وجاء الأنصار لرسول الله
قام رسول الله من مجلس بني شيبان الذين فاتهم الإيمان في هذا المجلس، وانتقل مباشرة إلى مجلس مجموعة صغيرة قليلة من الرجال سمعهم يتكلمون، وكان رسول الله لا يترك كبيرًا ولا صغيرًا، ولا كثيرًا ولا قليلاً إلا دعاه للإسلام.
ذهب إليهم بنفس الحماسة والنشاط، وجلس إليهم وكان عددهم ستة، فقال لهم: "مَنْ أَنْتُمْ؟" قالوا: نفر من الخزرج.
والخزرج هي إحدى قبيلتين كبيرتين قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج، تسكنان يثرب، ويثرب مدينة في شمال مكة على بعد حوالي خمسمائة كيلو متر أو أقل قليلاً، فسألهم رسول الله سؤالاً مهمًّا جدًّا.
قال لهم : "أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟" يعني حلفاء اليهود.
قالوا: نعم.
وجاء الأنصار
رسول الله رجل يطَّلع على أحوال زمانه، ويدرس بعناية موازين القوى في العالم في ذلك الوقت، فكما كان يعرف وضع بني شيبان ومملكة فارس، وخطورة أن يتعاهد مع بني شيبان وعين لهم معه، وعينهم الأخرى مع كسرى، فهو يعلم أن اليهود يسكنون يثرب وأنهم قوة سيكون لها أثر على الدعوة، وسيكون لها أيضًا أثر على من يسكن بجوارهم من الأوس والخزرج، ولا بد أن يؤخذ في الاعتبار عند المباحثات مع الخزرج، وكون الخزرج يسكنون بجوار اليهود ويحالفونهم فهذا أمر له إيجابياته وله أيضًا سلبياته؛ فمن إيجابياته أن اليهود قوم نزل فيهم أنبياء كُثُر، ولا بد أن الحديث عن الأنبياء أمر مألوف في يثرب، ولن يستغرب الخزرج الحديث عن أن الله أرسل رجالاً إلى البشر، كما أن اليهود يعلمون أن هذا الزمان قد أظل نبيًّا ولعلهم يتوقعون ظهوره بين لحظة وأخرى، ولعلهم في حديثهم مع الخزرج أشاروا إلى ذلك.
إذن فالخلفية الثقافية للخزرج تعطي إحساسًا أنهم قد يتقبلون فكرة الرسالة والرسول، ومن ناحية أخرى فسكن الخزرج بجوار اليهود ومحالفتهم لهم له آثاره السلبية، فاليهود كما جاء في كتاب الله أهل غدر وخيانة، وقد سطر القرآن المكي أفاعيلهم الشنيعة مع أنبيائهم السابقين، وذكر القرآن المكي بالتفصيل ما فعلوه مع موسى ، وما فعلوه مع عيسى ، وما فعلوه مع غيرهم من تكذيب وإهانة وإنكار واستخفاف وصل إلى حد القتل مع بعضهم ومحاولة القتل مع عيسى ، هؤلاء هم اليهود، فماذا سيفعلون مع رسول الله ؟ سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة، ولكن رسول الله الآن يجلس مع بعض الخزرج، ولا بد أن يضع كل هذه الاعتبارات في ذهنه عند الحديث إليهم.
قال الرسول : "أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟"
قالوا: نعم.
قال: "أَفَلا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟"
قالوا: بلى.
فجلس معهم رسول الله ، ودعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن الكريم، فبلغ القرآن منهم كل مبلغ، وعلموا أنه الحق، وأن هذا رسول، لكن كم من البشر قبل ذلك عرفوا هذه الحقائق ولم يؤمنوا، كم من البشر في مكة وغيرها علموا أن هذا القرآن ليس في مقدور البشر، وأن هذا الرجل صادق لا يكذب ومع ذلك لم يؤمنوا، أما هؤلاء الستة من الخزرج فقد آمنوا من ساعتهم.
كيف آمنوا؟ وكيف قبلوا في مجلس واحد أن يغيروا من الدين الذي ولدوا وهم يعرفونه إلى دين جديد لم يسمعوا عنه إلا من دقائق؟! وكيف أخذوا في لحظة قرارًا قد يضعهم في ناحية والعرب جميعًا، بل والعالم في ناحية أخرى؟
هذا تدبير رب العالمين، هذا تدبير اللطيف الخبير.
لقد جهز الله هؤلاء النفر ليؤمنوا، جهزهم الله في خفاء فهو اللطيف سبحانه، جهزهم بطريقة لا يحسب لها بشر حسابًا، ولكنه تقدير العزيز العليم.
انظر وتأمل
أولاً: خلفية العلاقة مع اليهود
اليهود خلق عجيب، كانوا يعلمون أنه قد اقترب ظهور نبي آخر في الزمان، وكانوا يتوقعون أو يرغبون أن يكون منهم وفيهم، فمعظم الأنبياء السابقين كانوا منهم وفيهم، وكانت لهم طبيعة جافة قاسية منكرة، فكان إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج خلاف قالوا لهم أنه سيظهر في هذا الزمان نبي، وسوف نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. سبحان الله! بدلاً من أن يقولوا سيظهر نبي نتبعه وندعوكم إلى الإيمان به واتباع سبيل الأنبياء، يقولون إنه سيتبعونه ليقتلون به الأوس والخزرج، فنتيجة هذه الأخلاق الفاسدة حدث أمران جليلان:
الأمر الأول: أنه قد وقر في قلوب الأوس والخزرج بغض شديد لليهود، ولم يكن التحالف بينهم إلا للمصالح المادية فقط، ومن ثَمَّ فإن انفصال الأوس والخزرج عن اليهود كان أمرًا ميسورًا نسبيًّا.
الأمر الثاني: أن الأوس والخزرج كانوا يقتنعون بقرب ظهور الرسول أو على الأقل يعتقدونه أمرًا محتملاً ممكنًا، وهم في الوقت ذاته يخافون منه، ومن اتحاد اليهود معه ضدهم؛ ولذلك عندما علموا أن هذا هو النبي المنتظر قالوا لا نضيع الفرصة، بل نسرع بالإيمان به، فلو عدنا إلى يثرب نفكر ونفكر، ونتروَّى ونتروى، قد يعلم اليهود بأمر هذا الرسول فيسبقوننا إليه.
ظهر هذا واضحًا في كلامهم أمام الرسول ، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه.
فانظر إلى تدبير رب العالمين وتأمل، لولا غلظة اليهود ما أخذ الخزرج قرارهم بهذه السرعة، ولكن الله يفعل ما يشاء.
ثانيًا: الخلفية الاجتماعية لمدينة يثرب في ذلك الوقت
كانت يثرب تضطرم نارًا في حرب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج، حدث ذلك في يوم بُعاث المشهور، وفني خلق هائل من القبيلتين، وما زالت بقايا الحرب مستمرة، ولو استمر الحال على ما هو عليه لفنيت القبيلتان، ومن ثَمَّ فإن الخزرج الستة الذين جلس معهم الرسول في هذا المجلس كانوا يفكرون في حل لهذه الأزمة الرهيبة التي تعصف بيثرب، فلما جلسوا مع رسول الله أدخل الله في تفكيرهم فكرة رائعة، أن هذا الرجل بما له من حلاوة منطق وحسن بيان وقرآن معجز ووحي صادق، يستطيع أن يجمع القبيلتين تحت لوائه، وبذلك يحفظ القبيلتين من الهلكة ويؤلف بينهما بعد الشقاق.
فكانت هذه الخلفية الاجتماعية المهلهلة سببًا في سعي هؤلاء النفر من الخزرج إلى اتباع الرسول للخروج من هذا المأزق، ظهر ذلك أيضًا بوضوح في كلامهم مع رسول الله بعد أن أعلنوا إيمانهم، فلقد قالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك.
فقهت ذلك السيدة عائشة فقهًا جيدًا، فقالت كما جاء في البخاري: "كَانَ يَوْمَ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِ اللَّهِ وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ (أي أشرافهم) وَجُرِّحُوا؛ فَقَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي دُخُولِهِمْ لِلإِسْلامِ".
ثالثًا: اختيار رباني
الله اختار مجموعة من الرجال العقلاء الحكماء أصحاب الأخلاق الرفيعة حتى يلاقوا الرسول في هذا اللقاء المهم، فهذه فرصة للإيمان قد حدثت لكثير من الناس، لكن لم يرد الله لهم الهداية لعيوب خطيرة في هؤلاء الناس من كبر وظلم وفاحشة وسلبية وأمراض كثيرة، أما هؤلاء الستة فلم يكونوا على هذه الشاكلة، بل كانوا من أفضل الناس طباعًا وأخلاقًا.
من هؤلاء الستة، إنهم:
1- أسعد بن زرارة .
2- جابر بن عبد الله .
3- عوف بن الحارث .
4- رافع بن مالك .
5- قطبة بن عامر .
6- عقبة بن عامر .
والأخيران ليسا بأخوين نسبًا.
مميزات رهط الخزرج
هؤلاء الستة تميزوا بأمور في غاية الأهمية، فوق ما تميزوا به من عقل وذكاء وحكمة:
أولاً: تميزوا بالقرار الحاسم غير المتردد، فاستطاعوا في لحظات أن يأخذوا أهم قرار في حياتهم على الإطلاق وهو الدخول في الإسلام واتباع الرسول ، هذا القرار الذي أعقبه سعادة الدنيا والآخرة.
ثانيًا: اتصافهم بأعلى الدرجات الإيجابية المتخيلة، فهؤلاء بعد أن اقتنعوا بهذا الدين وهذا الرسول لم يكتفوا بإيمانهم، بل قالوا قولاً عجيبًا مع أنه لم يمضِ على إيمانهم إلا دقائق.
قالوا: فسنقدم على قومنا يا رسول الله، فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
هكذا في بساطة أصبحوا دعاة إلى الله ، وأخذوا على عاتقهم تغيير الأوضاع كلية في يثرب، هكذا بعلمهم القليل وفقههم المحدود، قمة الإيجابية، وصدق الرسول الكريم الذي يقول: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً".
وانطلق المؤمنون الستة إلى يثرب يحملون الرسالة الجديدة، فكما يقول الرواة: لم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله . لقد قام هؤلاء الدعاة الجدد بدور التعريف بهذه الدعوة العظيمة، نعم لم يؤمن من أهل يثرب الكثير، لكن الكل أصبح يعرف هذه الرسالة، بل ويجلّ هذه الرسالة، وعندما يأتي بعد ذلك مصعب بن عمير ليقوم بأمر الدعوة هناك سيجد أرضًا خصبة جدًّا لهذه الدعوة، لقد مهد له هؤلاء الستة، قليلون في عددهم ولكن ما أثقلهم في ميزان الله ، وما أبلغ أثرهم في تاريخ البشرية، وليتنا نستوعب درس السبق في هذا المقام.
ثالثًا: تميز هؤلاء النفر بأمر ثالث مهم وهو القلب الرقيق والعاطفة الجياشة، وهي صفات لا تميز هؤلاء فقط، بل تميز معظم أهل يثرب والذين أصبحوا بعد ذلك الأنصار، وقد يرجع هذا إلى جذورهم اليمنية، فإن أهل اليمن اشتهروا برقة القلب، وقد أكد على ذلك رسول الله حين قدم الأشعريون من اليمن، قال كما جاء في البخاري: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا".
وهكذا فإن النظر المحلل بصورة سطحية لأحداث هذه الفترة قد يعتقد أن النصر بعيد، وأن الظروف صعبة لدرجة يستحيل فيها قيام أمة الإسلام إلا بعد قرون وقرون، ولكن سبحان الله في الوقت الذي تعثرت فيه المفاوضات مع القبائل الكبيرة القوية، أفلحت المفاوضات مع مجموعة صغيرة حملت على عاتقها هذه الدعوة، وسوف يمر عامان فقط أو أكثر قليلاً وسيصبح للمؤمنين دولة، هل تصدقون؟!