محاولات قريش قتل رسول الله بعد بدر
قريش تفكر في قتل رسول الله
بعد الهزيمة المرّة التي نالتها قريش من المسلمين في غزوة بدر، بدأ تفكير قريش في غزو المدينة المنورة، ومحاولة قتل رسول الله ؛ وقد ظهرت أكثر من محاولة لقتل النبي ، نذكر منها محاولتين:
الأولى: محاولة عمير بن وهب الجمحي وإسلامه
كان وهب بن عمير بن وهب أسيرًا لدى المسلمين، فكان عمير بن وهب يريد أن يفكَّ ابنه من الأسر، وكان بقلبه حقد كبير على رسول الله ، وجلس هو وصفوان بن أمية في حِجْر الكعبة يتذاكران أمر بدر، وكان أبو صفوان وأخوه قد قُتِلا في بدر أيضًا، فقال صفوان: "والله إنْ في العيش بعدهم خير". أي: لا خير في العيش بعد أن قتل هؤلاء. فقال له عمير: "صدقت والله، أما والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضَّيْعة بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإني لي قِبَلَهم عِلَّةً؛ ابني أسيرٌ في أيديهم".
فقال صفوان: "عليَّ دينك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا".
قال عمير: "فاكتم عني شأني وشأنك".
قال صفوان: "أفعل".
وجهَّز عمير سيفه جيدًا ووضعه في السُّمِّ مدةً، ثُمّ أخذه وانطلق به إلى المدينة المنورة، ووصل إليها ومرَّ على مجموعة من أصحاب النبي يتحدثون في أمر بدر، وكان من بينهم عمر بن الخطاب ، فلما رآه عمر وكان صاحب فراسة شديدة قال: "هذا الكلب عدو الله عمير، ما جاء إلا لشرٍّ". ودخل سريعًا على رسول الله فقال: "يا رسول الله، هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشِّحًا سيفه". فقال : "فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ".
فلبَّبَهُ عمر بحمالة سيفه، أي وضع سيفه على رقبته، وأدخله مكتوفًا على رسول الله . ولم يكتفِ عمر بذلك، بل قال لرجال من الأنصار: "ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون".
ولما دخل به عمر على رسول الله بهذه الهيئة، قال له الرسول في بساطة شديدة: "أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ". فدنا وقال: "أنعموا صباحًا". فقال النبي : "قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٌ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلاَمِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ". ثم قال: "مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟"
قال: جئتُ لهذا الأسير الذي في أيديكم -يقصد ابنه- فأحسنوا فيه".
قال رسول الله : "فَمَا بَالَ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟"
قال عمير: "قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ عَنَّا شَيْئًا".
قال : "اصْدُقْنِي، مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟"
قال: ما جئتُ إلا لذلك.
قال : "بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلاَ دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ عَلَى أَن تَقْتُلَنِي، وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ".
فقال عمير: "أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق"[1].
وسبحان الله! فعمير إنما جاء لقتل النبي ، ولكن الله أراد به خيرًا، فأصبح من كبار أصحاب النبي ، فهو ترتيبٌ ربَّانيّ عجيب.
ثم شهد عمير بن وهب شهادة الحق، فقال رسول الله لأصحابه: "فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَعَلِّمُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا أَسِيرَهُ"، ففعلوا.
وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول: "أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر". وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفعٍ أبدًا، وظل كذلك بالفعل حتى فتح مكة.
إيجابية عمير بن وهب
أود أن أذكر هنا أمرًا إيجابيًّا كان عند عمير بن وهب ، فما إن أسلم -وليس عنده من العلم إلا القليل- حتى قال: "يا رسول الله، إني كنتُ جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة؛ فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنتُ أوذي أصحابك في دينهم"[2]. فأذن له رسول الله ، فلحق بمكة.
ومع أن كل ما تعلمه ما هو إلا مجموعة قليلة جدًّا من الآيات والأحكام، إلا أنه كان يمتلك إيجابية عظيمة للغاية، فرجع إلى مكة المكرمة وبدأ يدعو إلى الله ، وكان من عائلة قوية (بني جمح) واستطاعوا حمايته، وكان سيِّد قومه ، وظل يدعو إلى الله حتى فتح مكة، وبعد فتح مكة كان له دورٌ كبير في إسلام صديقه القديم صفوان بن أمية ودخوله في حظيرة الإسلام، أجمعين.
كانت هذه إحدى محاولات قريش الفاشلة لقتل النبي في المدينة المنورة، وانتهت كما رأينا بإسلام عمير بن وهب
المحاولة الثانية: محاولة أبي سفيان بن حرب قتل الرسول
كانت هذه أيضًا إحدى المحاولات الخطيرة لقريش لقتل رسول الله ، وقد قام بها أبو سفيان بن حرب زعيم مكة بعد أن فَقَدت مكة كل زعمائها السابقين، وكان أبو سفيان بعد بدر قد أخذ قرارًا ألا يمسَّ رأسَهُ ماءٌ من جنابة حتى يغزو محمدًا. ثم استشار قريش بعدم التصرف في أموال القافلة التي نجت، وجعلها تمويلاً لغزو المدينة بعد ذلك. وإلى أن يتم تجهيز هذا الجيش، حاول أبو سفيان عَمَل محاولة قرصنة (لُصُوصِيَّة) للمدينة المنورة؛ لتحقيق بعض المكاسب ورفع هِمَّة القرشيين، وأن تعود لقريش بعض هيبتها المفقودة في الجزيرة العربية.
وجمع أبو سفيان مائتي فارس، وذهب إلى المدينة المنورة لِيَبَرَّ يمينَه. وبالفعل وصل إلى المدينة المنورة، ولكنه خشي من دخولها نهارًا، فدخل في الظلام، واستطاع أن يقتل رجلين من الأنصار، وأخذ بعض الماشية، وانطلق في طريقه إلى مكة راجعًا، فكانت محاولة طفولية وصبيانية؛ فقد كان معه مائتا فارس، ومع هذا لم يستطع أن يواجه المسلمين في قتال، ولكنه هرب سريعًا بعد أن قتل اثنين.
غزوة السويق
وقد علم رسول الله ما فعل أبو سفيان، فجمع أصحابه وخرج سريعًا يتبع أَثَر أبي سفيان، لكن استطاع أبو سفيان أن يهرب سريعًا، وكان معهم أحمال ثقيلة من السَّويق[3]؛ فألقوا هذا الطعام ليتخففوا من أحمالهم ويستطيعوا الهرب سريعًا، وجمع المسلمون هذا السويق وأخذوه بعد ذلك كغذاء في المدينة المنورة.
وعُرِفت هذه الغزوة بغزوة السويق، وكانت في ذي الحجة 2هـ، أي بعد بدر بشهرين[4]. فكانت هذه إحدى محاولات قريش أيضًا.
[1] ابن كثير: السيرة النبوية 2/486، 487.
[2] السابق نفسه 2/487، 488.
[3] السويق: نوع من الطعام خليط من الحنطة والشعير.
[4] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص44، 45.