مرحلة الدعوة الجهرية في مكة
الدعوة الجهرية في مكة
بعد ثلاث سنوات كاملة من الدعوة السرية كان عدد المسلمين نحو الستين من الرجال والنساء، وقد بات من المتعذر على أهل مكة أن يستأصلوا الإسلام بكامله، خاصةً إذا كان هؤلاء المسلمون من قبائل مختلفة، وأن معظمهم من الأشراف، هنا أَذِن الله لرسوله الكريم أن يجهر بالدعوة.
كانت الدعوة الجهرية مرحلة جديدة من مراحل بدايات الدعوة الإسلامية، وفي بداية هذه المرحلة أعلن رسول الله دعوته، بينما ظل المسلمون على سرّيتهم ما استطاعوا، فكان هذا تدرجًا واضحًا في طريق الدعوة.
وكما أُمر الرسول بالبلاغ، فقد أُمر أن يبدأ بأقربائه بالتحديد دونَ بقية الناس، وهذا نوع من التدرج في إيصال الدعوة للعالمين، إذ نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، وقد أمره الله بدعوة الأقربين.
جاءت الأوامر من الله أن يوسّع الرسول دائرة الدعوة، ويقوم بصيحة أعلى لدعوة قبيلته الكبيرة قريش بكل بطونها، فما كان من الرسول إلاَّ أن صعد جبل الصفا فجعل ينادي: "يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ". كل بطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر، فجاء - كما يقول ابن عباس في رواية البخاري - أبو لهب وقريش، ومع كونهم يعلمون سلفًا أن النبيَّ صادقٌ أمين إلا أنهم تراجعوا عن دعوته بل وحاربوها.
لا ريب أن أهل مكة حاربوا الدعوة، ولم يؤمنوا بها للعيوب الأخلاقية والاجتماعية التي كانت فيهم، وأن أنفسهم لم تطِب لتصديق النبي ؛ بسبب تقاليدهم وجبنهم والقبلية المتعصبة التي كانت فيهم، ذلك التعصب وتلك القبلية أو القومية هي من صفات الجاهلية، وكما كان الكِبر كان الخوف على المصالح والزعامة والرياسة سببًا من الأسباب الرئيسية لعدم دخولهم الإسلام، فالإسلام يعدل بين الناس ويسوي بينهم، وهو ما أرَّق بعضهم؛ فالعنجهة القرشية القديمة التي تمتّع بها القرشيون بين القبائل ستسحب منهم، ويتحول ذلك السيد صاحب الصوت الجهوري إلى مواطن عادي يضارع أخيه الذي يصغره مقامًا أو فقرًا، وكذا خوفهم على مصالحهم المالية خوفًا من الضياع والتبدد والهلاك؛ فهم مستفيدون من وضع مكة الحالي المنغمس في الشهوات والمفاسد، والإسلام يدعو للتقيد بأحكامه حتى لا تكون حرية عاهرة، فالحرية في الإسلام هي التقيد بأحكامه؛ فمَنَعهم عن الإسلام غباؤهم في استيعاب قضية التوحيد والبعث والحاكمية.
لماذا الدعوة للأقربين أولاً؟
كانت الدعوة الجهرية مرحلة جديدة من مراحل بدايات الدعوة الإسلامية، وفي بداية هذه المرحلة أعلن رسول الله دعوته بينما ظل بقية المسلمين على سرّيتهم ما استطاعوا، وكان هذا تدرجًا واضحًا في طريق الدعوة.
وكما أُمر الرسول بالبلاغ، فقد أُمر أن يبدأ بأقربائه بالتحديد ودون بقية الناس، وكان هذا أيضًا نوعًا من التدرج في إيصال الدعوة للعالمين، حيث كان قد نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
ولماذا الأقربون بالذات؟!
أولاً: لأن هناك حبًّا فطريًّا لشخص الداعية من الأقربين، وبهذا فإن الأقربين سيكونون أقرب للإجابة، فالقريب ليس بينه وبين الداعية حواجز قبلية أو حواجز عنصرية، أو غير ذلك من الحواجز.
ثانيًا: لأنه بذلك سيكون في حمية قبلية تدافع عنه، وإن هذا ليعطي قوة كبيرة للداعية، خاصة إذا كان له عائلة كبيرة وضخمة، كما أنه لو آمنت هذه العائلة بما يقول الداعي لأصبحت عضدًا له في دعوته.
ثالثًا: أن دعوة الأقارب مسئولية أُولى على الداعية، حديث رسول الله : "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". ومن هنا جاءت أهمية صلة الرحم، وأهمية دعوة الأقربين.
ولنتخيل لو أن الداعية كان يُحارب في عقر داره، يُحارب من داخل بيته أو عشيرته أو قبيلته، نتخيل لو أن زوجته أو ابنه أو أباه أو غيرهم ممن هم من أهله وعشيرته كان يعوق مسيرته، فإنه -ولا شك- سيواجه الكثير من الصعاب في طريق الدعوة، ومن هنا نؤكد على نقطة بنائية مهمة، ألا وهي: دعوة الأقربين أهم بكثير من دعوة الناس عامة.
وفي توضيح أكثر وتدليل على ما سبق ما كان من أمر لوط حينما جاءه قومه يراودونه عن ضيفه، فقد رد عليهم متأسفًا: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80].
إذ لم يكن لسيدنا لوط عائلة قوية تحميه وتقف من ورائه، فكان يودّ لو أن له عائلة قوية لوقف أمام القوم يدافع عن ضيفه، وهنا قال رسول الله معلقًا على موقفه هذا: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ؛ لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (يعني الله )، فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ".
وعلى النقيض من هذا كان موقف شعيب ، وذلك حين جاء إليه قومه يعترضون عليه فقالوا: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]. ومن هنا فقد كانت دعوة الأقربين ذات أهمية بالغة في بناء الأمم.
لذلك حين نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] تحرك رسول الله ودعا الأقربين إلى طعام وكان عددهم خمسة وأربعين من أهله وعشيرته، حيث إن الدعوة على الطعام مما ترقق القلوب، وتبعث على المودة والألفة.
موقف أبي لهب من الدعوة
وفي هذا الاجتماع وقبل أن يتكلم رسول الله ويجهر ويصرح لهم بأمر دعوته حدث أمر غريب، فقد وقف أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة.
وهذا يعني أن أبا لهب كان يعلم بأمر الدعوة وأمر الإسلام، ولكنه ما اعترض عليه من قبل، ولم يعترض أحد من قريش قبل ذلك مع اكتشافهم أمر بعض المسلمين، ولقد كان ذلك لأن المسلمين كانوا يكتفون بعبادات فردية، كانوا يعبدون الله في بيوتهم، وقد ظن أهل قريش أن هذا لا يعدو أن يكون مثل أفعال بعض السابقين الذين تنصروا أو اتخذوا الحنيفية دينًا.
فالأمر الطبيعي أن أهل الباطل لا يمانعون أن تعبد ما تشاء في بيتك، طالما أن ذلك دونما تدخلٍ منك في أمر المجتمع، أما أن يجمع محمد الناس ويبدأ في دعوتهم إلى ما هو عليه، ثم يسفّه ما يعبدون من دون الله، ثم يُحكّم الله الذي يعبده في أمورهم، فهذا ما يرفضه أهل الباطل من قريش.
ومن ثم كانت هذه مبادرة أبي لهب، وقد أتبعها بكلام شديد حيث قال: "فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشرٍّ مما جئت به".
وهنا وفي حنكة وحكمة بالغة سكت رسول الله ولم يقم بما كانت من أجله هذه الدعوة وذاك الاجتماع، فلم يدعُ الناس، ولم يدخل في جدل مع أبي لهب، حيث الظرف غير موات، فالجو مشحون، والخلاف قريب، وليس من الحكمة تبليغ الدعوة في مثل هذه الأحوال، وخاصة أن أبا لهب هذا هو عمه وله أيضًا أتباع وأنصار.
إذن فليجمع الرسول الناس في موعد آخر، يبادر هو فيه الكلام ويسبق أبا لهب وغيره.
موقف أبي طالب من الدعوة
في جولة ثانية، وفي اجتماع ثانٍ، وفي أمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن طريق الدعوة شاق وطويل، وأن الدعوة مكلفة ولها ثمن وأثمان، وأن الداعية يعطي لا يأخذ، وأنه يساعد لا يطلب المساعدة، وأنه يخدم لا يطلب الخدمة، جمع الرسول الله أهله وعشيرته مرة ثانية على الطعام، وفي هذا الموعد الثاني بادر الرسول بالحديث فقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ". إنها كلمات خطيرة جدًّا في مكة في ذلك الوقت.
ثم قال: "إِنَّ الرَّائِدَ لاَ يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا أَوِ النَّارُ أَبَدًا".
ورغم أنه خطاب قصير جدًّا، إلا أن الرسول جمع فيه الكليات الأساسية للعقيدة، ووضح فيه مغزى الرسالة، كما أنه -تقريبًا- أعلن الحرب على آلهة قريش وعلى من يقفون وراءها.
وإزاء هذا الخطاب القصير والبسيط في ظاهره، العميق الدلالة في جوهره، كان لأقارب رسول الله موقفان متباينان.
موقفان متباينان
الموقف الأول
هو موقف أبي طالب، عم رسول الله ، الذي أحبه حبًّا يفوق حب أولاده، وهو الذي كان قد تكفل به بعد وفاة جده عبد المطلب، والذي يعدّ موقفه هذا من أكبر علامات الاستفهام في التاريخ.
فقد وقف إلى جواره يشجعه بكل طاقاته، لكنه ما دخل في دينه أبدا، لقد تحمّل أبو طالب الكثير من تبعات الدين الشاقة ولكنه لم يستمتع بأجمل ما فيه، تضحية وبذل وجهاد وعطاء، ولا إيمان {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، قام أبو طالب فقال: "ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب (يقصد النصرة)، فامضِ لما أُمرت به (وهذا يعني أنه كان يعلم أن الله أمره بذلك، ولم يأت به من عنده)، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب".
تناقض بشع في ذات المقالة، فقد وقفت التقاليد حاجزًا وحائلاً بين أبي طالب وبين الإيمان، ووقف تقديس رأي الآباء والأجداد حتى وإن كان مخالفًا للحق دون دعوة الحق.
لكن ما يهمنا هو أن أبا طالب كان واضحًا وصريحًا في دفاعه عن رسول الله من أول يوم جهر فيه بالدعوة لأقاربه.
الموقف الآخر
هو موقف أبي لهب فما زال مصرًّا على عدائه فقد قال: هذه والله السوءة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: "والله لنمنعه ما بقينا".
الدعوة لقريش عامة
جاءت الأوامر من الله أن يوسع الرسول دائرة الدعوة، ويقوم بصيحة أعلى لدعوة قبيلته الكبيرة قريش بكل بطونها، فما كان من الرسول إلا أن صعد جبل الصفا فجعل ينادي: "يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ"ٍ. كل بطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر، فجاء -كما يقول ابن عباس في رواية البخاري- أبو لهب وقريش (يذكر أبا لهب خاصة لموقفه في هذا الحدث).
فقال :"أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغْيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" ومع أن هذا أمر غاية في الخطورة ويحتاج إلى رويّةٍ وتثبُّت، إلا أنهم قالوا: نَعَمْ؛ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا. فقال : "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ".
أي: إذا كنتم تصدقون إنذاري لكم بخيلٍ وأعداء، فيجب أن تصدقوا إنذاري لكم بعذاب شديد إذا بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأوثان، وتحكيمها في حياتكم.
وكان موقف أبي لهب هو أن قال: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
كانت التقاليد وأعراف المجتمع هي التي منعت أبا طالب من الإيمان، وكان الذي منع أبا لهب من الإيمان هو الجبن، والجبن الشديد، فهو الذي قال: "ليس لنا بالعرب من طاقة". ليس لنا قدرة على تغيير المألوف، ولا يمتنع أبو لهب أن يقف بجوار القوي وإن كان مخالفًا للحق، كما أنه لا يمتنع عن خذلان ابن أخيه والتكذيب بالحق الذي جاء به طالما هو في موقف الضعيف كما يتراءى له، وإن كان من أقاربه ومن عشيرته، وهذا هو الذي أرداه فجعله من الأخسرين.
وهكذا نرى التدرج الواضح في أمر الدعوة والذي قام به رسول الله ، فقد دعا الأقارب أولاً، ثم قريشًا، ثم عامة الناس.
ومع الأمر الإلهي: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] يكون قد وضح أمران من المفترض أنهما سيظلان متلازمين في هذه المرحلة، التي تسمى مرحلة جهرية الدعوة، وهما:
الأمر الأول: إعلان الدعوة للناس عامة، مع خطورة هذا الأمر.
الأمر الثاني: الإعراض عن المشركين، بمعنى عدم قتالهم، وهذا يحمل في طياته أن المشركين سيحاولون قدر استطاعتهم أن يوقفوا مد هذه الدعوة، وعلى الرسول في هذه الفترة أن يتجنب الصدام مع الكفر، حتى ولو حدث كيد وحدث تعذيب، بل لو حدث قتل، فهذه ظروف مرحلة معينة دقيقة جدًّا تمر بها الدعوة.