار موفَّق
ونظرة سريعة على سيرة هؤلاء الأنصار بعد ذلك تجد أمورًا عظيمة ذات مغزى:
- قُرابة السبعين من هؤلاء -أي تقريبًا معظمهم- اشترك في غزوة بدر الكبرى.
- حوالي نصف العدد قد اشترك مع الرسول في كل المشاهد والغزوات.
- حوالي الثلث مات شهيدًا في سبيل الله.
أربعون بالمائة من النقباء ماتوا شهداء في سبيل الله (خمسة من اثني عشر)؛ مما يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى القيادة على أنها مسئولية، لا مجرد تشريف أو منصب.
- لم يُؤْثَر عن أي واحد من هؤلاء الفرار لا في (أُحُد) ولا في (حُنَين ) ولا في غيرهما.
- لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء طلب للدنيا ولا للإمارة ولا للمال، وعندما وزع رسول الله الأموال الكثيرة على المسلمين في حُنين وخاصة المؤلفة قلوبهم، ولم يأخذ الأنصار شيئًا، قال لهم رسول الله : "أَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذَهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إلى رِحَالِكُمْ؟" فبكى الأنصار حتى أَخْضَلُوا لِحَاهُم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.
خلاصة القول أن الصدق الكامل في قلب الرسول ، وفي قلوب الأنصار المبايعين في هذه البيعة هو الذي كفل النجاح لهذه البيعة الفريدة، ولولا ذلك ما تمت وما اكتملت، {لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24]. إنهم صدقوا الله فصدقهم الله .
الشيطان يكتشف البيعة
لكن هل يأتي زمان لا تكون فيه حرب بين الحق والباطل؟ كلا، لا يمكن، هي سنة ماضية من سنن الله ، ولذلك لم يمرَّ الأمر دون تنغيص ودون خطورة، لقد اكتشف المعاهدة شيطان، سبحان الله! شيطان حقيقي، وكان الشيطان بالطبع أتعس مخلوق عرف بهذه البيعة.
روى ذلك الإمام أحمد عن كعب بن مالك وهو ممن شهد العقبة، قال: لَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ (أي المنازل)، هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ (يقصد محمدًا ، وكان الكفار لعنهم الله يطلقون على محمد اسم مذمم استهزاء به) وَالصُّبَاةُ مَعَهُ، قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟
لقد أخذ رسول الله ومن معه من المؤمنين كل حذر ممكن لتأمين مكان المباحثات، ونجحوا بالفعل في الاختفاء عن أعين آلاف المشركين، ولكن كيف لهم أن يمنعوا الشيطان من مراقبة الحدث الكبير؟ لقد شاء الله أن يوجد هذا الشيطان، وكان الله يستطيع أن يصرفه عن هذا المكان وعن هذا الزمان، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ الحكمة الكاملة لا يعلمها إلا الله ، ولكن ظهر لنا من وراء ذلك حكم وفوائد وعبر وأحكام، وسبحان الله الذي جعل من كل خطوة، وكل لحظة، وكل كلمة من رسول الله قدوة ودرسًا وتعليمًا للمسلمين.
لما صرخ الشيطان بهذا الصوت لينبه أهل مكة النيام لهذه البيعة الجليلة، قال رسول الله : "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ -أي شيطان العقبة- هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لأَفْرُغَنَّ لَكَ".
ثم إن رسول الله علم أن قريشًا ستأتي بعد قليل إلى هذا المكان، فقال للأنصار بسرعة: "ارْفَعُوا إلى رِحَالِكُمْ". يريد لهم العودة إلى خيامهم حتى لا يُكشفَ أمرهم، لكن قام له صحابي جليل هو العباس بن عبادة ، وقال قولاً رائعًا يدل على مدى صدقه وتضحيته وتجرده.
قال: والذي بعثك بالحق، لئن شئت لنميلَنَّ على أهل مِنًى غدًا بأسيافنا.
يا الله! انظروا إلى صدق العباس بن عبادة وشجاعته، إنه يقول لرسول الله لا يهمك من اكتشاف أمرنا، لو أردت أن نقاتل الآلاف المؤلفة من أهل منًى المشركين لفعلنا. لقد فقه العباس بن عبادة معنى الطاعة لله ولرسوله، وفقه معنى البذل والفداء، وفقه معنى الجهاد في سبيل الله، هو الذي كان منذ لحظات يوضح للأنصار بكلامه البديع حقيقة المعركة حيث قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، وها هو الفعل يصدق القول، مع أن القتال في مِنًى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، لقد بايعوا على حماية ونصرة رسول الله إذا ذهب إلى المدينة المنورة، أما وهو في مكة فلم يتفق على حرب بها، ولكن العباس بن عبادة يبحث عن الثمن، يبحث عن الجنة، والجنة تأتي بجهاد في المدينة كما تأتي بجهاد في مكة، فبماذا رد عليه رسول الله ؟ لقد قال في وضوح: "لم أؤمر بذلك".
وهذا هو فقه الموازنات وفقه الواقع، فلو تَقَاتَل الأنصار الآن مع المشركين فلا شك أنهم سيبادون عن آخرهم، نعم سقطوا شهداء، ولكن أين الدولة؟ وأين الدعوة؟ وأين التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين؟ لقد رأى رسول الله أن الزمان ليس مناسبًا وكذلك المكان ليس مناسبًا، وسيأتي وقت يستعد فيه المسلمون استعدادًا أفضل وسيكون ساعتها النصر أرجى، لكن الآن، لو اندفع المسلمون إلى حرب غير مدروسة وغير محسوبة، فلن تكون هناك هجرة، ولن تكون هناك بدر، ولن تكون هناك أمة، ليس جبنًا أو تفريطًا ولكن فقهًا وحكمة.
عاد الأنصار بالفعل مسرعين إلى رحالهم، ودخلوا في فراشهم دون أن يدري بهم أقاربهم وأصحابهم من مشركي يثرب، وناموا معهم بقية الليل، وكأن شيئًا لم يكن.
الخبر يبلغ قريشًا
ثم جاء الصباح، وقد سمع أهل قريش بخبر اجتماع الرسول بأناس من الوفد اليثربي، فاجتمع زعماء قريش وكوَّنُوا وفدًا عالي المستوى، وذهبوا يخاطبون رئاسة الوفد اليثربي والمتمثلة في عبد الله بن أُبيّ بن سلول المشرك.
قالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيٍّ من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
والحقُّ أن طريقة اعتراض قريش كانت دبلوماسية إلى أقصى درجة، فقد قدمت بالود والعاطفة والرجاء، فقد أعلنوا أنهم يكرهون معاداتهم ولا يحبون الاختلاف معهم! ولكن في الوقت نفسه فإن هذا العرض الودي يحمل بين طياته تهديدًا خفيًّا خطيرًا، فهم يعلنون لهم أنهم إن ثبت التعاون بينهم وبين رسول الله ، فإن النتيجة هي الحرب، وقريش ليست بالقبيلة الهينة، بل هي أعز قبيلة في العرب وحلفاؤها كثر، إذن هذا إنذار بالحرب مغلف في ثوب من الحرير.
هنا هبَّ مشركو يثرب يدافعون عن أنفسهم، وبالفعل هم لا يدرون شيئًا عن البيعة فقد تمت في سرية تامة، ولذلك قام الوفد اليثربي يقول: نحلف بالله ما كان من شيء، وما علمناه. فذهب المشركون من قريش إلى عبد الله بن أبي بن سلول زعيم الوفد اليثربي، فقام يقول في حميَّة: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا عليَّ مثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.
ذكاء الأنصار وفطنتهم
ماذا كان موقف الأنصار مما يحدث؟
لقد نظر بعضهم إلى بعض في صمت وكأنهم لا يعرفون شيئًا، بل حاول كعب بن مالك أن يخرج بالحوار عن هذا الموضوع حتى يشغل قريش ويلطف الموقف، فنظر إلى الحارث بن هشام بن المغيرة أحد ممثلي وفد قريش وهو أخو أبي جهل لعنه الله، وكان يلبس نعلين جديدين، فقام يخاطب عبد الله بن حرام زميله المسلم ويقول: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش. فسمعها الحارث، فخلع نعليه ورمى بهما إلى كعب بن مالك وقال: والله لتنتعلهما. فقال أبو جابر: أحفظت والله الفتى، فاردد عليه نعليه. فقال كعب بن مالك : والله لا أردهما.
مع العلم أن كعب بن مالك من أغنياء يثرب، ولكن كان له نظرتان في هذا الأمر، فهو من جانب يريد أن يشغل قريش بهذا الحديث عن أمر الأنصار المسلمين، ومن جانب آخر فإن كعب بن مالك قد استبشر بامتلاك شيء من ممتلكات المشركين، وقال: والله لئن صدق الفأل لأسلبنَّه. أي لو صدق الذي تفاءلت به ليأتين يوم نحارب فيه المشركين وننتصر عليهم ونسلب ممتلكاتهم، وسبحان الله! مرت الأيام وجاءت بدر واشترك كعب بن مالك في الغزوة وانتصر وجمع الغنائم، واشترك الحارث بن هشام بن المغيرة في المعركة أيضًا وخسر وفقد أملاكه فاستلبه المسلمون، بل وفقد أخاه أبا جهل في الموقعة، وصدق الفأل الحسن الذي ظنه كعب بن مالك ، وتأخر إسلام الحارث بن هشام إلى فتح مكة حيث أسلم وحسن إسلامه.
المهم في هذا الموقف أن المشركين من قريش اقتنعوا برد الوفد اليثربي وعادوا دون إحداث أية مشاكل معهم، ولكن عندما عاد المشركون دققوا النظر من جديد وقاموا ببعض التحريات علموا منها أنه كان بالوفد اليثربي مسلمون، بل وعرفوا أسماء بعض منهم.
المسلمون يلتزمون بعدم القتال
أسرع كفارُ قريشٍ إليهم ليدركوهم، فوجدوا أن الحجيج قد نفروا، فأسرعوا وراءهم فرأوا عن بعد سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وهما من النقباء فطاردوهما، فاستطاع المنذر بن عمرو أن يهرب، ولكنهم أمسكوا بسعد بن عبادة سيد الخزرج، فقيدوه بالحبال وربطوا يده على عنقه وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجذبونه من شعره حتى أعادوه إلى مكة.
موقف خطير، لقد أوذي الزعيم الخزرجي المؤمن في الله إيذاءً شديدًا، إنه الزعيم الذي لم يُهَن في حياته قط، ها هو يقيد ويضرب ويُجرُّ على الأرض، كم هو صعب طريق الجنة! والمسلمون في مكة ينظرون إلى أخيهم المؤمن وهو يضرب ولا يستطيعون حراكًا وكذلك رسول الله ؛ لأنهم لو تحركوا له لأثبتوا حدوث البيعة واللقاء بين رسول الله ووفد يثرب، وإلا لماذا يدافع المسلمون عن رجل من الخزرج؟ الموقف حرج للغاية، ثم إنه لو عاد الأنصار لنجدة سعد بن عبادة فستكون مهلكة، وهم كانوا بالفعل يستعدون للعودة إنقاذًا لأخيهم ونقيبهم وزعيمهم، ولو حدث قتال فإنه قد تفنى الطائفة التي قد تغير من خريطة العالم.
في هذا الموقف الخطير يخرج جبير بن المطعم بن عدي، والحارث بن حرب بن أمية أخو أبي سفيان وهما من المشركين يخرجان فيريان الموقف، فيسرعان إلى سعد بن عبادة ويجيرانه من كفار قريش؛ لأن سعد بن عبادة كان يجير لهما قوافلهما عند المرور بيثرب. وهكذا أنقذت القوانين المكية سعد بن عبادة ، ولم يجد أحد من المسلمين في ذلك غضاضة؛ لأنه كان إنقاذًا غير مشروط، فسعد بن عبادة استفاد من قوانين المجتمع المشرك دون أن يتنازل عن شيء من دينه وعقيدته، بل إننا ذكرنا فيما قبل أن الرسول نفسه قد دخل في جوار المطعم بن عديّ وهو مشرك، وهكذا كان التقاء المصالح واستغلالها سببًا في نجاة سعد .
وهكذا عاد سعد بن عبادة إلى قافلته، ومرت الأحداث بسلام، ووصل الأنصار إلى المدينة وبدءوا يمهدون الوضع هناك لاستقبال خير البرية وسيد البشر، وخاتم المرسلين محمد r؛ وليستعدوا جميعًا لوضع النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام (المدينة المنورة).