محاولات أهل مكة لصد الدعوة الإسلامية
استخدام الحرب النفسية
كغيرها من الوسائل التي اتبعها الكفار في حرب الإسلام فقد شن كفار قريش حربًا نفسية على المسلمين حتى لا يشعروهم براحة أو يقر لهم قرار، وقد تمثلت هذه الحرب في أشكال ضغوط نفسية من قبل الأهل والأقارب على أبنائهم وذويهم حتى يتركوا الإسلام، فاجتمع أهل الكفر وأعلنوا في مكة أنه على كل أب وعلى كل أم وعلى كل شيخ قبيلة أن يتصدى لأبنائه وذويه ممن اتبعوا محمد بن عبد الله .
وذلك -كما يرون- من أجل مصلحة الابن الذي خرج عن دين الآباء، وأيضًا من أجل مصلحة الأب حتى يظل محتفظًا بمكانه في مكة، وقد كانت لهجة أهل السلطان في مكة تحمل تهديدًا خفيًّا وأحيانًا صريحًا.
وكان ممن حورب بذاك السلاح النفسي سعد بن أبي وقاص ، فقد حاولت أمه أن تثنيه عن الإيمان بكل طرق الترغيب والترهيب، ولكن محاولاتها باءت بالفشل.
تعذيب سعد بن أبي وقاص من أمه
فلجأت إلى وسيلة جديدة معتقدة أنه لن يجدي مع ذاك الابن الذي فارق دين الآباء غيرها، فأعلنت الإضراب عن الطعام والشراب حتى يرجع سعد عن دينه، حرب وضغط نفسي كبير على ذلك الشاب الذي لم يجاوز العشرين ربيعًا، ورغم ذلك فقد ثبت ، ووقف أمامها وقد أشرفت على الهلاك يقول لها في يقين وإصرار: تعلمين والله يا أُمَّهْ لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركتُ ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي!
وأمام هذا الإصرار النابع من إرادة داخلية جادة، وليس فقط مجرد إعلان التحدي، أو مجرد رد فعل طبيعي أكلت الأم وبقي سعد مسلمًا.
تعذيب مصعب بن عمير من أمه
ومثل موقف سعد كان موقف مصعب بن عمير ، فقد استخدمت معه أمه هذا الضغط النفسي أيضًا في محاولة يائسة منها لتثنيه عن موقفه من الإيمان بالله ورسوله.
وكان مصعب من أنعم فتيان قريش، فقد كانت أمه ذات ثروة وغنى، وقد وفرت له من أسباب الرفاهية والتنعم في مكة ما لم يتوفر لغيره من الفتيان، فكانت تأتي له بالعطر من الشام، والملابس من اليمن.
وحين آمن منعت عنه كل ذلك، واضطرته إلى حياة الكد والتعب والخشونة، بل وطردته من بيتها معتقدة أن مثل هذا سيجدي معه.
وعلى هذا الحال الذي لم يكن معتادًا عليه ظل مصعب بن عمير ثابتًا على موقفه من الإيمان، حتى لقد تخشف جلده مثل تخشف الحية، وكان الصحابة يبكون لحاله التي صار عليها.
وقريب من ذلك أيضًا ما حدث مع عثمان بن عفان ، فقد كان عمه يلف حوله الحصير ثم يشعل النار من تحته حتى يكاد يختنق، لكن ذلك أيضًا لم يثنِه عن إيمانه.
وبعيدًا عن محاولات الأهل والآباء والأمهات هذه فقد كان لرءوس القوم في مكة الدور البارز في هذا المجال، فكان أبو جهل -لعنه الله- يمر بنفسه على أهل مكة مهددًا وموعدًا من كان في بيته مسلم بالخسارة الفادحة في المال والجاه.
وكان يطرد من العمال من شك في أنه أسلم، وأيضًا كان يضغط على كبراء مكة كي يضيقوا اقتصاديًّا على المسلمين، في محاولة لئلاّ يجد الرجل وقتًا للإسلام، ويظل كل همه تحصيل لقمة العيش، فمن لم تقنعه الكلمات أقنعه البحث عن اللقيمات.
رسول الله والحرب النفسية
لم يسلم رسول الله أيضًا من هذه الضغوط النفسية وتلك الحرب، فقد كان أبو لهب -لعنه الله- قد زوَّج ولديه عتبة وعتيبة من ابنتي رسول الله رقية وأم كلثوم، وحين أعلن رسول الله أمر الإسلام أراد أبو لهب أن يكيد لرسول الله ويحمّله همَّ ابنتيه، فأمر ولديه أن يطلقاهما -وهما بعدُ لم يدخلا بهن- ففعلا.
ولا شك أن فكر رسول الله سوف يُشغل بهذه القضية، كما أن صورته قد تهتز في مكة كلها، فهذا لا يرضى لأبنائه أن يتزوجوا من بنات رسول الله ، وقد كان لمثل هذا آنذاك وقع -أي وقع- على من كان في موقفه .
رسول الله وأم جميل
وقد وصل الأمر غايته حتى كان للنساء أيضًا دور كبير في هذه الحرب وتلك المضايقات التي لم يسلم منها رسول الله ، فقد كانت زوجة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب - وكانت امرأة سيئة - تحمل الشوك وتضعه أمام بيت رسول الله ليقع فيه.
ولم تكتف بذلك، فقد خرجت ذات مرة تريد أن تضرب رسول الله ، وكان جالسًا مع أبي بكر الصديق في الكعبة، فجاءت هذه المرأة تحمل في يدها فهر من الحجارة (ملء كفها) تريد أن تضربه بها، وحين ذهبت إليه أخذ الله ببصرها عن رسول الله فلم تر إلا أبا بكر، فقالت له: "أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني".
وكان قد نزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1- 5].
ثم قالت: "والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه".
وقد تعدى الأمر مداه حتى كان أهل مكة يتطاولون على رسول الله وهو في داخل بيته، فكان إذا صلى في فناء منزله قاموا بإلقاء رحم الشاة عليه من أعلى السور حتى يصيبه الأذى، حتى إنه كان يصلي وراء حجر يستتر به من قاذورات قريش.
وفي محاولات منه لوقف تصرفاتهم تلك كان رسول الله يحمل هذه الأوساخ ويخرج بها من بيته يخاطب عقول وقلوب قريش يقول: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا؟!"
يحاول رسول الله أن يذكرهم بحقوق الجيرة والجوار، التي طالما تشدقت بها قريش، وطالما تحدثت عن حفظها لحقوق الإنسان، ثم ها هي تحارب أعظم رجالاتها وخيرة أبنائها حين أعلن كلمة الإيمان.
طلب الأمور المعجزة
من باب الجدل والمراء استخدم أهل الباطل وسيلة أخرى في محاولة منهم لحرب الإسلام وصد الدعوة الإسلامية، وهي طلب الأمور المعجزة لا من باب الإيمان أو الاقتناع، وإنما من باب الجدل والمراء.
فقد أتى لهم رسول الله بمعجزة عظيمة خالدة، يدرك قيمتها كل عربي تمكن من عربيته وهي القرآن الكريم، وكان التحدي به صارخًا حين قال : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
فلم تستطع قريش -ولو لمرة واحدة- أن تعارض القرآن الكريم، ورغم ذلك ومع علمهم بصدقه ، ومع علمهم بعجزهم وضعفهم أخذوا يطلبون المعجزات الأخرى من باب الجدل.
فطلبوا -على سبيل المثال- شق القمر، وفي معجزة باهرة وقف رسول الله وأشار بيده إلى القمر فشُقَّ إلى نصفين، نصف على جبل ونصف على جبل آخر، ورغم ذلك قالوا كاذبين: سحركم محمد!
وقد حاول أحدهم أن يكون واقعيًّا بعض الشيء فطلب منهم أن يسألوا القادمين من السفر، متعللاً بأنه لو كان قد سحرنا فلن يكون قد سحر هؤلاء، وحين قدم المسافرون سألهم أهل قريش على ما رأوا، فكان الجواب أنهم رأوا القمر وقد شق في ذات الليلة وذات التوقيت الذي كانوا قد رأوه فيه، ورغم ذلك ولأنهم ما طلبوا الآيات رغبة في التصديق وإنما طلبوها لمجرد الجدل والمراء قالوا مكررين: هذا سحر مستمر.
وقد وصل الأمر إلى أن قالوا لرسول الله ما حكاه عنهم القرآن الكريم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 91- 93].
وإن كل ما أرادوه هذا منه هو أقل من معجزة القرآن الكريم إلا أنهم لم يريدوا أن يؤمنوا؛ إذ نية التصديق والاقتناع غير متوفرة، يصف حالهم هذا I فيقول: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14، 15].
السخرية والاستهزاء بالمؤمنين
في تنحية لجانب المنطق والعقل وإقامة الحجة والبرهان استخدم أهل الباطل واحدة من أقبح وسائلهم في حربهم ضد المسلمين، وهي تعمد السخرية منهم والاستهزاء بهم.
يصف حالهم I فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطَّففين: 29- 33].
وكان إذا جلس رسول الله وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأ بهم المشركون وقالوا: {أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53].
وإذا دخل عليهم فقراء المسلمين قالوا سخرية واستهزاءً: هؤلاء ملوك الأرض؛ وذلك أن رسول الله كان يقول لهم: قولوا كلمة واحدة (لا إله إلا الله)، تملكوا بها العرب والعجم.
عقبة بن أبي معيط ورسول الله
وفي ذات مرة كان قد علم أُبيّ بن خلف أن صاحبه عقبة بن أبي معيط قد جلس إلى النبي وسمع منه، فاعتقد أُبيّ أنه قد آمن، فغضب وعاتب عقبة الذي لم يؤمن بعدُ. ولكي يصدقه في أنه لم يؤمن طلب منه أن يتفل (يبصق) في وجه رسول الله ، وفعل عقبة - لعنة الله عليه - ذلك، هكذا فعلوا مع أحب الخلق إلى الله !!
أساليب الكفار في الصد عن سبيل الله
كانت هذه هي المرحلة الأولى من المواجهة وهي المواجهة السِلْميّة نسبيًّا، ورأينا كيف تعددت فيها أساليب الصد عن سبيل الله، وهذا مجملها:
1- تحييد المساندين.
2- استخدام الإعلام لوقف المد الإسلامي على ثلاثة محاور، هي:
- تشويه صورة الدعاة أمام الناس.
- تشويه الدعوة أمام الناس.
- شغل الناس بالباطل وإلهاؤهم بالإباحية.
3- الحرب النفسية على المسلمين.
4- طلب المعجزات من باب الجدل.
5- السخرية والاستهزاء.