كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:17 pm | |
| وفي حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث سها في صلاته فقال: «وما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث». وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا في أحكام القرآن له، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال: أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته، فرأى في أظفاري طولا فقال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن خبر السماء فقال: «يحي أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث». وأما قوله: «ادفنوا قلاماتكم» فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم، فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وقد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب. حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد». فلما برز عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: «يا عبد الله ما صنعت به؟». قال: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس. قال: «لعلك شربته؟» قال نعم. قال: «لم شربت الدم، ويل للناس منك وويل لك من الناس». حدثني أبي قال: حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والدم، والحيضة، والسن، والقلفة، والبشيمة. وأما قوله: «نقوا براجمكم» فالبراجم تلك الغضون من المفاصل، وهي مجتمع الدرن واحدها برجمة وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقدة يسمى برجمة، وما بين العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها، وهي قصبة الإصبع، فلكل إصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة. وأما قوله: «نظفوا لثاتكم» فاللثة واحدة، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان، وهي منابتها. والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان، لأنه طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قال: عند نابيه. حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال: سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة، وجاد ما قال، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز. وقوله: {لَدَيْهِ} أي عنده، والدي والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد، وكذلك قولهم لدن فالنون زائدة. فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب. وأما قوله: تسننوا وهو السواك مأخوذ من السن، أي نظفوا السن. وقوله: «لا تدخلوا على قخرا بخرا» فالمحفوظ عندي فحلا وقلحا. وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال: الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها، ولا أعرف القخر. والبخر: الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته، يقال: رجل أبخر، ورجال بخر. حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحا». الحادية عشرة: في قص الشارب. وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل نفسه، قاله مالك. وذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع، وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه، وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. وكذلك روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان ذا لمة، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر، وإنما حلق وحلقوا في النسك. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى. قال: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء. وقال أبو بكر الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احفوا الشوارب». قال أبو عمر: إنما في هذا الباب أصلان: أحدهما: أحفوا، وهو لفظ محتمل التأويل. والثاني- قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على المجمل، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. روى الترمذي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص من شاربه ويقول: «إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله». قال: هذا حديث حسن غريب. وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الإبط». وفيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى». والأعاجم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة. ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد، ويأخذ هذين، يعني ما بين الشارب واللحية. وفي البخاري: وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها. قال: هذا حديث غريب. الثانية عشرة: وأما الإبط فسنته النتف، كما أن سنة العانة الحلق، فلو عكس جاز لحصول النظافة، والأول أولى، لأنه المتيسر المعتاد. الثالثة عشرة: وفرق الشعر: تفريقه في المفرق، وفي صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن انفرقت عقيصته فرق، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقول: إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة. خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. قال القاضي عياض: سدل الشعر إرساله، والمراد به هاهنا عند العلماء إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، والفرق في الشعر سنة، لأنه الذي رجع إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره. وقد قيل: إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام، فالله أعلم. الرابعة عشرة: وأما الشيب فنور ويكره نتفه، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة». قلت: وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد، فأما تغييره بغير السواد فجائز، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حق أبي قحافة- وقد جئ به ولحيته كالثغامة بياضا-: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد». ولقد أحسن من قال: يسود أعلاها ويبيض أصلها *** ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل وقال آخر: يا خاضب الشيب بالحناء تستره *** سل المليك له سترا من النار الخامسة عشرة: وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفضل على سائر الطعام فقال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنه أعظم للبركة». السادسة عشرة: قلت: وهذا كله في معنى ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره. ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة النساء وحكم الاستنجاء في براءة وحكم الضيافة في هود إن شاء الله تعالى. وخرج مسلم عن أنس قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة، قال علماؤنا: هذا تحديد في أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان. قال العقيلي: في حديثه نظر. وقال أبو عمر فيه: ليس بحجة، لسوء حفظه وكثرة غلطه. وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل، ولكنه قد قال به قوم، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك، وبالله التوفيق. السابعة عشرة: قوله تعالى: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} الامام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لأنه يؤم فيه للمسالك، أي يقصد. فالمعنى: جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه- والله أعلم- أنه كان حنيفا. الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل. وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الامامة. قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أصل ذرية، فعلية من الذر، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم. وقيل: هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. وقرأ زيد بن ثابت {ذرية} بكسر الذال و{ذرية} بفتحها. قال ابن جني أبو الفتح عثمان: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها- ذرأ، والثاني- ذرر، والثالث- ذرو، والرابع ذري، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه، وذلك لما ورد في الخبر: «أن الخلق كان كالذر» وأما الواو والياء، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا، وذلك قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ} وهذا للطفه وخفته، وتلك حال لذر أيضا. قال الجوهري: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذرويه ذروا وذريا أي نسفته، ومنه قولهم: ذرى الناس الحنطة، وأذريت الشيء إذا ألقيته، كإلقائك الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته، أي ألقاه. وقال الخليل: إنما سموا ذرية، لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر. وقيل: أهل ذرية، ذرورة، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء، فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية. والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة، وقد تطلق على الإباء والأبناء، ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} يعني آباءهم. العشرين: قوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} اختلف في المراد بالعهد، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة، وقاله السدي. مجاهد: الامامة. قتادة: الايمان. عطاء: الرحمة. الضحاك: دين الله تعالى. وقيل: عهده أمره. ويطلق العهد على الامر، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا} أي أمرنا. وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} يعني ألم أقدم إليكم الامر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا إن شاء الله تعالى. وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا ينال عهد لله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به، واكل وعاش وأبصر. قال الزجاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظالمين، أي لا أؤمنهم من عذابي. وقال سعيد بن جبير: الظالم هنا المشرك. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف {لا ينال عهدي الظالمون} برفع الظالمون. الباقون بالنصب. وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في: {عَهْدِي}، وفتحها الباقون. الحادية والعشرون: استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الامام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ينازعوا الامر أهله، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ولهذا خرج ابن الزبير والحسين ابن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة. والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الامام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه. الثانية والعشرون: قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم. الثالثة والعشرون: قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلص في يده مال مسروق، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما- وإن كان الورع التنزه عنه- وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الامام في مصالح المسلمين. | |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:18 pm | |
| {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {جَعَلْنَا} بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين، وقد تقدم. {الْبَيْتَ} يعني الكعبة. {مَثابَةً} أي مرجعا، يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثئوبا وثوبانا. فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه. قال ورقة بن نوفل في الكعبة: مثابا لإفناء القبائل كلها *** تخب إليها اليعملات الذوامل وقرا الأعمش: {مثابات} على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك. وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرا، قال الشاعر: جعل البيت مثابا لهم *** ليس منه الدهر يقضون الوطر والأصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب، وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله الأخفش. وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة. فإن قيل: ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل: ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى أعلم. الثانية: قوله تعالى: {وَأَمْناً} استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله: {وَأَمْناً} تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه. وسيأتي بيان هذا في المائدة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وهو معطوف على {جَعَلْنَا} أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا، فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقرأ جمهور القراء {وَاتَّخِذُوا} بكسر الخاء على جهة الامر، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة على جملة. قال المهدوي: يجوز أن يكون معطوفا على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لأن معناه اذكروا إذ جعلنا. أو على معنى قوله: {مَثابَةً} لان معناه ثوبوا. الثانية: روى ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. خرجه مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث... الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت يا رسول الله: لو صليت خلف المقام؟ فنزلت هذه الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} وقلت: يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ}، ونزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}، ودخلت على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت الآية: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ}. قلت: ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى، فتكون موافقة عمر في خمس. الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ مَقامِ} المقام في اللغة: موضع القدمين. قال النحاس: {مقام} من قام يقوم، يكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام، فأما قول زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم *** وأندية ينتابها القول والفعل فمعناه: فيهم أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها- أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم. وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة وغيرهم. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}. وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي. وفي البخاري: أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وعطاء: الحج كله. وعن عطاء: عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي. النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد. فلت: والصحيح في المقام القول الأول، حسب ما ثبت في الصحيح. وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: نظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقول: اللهم اغفر لفلان، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا؟» فقال: رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال: «ارجع فقد غفر لصاحبك». قال أبو نعيم: حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري عن محمد بن سوقة، فذكره. قال أبو نعيم: كذا رواه عبد الرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس. ومعنى: {مُصَلًّى}. مدعى يدعي فيه، قاله مجاهد. وقيل: موضع صلاة يصلى عنده، قاله قتادة. وقيل: قبلة يقف الامام عندها، قاله الحسن. قوله تعالى: {وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَعَهِدْنا} قيل: معناه أمرنا. وقيل: أوحينا. {أَنْ طَهِّرا} {أن} في موضع نصب على تقدير حذف الخافض. وقال سيبويه: إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الاعراب. وقال الكوفيون: تكون بمعنى القول. و{طَهِّرا} قيل معناه: من الأوثان، عن مجاهد والزهري. وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير: من الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقال السدي: أبنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجيء مثل قوله: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى}. وقال يمان: بخراه وخلقاه. {بَيْتِيَ} أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص: {بَيْتِيَ} بفتح الياء، والآخرون بإسكانها. الثانية: قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء. وقال سعيد بن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفيه بعد. {وَالْعاكِفِينَ} المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء. وكذلك قوله: {لِلطَّائِفِينَ}. والعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، كما قال الشاعر: عكف النبيط يلعبون الفنزجا *** وقال مجاهد: العاكفون المجاورون. ابن عباس: المصلون. وقيل: الجالسون بغير طواف، والمعنى متقارب. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي المصلون عند الكعبة. وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله. الثالثة: لما قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ} دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة. وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والأول أظهر، والله أعلم. وفي التنزيل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا! أتدري أين أنت!؟ وقال حذيفة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لاحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ». الرابعة: استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك: لا يصلي فيه الفرض ولا السنن، ويصلي فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدا. قلت: وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال: «هذه القبلة» وهذا نص. فإن قيل: فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين. وأخرجه مسلم، وفيه قال: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلنا: هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به. فإن قيل: فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال: رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور. وخرجه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكعبة وراي صورا قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون». فيحتمل أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه: فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي. وقد روى مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين. قلنا: هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة، وأما الفرض فلا، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} على ما يأتي بيانه، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج: «هذه القبلة» فعينها كما عينها الله تعالى. ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال: «هذه القبلة». وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث، وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله. الخامسة: واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه. وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك: يعيدا أبدا. وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه. السادسة: واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل. وفي الخبر: «لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا». وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب السابق واللاحق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا». لم يذكر فيه: وشيوخ ركع. وفي حديث أبي ذر: «الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل». خرجه الاجري. والاخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور، والله تعالى أعلم.
{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} وفيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {بَلَداً آمِناً} يعني مكة، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات، على ما يأتي بيانه في سورة إبراهيم إن شاء الله تعالى. الثانية: اختلف العلماء في مكة هل صارت حراما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين: أحدهما- أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى. ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب. وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقال: طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا. الثاني- أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمنا بعد أن كانت حلالا. احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها». فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر». ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة». قال ابن عطية: ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكان القول الأول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه. وقال الطبري: كانت مكة حراما فلم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها. الثالثة: قوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ} تقدم معنى الرزق. والثمرات جمع ثمرة، وقد تقدم. {مَنْ آمَنَ} بدل من أهل، بدل البعض من الكل. والايمان: التصديق، وقد تقدم. {قال وَمَنْ كَفَرَ} من في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر {فَأُمَتِّعُهُ} وهو الجواب. واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام؟ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هو من الله تعالى، وقرءوا {فَأُمَتِّعُهُ} بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء. {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بقطع الألف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء. وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي {فنمتعه قليلا ثم نضطره} بالنون. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول عن إبراهيم عليه السلام. وقرءوا {فأمتعه} بفتح الهمزة وسكون الميم، {ثم اضطره} بوصل الألف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين، وعليه فيكون الضمير في: {قالَ} لإبراهيم، وأعيد {قالَ} لطول الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين. والفاعل في: {قالَ} على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الألف شاذة، قال: ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} ثم جاء بقوله عز وجل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد: {قالَ وَمَنْ كَفَرَ} فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد: قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب. وهذا لفظ ابن عباس: دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار. قال أبو جعفر: وقال الله عز وجل: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ} وقال جل ثناؤه: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}. قال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين، لأن الله تعالى قال: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:19 pm | |
| {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ} القواعد: أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي الجدر. والمعروف أنها الأساس. وفي الحديث: «إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام» فقال ابن الزبير: هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها. ابن عباس: وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته. والقواعد واحدتها قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد. واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه، فقيل: الملائكة. روي عن جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضي عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضة من حراء. قال الخليل: والربض هاهنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة: ربض. وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال: لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له: يا آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا. وقد روي في بعض الاخبار: أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت. وهذا من طريق وهب بن منبه. وفي رواية: أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعي البيت المعمور. روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له، وقال: يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له: ابن بقدره، وتحري أن يكون بحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه. وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الاخبار. فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريح وقال ناس: أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس: إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم: ابن على موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال لابنه: يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال: ابغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال: يا أبة، من جاءك بهذا الحجر؟ فقال: من لم يكلني إليك. ابن عباس: صالح أبو قبيس: يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت: أن ارفعا على تربيعي. فهذا بناء إبراهيم عليه السلام. وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت. روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخبيل وحشا كسائر الوحش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه: «إني معطيكما كنزا ادخرته لكما» ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز. فخرج إلى أجياد- وكانت وطنا- ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي الفرس عربيا لان إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى. وروى عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، قال: أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام. وأما بنيان قريش له فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا: ربنا، لم ترع! أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا خواتا من السماء- والخوات: حفيف جناح الطير الضخم- فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد. وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة. ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان عن أبي الطفيل. وذكر عن معمر عن الزهري: حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فأطلع عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه: «أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن». وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش. خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: «نعم» قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة». قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض». وخرج عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة». وعن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا». وفي البخاري قال هشام بن عروة: يعني بابا. وفي البخاري أيضا: «لجعلت لها خلفين» يعني بابين، فهذا بناء قريش. ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف. وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس: أهدموا، قال: فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب. قال مجاهد: فخرجنا إلى مني فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب. قال: وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا على ذلك، قال: فهدموا. فلما بناها جعل لها بابين: بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع. قال مسلم في حديثه: فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شي، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. في رواية: قال عبد الملك: ما كنت أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبد الله: بلى، أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأربك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع». في أخرى: قال عبد الملك: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بني ابن الزبير. فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الإثار. وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وذكر الوافدي: حدثنا معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول،: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو تبع الأخر. قال ابن إسحاق: كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد، وأول من كساها الديباج الحجاج. قال العلماء: ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شي، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شي. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها. وقال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه. قوله تعالى: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا} المعنى: ويقولان {رَبَّنا}، فحذف. وكذلك هي في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا}. وتفسير إسماعيل: اسمع يا الله، لان إيل بالسريانية هو الله، وقد تقدم. فقيل: إن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه. ذكره الماوردي. قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب الأسنى في شرج أسماء الله الحسنى. | |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:20 pm | |
| {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} قوله تعالى: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي صيرنا، و{مُسْلِمَيْنِ} مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام. والإسلام في هذا الموضع: الايمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} ففي هذا دليل لمن قال: إن الايمان والإسلام شيء واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي {مسلمين} على الجمع. قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الامة. و{من} في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين. وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم. والامة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ}، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعث أمة وحده» لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم. وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}. وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد. والامة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الامة، أي حسن القامة، قال: وإن معاوية الاكرمي *** ن حسان الوجوه طوال الأمم وقيل: الامة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم. قوله تعالى: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} {أرنا} من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدي، قال حطايط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر: أريني جوادا مات هزلا لأنني *** أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي {أرنا} بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء، والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد. وأصله أرينا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر: أرنا إداوة عبد الله نملؤها *** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمرو طلب الخفة. وعن شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين: هذا، والآخر {ما ننسخ من آية أو ننسأها} مهموزا. قوله تعالى: {مَناسِكَنا} يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا. واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا، فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي. وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح. وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومسك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نسك ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا: منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. وعن زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال: أي رب، قد فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له: أحصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم الثالث، ثم علا ثبيرا فقال: يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال: لبيك، اللهم لبيك، قال: ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها. وأول من أجابه أهل اليمن. وعن أبي مجلز قال: لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت- قال: وأحسبه قال: والصفا والمروة- ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جمعا فقال: ها هنا يجمع الناس الصلوات. ثم أتى به عرفات فقال: عرفت؟ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرفت، عرفت، عرفت؟ أي مني والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. وعن خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهدا حدثه قال: لما قال إبراهيم عليه السلام: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل: كبر وارمه، فارتفع إبليس إلى الوسطى، فقال جبريل: كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك. ثم انطلق به إلى المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له: هل عرفت ما أريتك؟ قال نعم، فسميت عرفات لذلك فيما قيل، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا: لبيك، اللهم لبيك. قال: فمن أجاب يومئذ فهو حاج. وفي رواية أخرى: أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته. وقال محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين. قال: فقام جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال: فلما دخل مني وهبط من العقبة تمثل له إبليس...، فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال: حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم. وروى محمد بن سابط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر». وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم. وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الجحر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين. قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنا} اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {وَتُبْ عَلَيْنا} وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب. قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام، وتقدم القول في معنى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأغنى عن إعادته.
{رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} قوله تعالى: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي قراءة أبي {وابعث في آخرهم رسولا منهم}. وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: «نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى». و{رَسُولًا} أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسله، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمه أرسال. يقال: جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع. قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} {الكتاب} القرآن و{الحكمة}: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد. وقال قتادة: {الحكمة} السنة وبيان الشرائع. وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب. ونسب التعليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من وضر الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة: التطهير، وقد تقدم. وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى أعلم. و{العزيز} معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب. وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شي، دليله: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}. الكسائي: {العزيز} الغالب، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}. وفي المثل: من عز بز أي من غلب سلب. وقيل: {العزيز} الذي لا مثل له، بيانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وقد تقدم معنى: {الحكيم} والحمد الله.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} {مَنْ} استفهام في موضع رفع بالابتداء، و{يَرْغَبُ} صلة {مَنْ}... {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} في موضع الخبر. وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس. والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى. قال الزجاج: {سَفِهَ} بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد أن {سَفِهَ} بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة. وقال الأخفش: {سَفِهَ نَفْسَهُ} أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها. وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي. فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب. وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت في فانتصب. قال الأخفش: ومثله {عُقْدَةَ النِّكاحِ}، أي على عقدة النكاح. وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن. الفراء: هو تمييز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شي، فيعلم به توحيد الله وقدرته. قلت: وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الاطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى. وسيأتي له مزيد بيان في سورة والذاريات إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا كقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ}، {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ}. وسيأتي بيانه. قوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا} أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في: {اصْطَفَيْناهُ} اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الاطباق. واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الاصفى. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} الصالح في الآخرة هو الفائز. ثم قيل: كيف جاز تقديم {فِي الْآخِرَةِ} وهو داخل في الصلة، قال النحاس: فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة، ثم حذف. وقيل: {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الآخرة. والقول الثالث: أن {الصَّالِحِينَ} ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال الرجل والغلام. قلت: وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف. وقال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. وروى حجاج بن حجاج- وهو حجاج الأسود، وهو أيضا حجاج الأحول المعروف بزق العسل- قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وأرض عنا.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:22 pm | |
| {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)} العامل في: {إِذْ} قوله: {اصْطَفَيْناهُ} أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم. وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. قال ابن كيسان والكلبي: أي أخلص دينك لله بالتوحيد. وقيل: اخضع واخشع. وقال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السرب، على ما يأتي ذكره في الأنعام. والإسلام هنا على أتم وجوهه. والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله. وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الايمان، فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن. ودليلنا قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} الآية. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بن أبي وقاص لما قال له: أعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو مسلم» الحديث، خرجه مسلم، فدل على أن الايمان ليس الإسلام، فإن الايمان باطن، والإسلام ظاهر، وهذا بين. وقد يطلق الايمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الايمان، للزوم أحدهما الأخر وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الايمان ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق.
{وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} قوله تعالى: {وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ} أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا. ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرى بهما. وفي مصحف عبد الله: {ووصى}، وفي مصحف عثمان {وأوصى} وهي قراءة أهل المدينة والشام. الباقون {وَوَصَّى} وفيه معنى التكثير. {وإِبْراهِيمُ} رفع بفعله، {وَيَعْقُوبُ} عطف عليه، وقيل: هو مقطوع مستأنف، والمعنى: وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه. وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع. وقيل: كان له سنتان، وقيل: كان له أربع عشرة سنة، والأول أصح، على ما يأتي في سورة إبراهيم بيانه إن شاء الله تعالى: وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة. وقيل: مائة وثلاثون. وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة. وهو الذبيح في قول. وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح، على ما يأتي بيانه في سورة والصافات إن شاء الله. ومن ولده الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ثم لما توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومدائن ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ، ثم توفي عليه السلام. وكان بين وفاته وبين مولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة. وسيأتي ذكر أولاد يعقوب في سورة يوسف إن شاء الله تعالى. وقرأ عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي: {ويعقوب} بالنصب عطفا على {بَنِيهِ}، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى. قال القشيري: وقرئ {يعقوب} بالنصب عطفا على {بَنِيهِ} وهو بعيد، لأن يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم. وسيأتي تسمية أولاد يعقوب إن شاء الله تعالى. قال الكلبي: لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران والبقر، فجمع ولده وخاف عليهم وقال: ما تعبدون من بعدي؟ ويقال: إنما سمي يعقوب لأنه كان هو والعيص توأمين، فخرج من بطن أمه آخذا بعقب أخيه العيص. وفي ذلك نظر، لأن هذا اشتقاق عربي، ويعقوب اسم أعجمي، وإن كان قد وافق العربية في التسمية به كذكر الخجل. عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده. قوله تعالى: {يا بَنِيَّ} معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك. قال الفراء: ألغيت أن لان التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها. قال: وقول النحويين إنما أراد {أن} فألغيت ليس بشيء. النحاس: {يا بَنِيَّ} نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لألتقي ساكنان، ومثله {بِمُصْرِخِيَّ}. {إِنَّ اللَّهَ} كسرت {إن} لان أوصى وقال واحد. وقيل: على إضمار القول. {اصْطَفى} اختار. قال الراجز: يا ابن ملوك ورثوا الأملاكا *** خلافة الله التي أعطاكا لك اصطفاها ولها اصطفاكا *** {لَكُمُ الدِّينَ} أي الإسلام، والألف واللام في: {الدين} للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه. {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إيجاز بليغ. والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى، تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الامر دائبا لازما. و{لا} نهي {تموتن} في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. {إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} {شهداء} خبر كان، ولم يصرف لان فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء. والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون!. و{أم} بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب. والعامل في: {إذ} الأولى معنى الشهادة، و{إذ} الثانية بدل من الأولى. و{شهداء} جمع شاهد أي حاضر. ومعنى: {حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا. وعبر عن المعبود ب {ما} ولم يقل من، لأنه أراد أن يختبرهم، ولو قال: {من} لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال: {ما}. وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه. ومعنى: {مِنْ بَعْدِي} أي من بعد موتي. وحكي أن يعقوب حين خيركما تخير الأنبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا: {نَعْبُدُ إِلهَكَ} الآية. فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى. قوله تعالى: {قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} {إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: وإن شئت صرفت {إسحاق} وجعلته من السحق، وصرفت {يعقوب} وجعلته من الطير. وسمي الله كل واحد من العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق. و{إِلهاً} بدل من {إِلهَكَ} بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية. وقيل: {إِلهاً} حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء العطاردي {واله أبيك} وفيه وجهان: أحدهما- أن يكون أفرد وأراد إبراهيم وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عم. قال النحاس: وهذا لا يجب، لأن العرب تسمي العم أبا. الثاني- على مذهب سيبويه أن يكون {أبيك} جمع سلامة، حكى سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر: فقلنا أسلموا إن أخوكم *** وقال آخر: فلما تبين أصواتنا *** بكين وفديننا بالأبينا قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون في موضع الحال، والعامل {نَعْبُدُ}. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)} قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} {تِلْكَ} مبتدأ، و{أُمَّةٌ} خبر، {قَدْ خَلَتْ} نعت لامة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ، وتكون {أُمَّةٌ} بدلا من {تِلْكَ}. {لَها ما كَسَبَتْ} {ما} في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول الكوفيين. {وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ} مثله، يريد من خير وشر. وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة. فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح. وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله. قوله تعالى: {وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، وسيأتي.
{وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} قوله تعالى: {وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا} دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال: {بَلْ مِلَّةَ} أي قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة. وقيل: المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا. وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة: {بل ملة} بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و{حَنِيفاً} مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله الزجاج. أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة. وقال علي بن سليمان: هو منصوب على أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وسمي إبراهيم حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام. والحنف: الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف: والله لولا حنف برجله *** ما كان في فتيانكم من مثله وقال الشاعر: إذا حول الظل العشي رأيته *** حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى. وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته. وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم.
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل» الآية. وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك أنت مؤمن؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} الآية. وكره أكثر السلف أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، وسيأتي بيانه في: {الأنفال} إن شاء الله تعالى. وسيل بعض المتقدمين عن رجل قيل له: أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا، فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الأنبياء، فكيف يصنع؟ فقال: ينبغي أن يقول: إن كان نبيا فقد آمنت به. والخطاب في هذه الآية لهذه الامة، علمهم الايمان. قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء، فنزلت الآية. فلما جاء ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به. قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ} جمع إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقاله الكوفيون، وحكوا براهمة وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط، لأن الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع. وأجاز أحمد بن يحيى براه، كما يقال في التصغير بريه. وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق، وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبه ويعاقب. قال النحاس: فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل. والباب في هذا كله أن يجمع مسلما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه. والأسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة. قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا أبو نجيد الدقاق قال حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. وشعر سبط وسبط: غير جعد. {لا نفرق بين أحد منهم} قال الفراء: أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:23 pm | |
| {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} الخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الايمانين، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري: {فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا} وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، فـ {مثل} زائدة كما هي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس كهو شي. وقال الشاعر: فصيروا مثل كعصف مأكول *** وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به. تابعه علي بن نصر الجهضيمي عن شعبة، ذكره البيهقي. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}. وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نقي التشبيه عن الله عز وجل. وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول. وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا على مثل إيمانكم. وقيل: {مثل} على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ} وقوله: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}. قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عن الايمان {فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة. وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه. قال الشاعر: إلى كم تقتل العلماء قسرا *** وتفجر بالشقاق وبالنفاق وقال آخر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه. قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير. والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك إياهم. وهذا الحرف {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه بذلك. و{السَّمِيعُ} لقول كل قائل: {الْعَلِيمُ} بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال: بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره! فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قال الأخفش وغيره: دين الله، وهو بدل من {مِلَّةَ}. وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي ألزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله. وروى شيبان عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام. قال الزجاج: ويدلك على هذا أن {صِبْغَةَ} بدل من {مِلَّةَ}. وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لأن الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام. وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة الدين. واصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم. وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لأن الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: ألان صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. وقال بعض شعراء ملوك همدان: وكل أناس لهم صبغة *** وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أبناءنا *** فأكرم بصبغتنا في الصبغ وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي. قلت: وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، وهى المسألة: الثانية لأن معنى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلي ركعتين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حسن إسلام صاحبكم». وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغتسل بماء وسدر. ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبد الحق. وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل. وقال الجوهري: {صِبْغَةَ اللَّهِ} دينه. وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء. {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} ابتداء وخبر.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)} قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه. وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولانا لم نعبد الأوثان. فمعنى الآية: قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم: {أَتُحَاجُّونَنا} أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين. ومعنى: {فِي اللَّهِ} أي في دينه والقرب منه والحظوة له. وقراءة الجماعة: {أَتُحَاجُّونَنا}. وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لأن الثاني كالمنفصل. وقرأ ابن محصين {أتحاجونا} بالإدغام لاجتماع المثلين. قال النحاس: وهذا جائز إلا أنه مخالف للسواد. ويجوز {أتحاجون} بحذف النون الثانية، كما قرأ نافع {فبم تبشرون} قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم!. والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شي». رواه الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.... فذكره، خرجه الدارقطني. وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ولا حظا من الملكين. وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله. وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي». {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} بمعنى قالوا. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {تَقُولُونَ} بالتاء وهي قراءة حسنة، لأن الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون كلامين وتكون {أم} بمعنى بل. {هُوداً} خبر كان، وخبر {إن} في الجملة. ويجوز في غير القرآن رفع {هُوداً} على خبر {إن} وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس. قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم. {مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً} يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام. وقيل: ما كتموه من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله قتادة، والأول أشبه بسياق الآية. {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة. وناقة غفل: لا سمة بها. ورجل غفل: لم يجرب الأمور. وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر. غفلت عن الشيء غفلة وغفولا، وأغفلت الشيء: تركته على ذكر منك.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)} كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.
{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ} أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما وَلَّاهُمْ. و{سَيَقُولُ} بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله: {مِنَ النَّاسِ} لان السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من {السُّفَهاءُ} جميع من قال: {ما وَلَّاهُمْ}. والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم. والنساء سقائه. وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي: المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير. وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم! واستهزءوا بالمسلمين. و{وَلَّاهُمْ} يعني عدلهم وصرفهم. الثانية: روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلي معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ}، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح. وقيل: نزل ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الصلاة. وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استقبل القبلة- أو قال: البيت الحرام- فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال. وقيل: إن الآية نزلت في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله أعلم. وروى أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لابي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث: «كنت أصلى» في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم. الثالثة: واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا، قال: صلينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين. وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان. الرابعة: واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله عكرمة وأبو العالية. الثاني- أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري. وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة. الثالث- وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} الآية. الخامسة: واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال غيره: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس. وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين. السادسة: في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الامة إلا من شذ، كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل. السابعة: ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: {كُنْتَ عَلَيْها} بمعنى أنت عليها. الثامنة: وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الأتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه. التاسعة: وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال: إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الأتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبي مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني. قلت: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي- رحمهما الله- وغيرهما. وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وسيأتي. العاشرة: وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في توجيهه ولأنه ورسله آحادا للافاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوامر والنواهي. الحادية عشرة: وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم. قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الامة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:25 pm | |
| {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل، واصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: «عدلا». قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل: {قالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم آخر: أنتم أوسط حي علموا *** بصغير الامر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن في الأمور فرطا *** لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعا وسطا *** ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلا وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلق والتقصير كان محمودا، أي هذه الامة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم. وفي الحديث: «خير الأمور أوسطها». وفيه عن علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل. وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شي. والوسط بسكون السين الظرف، تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم. قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه. الثانية: قوله تعالى: {لِتَكُونُوا} نصب بلام كي، أي لان تكونوا. {شُهَداءَ} خبر كان. {عَلَى النَّاسِ} أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدعي نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لامته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...}». وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: «فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}- والوسط العدل- لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا». قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه جنة على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خير فقال: «وجبت وجبت وجبت». ثم مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: «وجبت وجبت وجبت». فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: «وجبت وجبت وجبت» ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: «وجبت وجبت وجبت؟» فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض». أخرجه البخاري بمعناه. وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس». خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول. الثالثة: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام: «نحن الآخرون الأولون». وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى. الرابعة: وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الامة شهداء فقد وجب قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الامة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه. قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة. وقيل: {عَلَيْكُمْ} بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالايمان. وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى، لقوله: {كُنْتَ عَلَيْها}. وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت ألان عليها، كما تقدم، وكما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي. قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى: {لِنَعْلَمَ} لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} بمعنى ألم تعلم. وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها. وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي وأتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله أتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد. وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني» الحديث. والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم: {ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقرأ الزهري {إلا ليعلم} فـ {من} في موضع رفع على هذه القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. {يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة. {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} يعني ممن يرتد عن دينه، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. ولهذا قال: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} أي تحويلها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة. قوله تعالى: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} ذهب الفراء إلى أن {إن} واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت. وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة. {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي خلق الهدى الذي هو الايمان في قلوبهم، كما قال تعالى: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ}. قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم. وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الايمان. وقال محمد بن إسحاق: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين. وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} قال: صلاتكم. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} الرأفة أشد من الرحمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى فلينظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {لرؤف} على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة: وشر الطالبين فلا تكنه *** يقاتل عمه الرءوف الرحيم وحكى الكسائي أن لغة بني أسد {لرأف}، على فعل. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {لرؤف} مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة.
{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ}. ومعنى: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}: تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي. ومعنى: {تَرْضاها} تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}. وروى أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}. وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد لله. قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَوَلِّ} أمر {وَجْهَكَ شَطْرَ} أي ناحية {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس. وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قاله ابن عطية. والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس. قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي». الثانية: قوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول به، وأيضا فإن الفعل واقع فيه. وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود {فول وجهك تلقاء المسجد الحرام}. وقال الشاعر: أقول لأمّ زنباع أقيمي *** صدور العيس شطر بني تميم وقال آخر: وقد أظلكم من شطر ثغركم *** هول له ظلم يغشاكم قطعا وقال آخر: ألا من مبلغ عمرا رسولا *** وما تغني الرسالة شطر عمرو وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: «الطهور شطر الايمان». ويكون من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلانه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر بالضم شطارة فيهما. وسيل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه. الثالثة: لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد. الرابعة: واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول- أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ} يعني من الأرض من شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت. الخامسة: في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي. يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده. وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه. قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يريد اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني تحويل القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما- أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به. الثاني- أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة. قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تقدم معناه. وقراء ابن عامر وحمزة والكسائي {تعملون} بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، وليس تنفعهم الآيات، أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير: قبل. وفي التسليم: قبلات. ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت لئن بجواب لو وهي ضدها في أن لو تطلب في جوابها المضي والوقوع، ولئن تطلب الاستقبال، فقال الفراء والأخفش: أجيبت بجواب لو لان المعنى: ولو أتيت. وكذلك تجاب لو بجواب لئن، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} أي ولو أرسلنا ريحا. وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى لئن مخالف لمعنى لو فلا يدخل واحد منهما على الأخر، فالمعنى: ولين أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} ليظلن. قوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} لفظ خبر ويتضمن الامر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك. ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم. وقال قوم: المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم. والأول أظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيما للأمر ولأنه المنزل عليه. والاهواء: جمع هوى، وقد تقدم، وكذا {مِنَ الْعِلْمِ} تقدم أيضا، فلا معنى للإعادة. {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} {الَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء والخبر {يَعْرِفُونَهُ}. ويصح أن يكون في موضع خفض على الصفة ل {لظالمين}، و{يعرفون} في موضع الحال، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وقيل: {يعرفون} تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة أنه حق، قاله ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة أيضا. وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس وإن كانت ألصق لان الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه. قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مجاهد وقتادة وخصيف. وقيل: استقبال الكعبة، على ما ذكرنا آنفا. قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرك به اليهود من قبلتهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ {الحق} منصوبا ب {يَعْلَمُونَ} أي يعلمون الحق. ويصح نصبه على تقدير الزم الحق. والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ، والتقدير هو الحق، أو على إضمار فعل، أي جاءك الحق. قال النحاس: فأما الذي في الأنبياء {الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في سورة البقرة مبتدأ آية، والذي في الأنبياء ليس كذلك. قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكين. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. يقال: امتري فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالأخرى، ومنه المراء لان كل واحد منهما يشك في قول صاحبه. والامتراء في الشيء الشك فيه، وكذا التماري. وأنشد الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الأعشى: تدر على أسوق الممترين *** من ركضا إذا ما السراب ارجحن قال ابن عطية: ووهم في هذا، لأن أبا عبيدة وغيره قال: الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، وليس في البيت معنى الشك كما قال الطبري. قلت: معنى الشك فيه موجود، لأنه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه هل هو على ما عهد من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شي، أو يكون هذا عند أول شرائه فيجريه ليعلم مقدار جريه. قال الجوهري: ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره. والاسم المرية بالكسر وقد تضم. ومريت الناقة مريا: إذا مسحت ضرعها لتدر. وأمرت هي إذا در لبنها، والاسم المرية بالكسر، والضم غلط. والمرية: الشك، وقد تضم، وقرئ بهما.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:26 pm | |
| {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ} الوجهة وزنها فعلة من المواجهة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة إما بحق وإما بهوى. الثانية: قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيها} {هو} عائد على لفظ كل لا على معناه، لأنه لو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم، فالهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي هو موليها وجهه ونفسه. والمعنى: ولكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، على لفظ كل، وهو قول الربيع وعطاء وابن عباس. وقال علي بن سليمان: {وَلِّيها} أي متوليها. وقرأ ابن عباس وابن عامر {مولاها} على ما لم يسم فاعله. والضمير على هذه القراءة لواحد، أي ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها أي مصروف إليها، قاله الزجاج. ويحتمل أن يكون على قراءة الجماعة {هو} ضمير اسم الله عز وجل وإن لم يجر له ذكر، إذ معلوم أن الله عز وجل فاعل ذلك، والمعنى: لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى الطبري: أن قوما قرءوا {ولكل وجهة} بإضافة كل إلى وجهة. قال ابن عطية: وخطأها الطبري، وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ} على الامر في قوله: {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسلمت الواو في: {وجْهَةٌ} للفرق بين عدة وزنة، لأن جهة ظرف، وتلك مصادر. وقال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم. وذهب قوم إلى أنه اسم وليس بمصدر. وقال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة، وقد يقال الجهة في الظرف. الثالثة: قوله تعالى: {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} أي إلى الخيرات، فحذف الحرف، أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآي. والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها، والله تعالى أعلم. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي البدنة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البقرة ثم الذي على أثره كالذي يهدي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يهدي الدجاجة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البيضة». وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله». وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد قوله. وروى الدارقطني أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الأعمال الصلاة في أول وقتها». وفي حديث ابن مسعود: «أول وقتها» بإسقاط في. وروي أيضا عن إبراهيم بن عبد الملك عن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله». زاد ابن العربي: فقال أبو بكر: رضوان الله أحب إلينا من عفوه، فإن رضوانه عن المحسنين وعفوه عن المقصرين، وهذا اختيار الشافعي. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أفضل، لأنه وقت الوجوب. وأما مالك ففصل القول، فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل، أما الصبح فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس- في رواية: متلففات. وأما المغرب فلحديث سلمة بن الأكوع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، أخرجهما مسلم. وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه. روى ابن عمر قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: «إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة». وفي البخاري عن أنس قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى...، وذكر الحديث. وقال أبو برزة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب تأخيرها. وأما الظهر فإنها تأتي الناس على غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا. قال أبو الفرج قال مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا للظهر في شدة الحر. وقال ابن أبي أويس: وكان مالك يكره أن يصلي الظهر عند الزوال ولكن بعد ذلك، ويقول: تلك صلاة الخوارج. وفي صحيح البخاري وصحيح الترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبرد» ثم أراد أن يؤذن فقال له: «أبرد» حتى رأينا في التلول، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة». وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس. والذي يجمع بين الحديثين ما رواه أنس أنه إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل. قال أبو عيسى الترمذي: وقد اختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال الشافعي: إنما الإبراد بصلاة الظهر إذا كان مسجدا ينتاب أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه فالذي أحب له ألا يؤخر الصلاة في شدة الحر. قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال الشافعي. قال أبو ذر: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا بلال أبرد ثم أبرد». فلو كان الامر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للابراد في ذلك الوقت معنى، لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد. وأما العصر فتقديمها أفضل. ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها، فإن فضل الجماعة معلوم، وفضل أول الوقت مجهول وتحصيل المعلوم أولى، قاله ابن العربي. الرابعة: قوله تعالى: {أَيْنَما تَكُونُوا} شرط، وجوابه: {يأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} يعني يوم القيامة. ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإعادة بعد الموت والبلى. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا، فأكد الامر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه. وقيل: أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها. ثم قال: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ} معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. ثم قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني وجوب الاستقبال في الاسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض. قلت: هذا القول أحسن من الأول، لأن فيه حمل كل آية على فائدة. وقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به. أخرجه أبو داود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال، لحديث ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته. قال: وفيه نزل {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد تقدم. قلت: ولا تعارض بين الحديثين، لأن هذا من باب المطلق والمقيد، فقول الشافعي أولى، وحديث أنس في ذلك حديث صحيح. ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض، فكررت لتكون عند من حفظ البعض. قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال مجاهد: هم مشركو العرب. وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقد أجيبوا عن هذا بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}. وقيل: معنى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، فلما قال عز وجل: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} زال هذا. وقال أبو عبيدة: إن إلا هاهنا بمعنى الواو، أي والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر: ما بالمدينة دار غير واحدة *** دار الخليفة إلا دار مروانا كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وكذا قيل في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي الذين آمنوا. وأبطل الزجاج هذا القول وقال: هذا خطأ عند الحذاق من النحويين، وفيه بطلان المعاني، وتكون إلا وما بعدها مستغني عن ذكرهما. والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون. قال أبو إسحاق الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها} {ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك على حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني، أي مالك حجة البتة ولكنك تظلمني، فسمى ظلمه حجة لان المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف والميم في: {عَلَيْكُمْ}. وقالت فرقة: {إِلَّا الَّذِينَ} استثناء متصل، روي معناه عن ابن عباس وغيره، واختاره الطبري وقال: نفى الله أن يكون لاحد حجة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في استقبالهم الكعبة. والمعنى: لا حجة لاحد عليكم إلا الحجة الداحضة. حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق. والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة. وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة. وقال ابن عطية: وقيل إن الاستثناء منقطع، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب، كأنه قال: لكن الذين ظلموا يحاجونكم، وقوله: {مِنْهُمْ} يرد هذا التأويل. والمعنى لكن الذين ظلموا، يعني كفار قريش في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد {ألا الذين ظلموا} بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام، فيكون {الَّذِينَ ظَلَمُوا} ابتداء، أو على معنى الإغراء، فيكون {الذين} منصوبا بفعل مقدر. قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} يريد الناس {وَاخْشَوْنِي} الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي. والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا. ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والامر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى. قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} معطوف على {لِئَلَّا يَكُونَ} أي ولان أتم، قاله الأخفش. وقيل: مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله الزجاج. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة. قال سعيد بن جبير: ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة. و{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} تقدم.
{كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} قوله تعالى: {كَما أَرْسَلْنا} الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، المعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفراء. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، أي ولأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام مثل ما أرسلنا. وقيل: المعنى ولعلكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا. وقيل: هي في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال. والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وأن الذكر المأمور به في عظمه كعظم النعمة. وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي فاذكروني كما أرسلنا روي عن علي رضي الله عنه واختاره الزجاج. أي كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به. والوقف على {تَهْتَدُونَ} على هذا القول جائز. قلت: وهذا اختيار الترمذي الحكيم في كتابه، أي كما فعلت بكم هذا من المنن التي عددتها عليكم فاذكروني بالشكر أذكركم بالمزيد، لأن في ذكركم ذلك شكرا لي، وقد وعدتكم بالمزيد على الشكر، وهو قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، فالكاف في قوله: {كَما} هنا، وفي الأنفال {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} وفي آخر الحجر {كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} متعلقة بما بعده، على ما يأتي بيانه.
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم. واصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم. ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله سعيد بن جبير. وقال أيضا: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير»، ذكره أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكام القرآن له. وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: ومن أين تعلمها؟ قال يقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب. وسيل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته. وقال ذو النون المصري رحمه الله: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكرهو كل شي، وحفظ الله عليه كل شي، وكان له عوضا من كل شي. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. والأحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الأئمة. روى ابن ماجه عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل». وخرج عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه». وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان عند قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} وأن المراد ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات. قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} قال الفراء يقال: شكرتك وشكرت لك، ونصحتك ونصحت لك، والفصيح الأول. والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور، وقد تقدم. فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات. قوله تعالى: {وَلا تَكْفُرُونِ} نهي، ولذلك حذفت منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم. وحذفت الياء لأنها رأس آية، وإثباتها أحسن في غير القرآن، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي. فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب. وقد مضى القول في الكفر لغة، مضى القول في معنى الاستعانة بالصبر والصلاة، فلا معنى للإعادة.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:28 pm | |
| {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)} هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وهناك يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم، إن شاء الله تعالى. وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم- على ما يأتي- فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، ويكون فيه دليل على عذاب القبر. والشهداء أحياء كما قال الله تعالى، وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا. ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون. وارتفع {أَمْواتٌ} على إضمار مبتدأ، وكذلك {بَلْ أَحْياءٌ} أي هم أموات وهم أحياء، ولا يصح إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب، كما يصح في قولك: قلت كلاما وحجة.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين. وقال غيره: لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر. والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة، وقد تقدم. والمعنى لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، كما تقدم. وقيل: إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق. وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم، فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس. قوله تعالى: {بِشَيْ ءٍ} لفظ مفرد ومعناه الجمع. وقرأ الضحاك {بأشياء} على الجمع وقرأ الجمهور بالتوحيد، أي بشيء من هذا وشئ من هذا، فاكتفى بالأول إيجازا {مِنَ الْخَوْفِ} أي خوف العدو والفزع في القتال، قاله ابن عباس. وقال الشافعي: هو خوف الله عز وجل. {وَالْجُوعِ} يعني المجاعة بالجدب والقحط، في قول ابن عباس. وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ} بسبب الاشتغال بقتال الكفار. وقيل: الجوائح المتلفة. وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة. {وَالْأَنْفُسِ} قال ابن عباس: بالقتل ولموت في الجهاد. وقال الشافعي: يعني بالأمراض. {وَالثَّمَراتِ} قال الشافعي: المراد موت الأولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، على ما يأتي. وقال ابن عباس: المراد قلة النبات وانقطاع البركات. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر، وقد تقدم. لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، كما روى البخاري عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». وأخرجه مسلم أتم منه، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث. وقال سهل بن عبد الله التستري: لما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} صار الصبر عيشا. والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فهذا مجاهد، وصبر على طاعة الله، فهذا عابد. فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه، وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى. وقال الأستاذ أبو علي: الصبر حده ألا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} مع ما أخبر عنه أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرّ}.
{الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {مُصِيبَةٌ} المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة بضم الصاد مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل. والمصاب الإصابة، قال الشاعر: أسليم إن مصابكم رجلا *** أهدى السلام تحية ظلم وصاب السهم القرطاس يصيب صبيا، لغة في أصابه. والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطفأ ذات ليلة فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: «نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة». قلت: هذا ثابت معناه في الصحيح، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته». الثانية: خرج ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب». الثالثة: من أعظم المصائب المصيبة في الدين، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب». أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده، أخبرنا أبو نعيم قال: أنبأنا فطر...، فذكر مثله سواء. وأسند مثله عن مكحول مرسلا. قال أبو عمر: وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة. وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه. قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول: اصبر لكل مصيبة وتجلد *** واعلم بأن المرء غير مخلد أوما ترى أن المصائب جمة *** وترى المنية للعباد بمرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبة *** هذا سبيل لست فيه بأوحد فإذا ذكرت محمدا ومصابه *** فاذكر مصابك بالنبي محمد الرابعة: قوله تعالى: {قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين: لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: {إِنَّا لِلَّهِ} توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} إقرار بالهلك، على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الامر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفي على يوسف. الخامسة: قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد». وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها». فهذا تنبيه على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إما بالخلف كما أخلف الله لام سلمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون بهما. السادسة: قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى، كما قال: {مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى}، وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ}. وقال الشاعر: صلى على يحيى وأشياعه *** رب كريم وشفيع مطاع وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. أراد بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن. {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} فيه تسع مسائل: الأولى: روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما}. وخرج الترمذي عن عروة قال: قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! طاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاف المسلمون، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} ولو كانت كما تقول لكانت: {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما}. قال الزهري: فذكرت ذلك لابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء. قال: هذا حديث حسن صحيح. أخرجه البخاري بمعناه، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ}: قالت عائشة وقد سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطواف بينهما، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس- إلا من ذكرت عائشة- ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} الآية. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت. وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كانا من شعائر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} قال: هما تطوع، وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ. قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه البخاري أيضا. وعن ابن عباس قال: كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك، فنزلت. وقال الشعبي: كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى إسافا وعلى المروة صنم يسمى نائلة فكانوا يمسحونهما إذا طافوا، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك، فنزلت الآية. الثانية: أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر الصفا لان آدم المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، والله أعلم. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى إسافا وعلى المروة صنم يدعى نائلة فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، والله تعالى أعلم. والصفا مقصور: جمع صفاة، وهى الحجارة الملس. وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صفى بضم الصاد وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز: كأن متنيه من النفي *** مواقع الطير على الصفي وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب والطين. والمروة واحدة المرو وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر: وتولى الأرض خفا ذابلا *** فإذا ما صادف المرو رضخ وقال أبو ذؤيب: حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشقر كل يوم تقرع وقد قيل: إنها الحجارة السود. وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار. الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} أي من معالمه ومواضع عباداته، وهى جمع شعيرة. والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس، من الموقف والسعى والنحر. والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت: نقتلهم جيلا فجيلا تراهم *** شعائر قربان بهم يتقرب الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} أي قصد. واصل الحج القصد، قال الشاعر: فأشهد من عوف حلولا كثيرة *** يحجون سب الزبرقان المزعفرا السب: لفظ مشترك. قال أبو عبيدة: السب بالكسر الكثير السباب. وسبك أيضا الذي يسابك، قال الشاعر: لا تسبنني فلست بسبي *** إن سبى من الرجال الكريم والسب أيضا الخمار، وكذلك العمامة، قال المخبل السعدي: يحجون سب الزبرقان المزعفرا *** والسب أيضا الحبل في لغة هذيل، قال أبو ذؤيب: تدلى عليها بين سب وخيطه *** بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها والسبوب: الحبال. والسب: شقة كتان رقيقة، والسبيبة مثله، والجمع السبوب والسبائب، قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر: يحج مأمومة في قعرها لجف *** اللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة. الخامسة: قوله تعالى: {أَوِ اعْتَمَرَ} أي زار. والعمرة: الزيارة، قال الشاعر: لقد سما ابن معمر حين اعتمر *** مغزى بعيدا من بعيد وضبر السادسة: قوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ} أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية. قال ابن العربي وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} فلم يأت هذا اللفظ لاباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا. فإن قيل: فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} وهى قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبى كذلك، ويروى عن أنس مثل هذا. والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون لا زائدة للتوكيد، كما قال: وما ألوم البيض ألا تسخرا *** لما رأين الشمط القفندرا السابعة: روى الترمذي عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} وصلي خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال: «نبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا وقال: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} قال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا. الثامنة: واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك، لقوله عليه السلام: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». خرجه الدارقطني. وكتب بمعنى أوجب، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}، وقوله عليه السلام: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد». وخرج ابن ماجه عن أم ولد لشيبة قالت: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: «لا يقطع الأبطح إلا شدا» فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى، لأن السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي: عليه هدى، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع، لقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً}. وقرأ حمزة والكسائي {يطوع} مضارع مجزوم، وكذلك {فمن تطوع خيرا فهو خير له} الباقون {تَطَوَّعَ} ماض، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره. وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا، وقوله عليه السلام: «خذوا عني مناسككم» فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع. وقال طليب: رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل. قلت: وهذا ثابت في صحيح البخاري، على ما يأتي بيانه في سورة إبراهيم. التاسعة: ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بنفسه وقال: «خذوا عني مناسككم». وإنما جوزنا ذلك من العذر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة وقد قالت له: إني أشتكى، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة». وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا، وإنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويز منداد: وهذه تفرقة اختيار، وأما الاجزاء فيجزئ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:30 pm | |
| {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)} فيه سبع مسائل: الأولى: أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون. واختلفوا من المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص، أخرجه ابن ماجة. ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام: «حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله». وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته، والله تعالى أعلم. الثانية: هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام. وقد مضى القول في هذا. وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها». وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير»، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سحنون: إن حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي: والصحيح خلافه، لأن في الحديث: «من سئل عن علم» ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله، والله أعلم. الثالثة: لى وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} فحكم بوقوع البيان بخبرهم. فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم، والله تعالى أعلم. الرابعة: لما قال: {مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الأخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم. الخامسة: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ} الكناية في: {بَيَّنَّاهُ} ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة. السادسة: قوله تعالى: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي يتبرأ منهم ويبعد هم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للعين: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي}. واصل اللعن في اللغة الابعاد والطرد، وقد تقدم. السابعة: قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال قتادة والربيع: المراد بـ {اللَّاعِنُونَ} الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال: {اللَّاعِنُونَ} الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا. قلت: قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال: «دواب الأرض». أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء، إسناد حسن. فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟. قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} ولم يقل ساجدات، وقد قال: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا}، وقال: {وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}، ومثله كثير، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وابن عباس: {اللَّاعِنُونَ} كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والانس، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع». وقال ابن مسعود والسدي: هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى، فهو قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود.
{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا} استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفى في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في النساء إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء في قوله: {وَبَيَّنُوا} أي بكسر الخمر وإراقتها. وقيل: {بَيَّنُوا} يعني ما في التوراة من نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجوب اتباعه. والعموم أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه، والله تعالى أعلم. {فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تقدم والحمد لله. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَهُمْ كُفَّارٌ} الواو واو الحال. قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه، لأن حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر، وأما ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمالهم. قال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله، وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أنى لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني». فلعنه، وإن كان الايمان والدين والإسلام مآله. وانتصف بقوله: «عدد ما هجاني» ولم يزد ليعلم العدل والانصاف. وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين واهلة، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه. الثانية: ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتا أو مجنونا. وقال قوم من السلف: إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به. والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الاخبار عن الله تعالى بلعنهم، لا على الامر. وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا، لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» فجعل له حرمة الاخوة، وهذا يوجب الشفقة، وهذا حديث صحيح. قلت: خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال عليه السلام: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه. وبين هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب». فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة، والله تعالى أعلم. قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا، لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده». الثالثة: قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي إبعادهم من رحمته. واصل اللعن: الطرد والابعاد، وقد تقدم. فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب. وقرأ الحسن البصري {والملائكة والناس أجمعون} بالرفع. وتأويلها: أولئك جزاءهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون، كما تقول: كرهت قيام زيد وعمرو وخالد، لأن المعنى: كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف. فإن قيل: ليس يلعنهم جميع الناس لان قومهم لا يلعنونهم، قيل عن هذا ثلاثة أجوبة، أحدها- أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل. الثاني- قال السدى: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه. الثالث- قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس، كما قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}. ثم قال عز وجل: {خالِدِينَ فِيها} يعني في اللعنة، أي في جزائها. وقيل: خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات. و{خالِدِينَ} نصب على الحال من الهاء والميم في: {عَلَيْهِمْ}، والعامل فيه الظرف من قوله: {عَلَيْهِمْ} لان فيها معنى استقرار اللعنة.
{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت كفار قريش: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص وهذه الآية. وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما، فبين الله أنه واحد. الثانية: قوله تعالى: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} نفى وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله. وحكى عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول: الله، ولا يقول: لا إله، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار. قلت: وهذا من علومهم الدقيقة، التي ليست لها حقيقة، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة». خرجه مسلم. والمقصود القلب لا اللسان، فلو قال: لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة. وقد أتينا على معنى اسمه الواحد، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد لله.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:31 pm | |
| {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قال عطاء: لما نزلت {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد! فنزلت {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} قالوا هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} كأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع. وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى. ووحد الأرض لأنها كلها تراب، والله تعالى أعلم. فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية. وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها. الثانية: قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الأخر من حيث لا يعلم. وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل. ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى، وهو مما شذ عن قياس الجموع، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر، وكان ليالي في القياس جمع ليلاة. وقد استعملوا ذلك في الشعر قال: في كل يوم وكل ليلة *** وقال آخر: في كل يوم ما وكل ليلاه *** حتى يقول كل راء إذ رآه يا ويحه من جمل ما أشقاه *** قال ابن فارس في المجمل: ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه. والنهار يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير. والأول أكثر، قال الشاعر: لولا الثريدان هلكنا بالضمر *** ثريد ليل وثريد بالنهر قال ابن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار. ويقال: إن النهار يجمع على النهر. والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورجل نهر: صاحب نهار. ويقال: إن النهار فرخ الحبارى. قال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال ثعلب: أوله عند العرب طلوع الشمس، استشهد بقول أمية بن أبى الصلت: والشمس تطلع كل آخر ليلة *** حمراء يصبح لونها يتورد وأنشد قول عدي بن زيد: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا وأنشد الكسائي: إذا طلعت شمس النهار فإنها *** أمارة تسليمي عليك فسلمي قال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس. وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. قلت: والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما رواه ابن فارس في المجمل، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قال له عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف بهما الليل من النهار. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار». فهذا الحديث يقضى أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو مقتضى الفقه في الايمان، وبه ترتبط الأحكام. فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث، وعلى الأول لا يحنث. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الفيصل في ذلك والحكم. وأما على ظاهر اللغة واخذه من السنة فهو من وقت الاسفار إذا اتسع وقت النهار، كما قال: ملكت بها كفي فأنهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول، خرجه النسائي. وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى. الثالثة: قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر، قال تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فجاء به مذكرا، وقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر} فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا، وقال: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} فجمع، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده فلك، مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها، ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور. ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: اصنعها على جؤجؤ الطائر، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله ابن العربي. الرابعة: هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد. ومن السنة حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام، أخرجهما الأئمة: مالك وغيره. روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس. هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسنة يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض واليها المفزع. وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا. ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها، فسهل الله سبيله بالفلك، قاله ابن العربي. قال أبو عمر: وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال: إنما كره ذلك مالك لان السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا، فلذلك كره مالك ذلك. وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال: والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالا، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن، ولم يخص بحرا من بر. قلت: فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، فهي الحجة وفيها الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد المفرط الميد، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض، فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه ويمنع منه. لا خلاف بين أهل العلم وهى: الخامسة: إن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لاحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون. السادسة: قوله تعالى: {بِما يَنْفَعُ النَّاسَ} أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا. وقد قال بعض من طعن في الدين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله: {بِما يَنْفَعُ النَّاسَ}. السابعة: قوله تعالى: {وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ} يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ}. الثامنة: قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي فرق ونشر، ومنه: {كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ}. ودابة تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود، قال الله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته، قال الأعشى: دبيب قطا البطحاء في كل منهل *** وقال علقمة بن عبدة: صواعقها لطيرهن دبيب *** التاسعة: قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ} تصريفها: إرسالها عقيما وملقحة، وصرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة. وقيل: تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا، ودبورا وصبا، ونكباء، وهى التي تأتى بين مهبى ريحين. وقيل: تصريفها أن تأتى السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضربهما، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتى بالروح غالبا. روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الريح من روح الله تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها». وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتى بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها». وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن». المعنى: أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح، والإضافة من طريق الفعل. والمعنى: أن الله تعالى جعلها كذلك. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالريح يوم الأحزاب، فقال تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها}. ويقال: نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا، أي فرج عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». أي فرج عنه. وقال الشاعر: كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على كبد مهموم تجلت همومها قال ابن الاعرابي: النسيم أول هبوب الريح. واصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح، ولا يقال: أرياح، لأنها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة {وتصريف الأرواح}. العاشرة: قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ} قرأ حمزة والكسائي {الريح} على الافراد، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية، لا خلاف بينهما في ذلك. ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى. وأفرد حمزة {الريح لواقح}. وأفرد ابن كثير {وهو الذي أرسل الريح} في الفرقان. وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع. والذي ذكرناه في الروم هو الثاني {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ}. ولا خلاف بينهم في: {الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ}. وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن، سوى {تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} و{الرِّيحَ الْعَقِيمَ}. فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد. فمن وحد الريح فلانه اسم للجنس يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووجد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن، نحو: {الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ} و{الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا». وذلك لان ريح العذاب شديدة ملتئمة الاجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح. فأفردت مع الفلك في يونس، لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب. الحادية عشرة: قال العلماء: الريح تحرك الهواء، وقد يشتد ويضعف. فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح: الصبا. وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح: الدبور. وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها: ريح الجنوب. وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها: ريح الشمال. ولكل واحدة من هذه الرياح طبع، فتكون منفعتها بحسب طبعها، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة، لأن الهواء في الصيف حار يابس، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة، لأن الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار. فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة، ومباين له في الأخرى وهو اليبس، لأن الهواء في الشتاء بارد رطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتمهد الأرض كالجسد المستريح، فلا تتحرك إلا أن يعبد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى. وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه، إلا أن الأصول هذه الأربع. فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى النكباء. الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} سمى السحاب سحابا لانسحابه في الهواء. وسحبت ذيلي سحبا. وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والسحب: شدة الأكل والشرب. والمسخر: المذلل، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر. وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، والأول أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وارد فيها ثلثه». وفي رواية: «وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل». وفي التنزيل: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ}، وقال: {حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} وهو في التنزيل كثير. وخرج ابن ماجه عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول: «اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به» فإن أمطر قال: «اللهم سيبا نافعا» مرتين أو ثلاثة، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذلك. أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة: فسألته فقال: «إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي». ويقول إذا رأى المطر: «رحمة». في رواية فقال: «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا}». فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها، والله تعالى أعلم. فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح، لقوله بين وهي مع ذلك مسخرة محمولة، وذلك أعظم في القدرة، كالطير في الهواء، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ}. الثالثة عشرة: قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، رواه عنه ابن عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن على عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال: رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بنى سلمة، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس: هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا؟ قال: نعم، قال: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قال: سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا، وتنبت عاما قابلا غيره؟ قال نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء. قال ابن عباس: وقد سمعت ذلك من كعب. الرابعة عشرة: قوله تعالى: {لَآياتٍ} أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} ليدل بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها. فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها. قيل له: هذا محال، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة، فإن أحدثتها وهى معدومة كان محالا، لأن الأحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغنى عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال. ثم أن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الاخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} والخطاب للكفار، لقوله تعالى: {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}، وقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يعني بالملكوت الآيات. وقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}. يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغنى عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يعني آدم عليه السلام، {ثُمَّ جَعَلْناهُ} أي جعلنا نسله وذريته {نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ} إلى قوله: {تُبْعَثُونَ}. فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة. كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الافعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر. وقال بعض الحكماء: إن كل شيء في العالم الكبير له نظير العالم الصغير، الذي هو بدن الإنسان، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}. فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء. وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار، لأن العروق تستمد من الكبد. ومثانته بمنزلة البحر، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض. ثم إن الإنسان يحكى بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد، لا إله إلا هو. قوله تعالى:
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:32 pm | |
| {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)} لما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا، وواحدها ند، وقد تقدم. والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها، قاله مجاهد. قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد، وقال معناه الزجاج. أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. وقال ابن عباس والسدي: المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله. وجاء الضمير في: {يُحِبُّونَهُمْ} على هذا على الأصل، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل. وقال ابن كيسان والزجاج أيضا: معنى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يسؤون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة. قال أبو إسحاق: وهذا القول الصحيح، والدليل على صحته: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}. وقرأ أبو رجاء {يحبونهم} بفتح الياء. وكذلك ما كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب. قال الفراء: أنشدني أبو تراب: أحب لحبها السودان حتى *** حببت لحبها سود الكلاب و{من} في قوله: {مَنْ يَتَّخِذُ} في موضع رفع بالابتداء، و{يتخذ} على اللفظ، ويجوز في غير القرآن {يتخذون} على المعنى، و{يحبونهم} على المعنى، ويحبهم على اللفظ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في: {يَتَّخِذُ} أي محبين، وإن شئت كان نعتا للأنداد، أي محبوبة. والكاف من {كَحُبِّ} نعت لمصدر محذوف، أي يحبونهم حبا كحب الله. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي أشد من حب أهل الأوثان لاوثانهم والتابعين لمتبوعهم. وقيل: إنما قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} لان الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه. ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ} قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء، وهو اختيار أبي عبيد. وفي الآية إشكال وحذف، فقال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا. و{يَرَى} على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب معاني القرآن له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب إعراب القرآن له: وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو قول الأخفش: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله. و{يرى} بمعنى يعلم، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله عز وجل وشدة عذابه، فـ {يرى} واقعة على أن القوة لله، وسدت مسد المفعولين. و{الذين} فاعل {يرى}، وجواب {لو} محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال عز وجل. {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ}، {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} ولم يأت ل {لو} جواب. قال الزهري وقتادة: الإضمار أشد للوعيد، ومثله قول القائل: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه! ومن قرأ بالتاء فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في أن. وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا. وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد للظالم هذا. وقيل: أن في موضع نصب مفعول من أجله، أي لان القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه: وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لان القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت إذ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه. وقرأ ابن عامر وحده {يرون} بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر {إن القوة}، {وإن الله} بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله. وثبت بنص هذه الآية القوة لله، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، تعالى الله عن قولهم.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)} قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} يعني السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر. عن قتادة وعطاء والربيع. وقال قتادة أيضا والسدي: هم الشياطين المضلون تبرءوا من الانس. وقل: هو عام في كل متبوع. {وَرَأَوُا الْعَذابَ} يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا. وقيل: عند العرض والمسألة في الآخرة. قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال. قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ} أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره. الواحد سبب ووصلة. واصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا. وقال السدي وابن زيد: إن الأسباب أعمالهم. والسبب الناحية، ومنه قول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه *** ولو رام أسباب السماء بسلم
{وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً} {أن} في موضع رفع، أي لو ثبت أن لنا رجعة {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} جواب التمني. والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، أي قال الاتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم {كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا} أي تبرأ كما، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نصبا على الحال، تقديرها متبرئين، والتبرؤ الانفصال. قوله تعالى: {كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ} الكاف في موضع رفع، أي الامر كذلك. أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم. و{يُرِيهِمُ اللَّهُ} قيل: هي من رؤية البصر، فيكون متعديا لمفعولين: الأول الهاء والميم في: {يُرِيهِمُ}، والثاني {أَعْمالَهُمْ}، وتكون {حَسَراتٍ} حال. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون {حَسَراتٍ} المفعول الثالث. {أَعْمالَهُمْ} قال الربيع: أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدي: الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون. وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. والحسرة واحدة الحسرات، كتمرة وتمرات، وجفنة وجفنات، وشهوة وشهوات. هذا إذا كان اسما، فإن نعته سكنت، كقولك: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات. والحسرة أعلا درجات الندامة على شيء فائت. والتحسر: التلهف، يقال: حسرت عليه بالكسر أحسر حسرا وحسرة. وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته، كالبعير إذا عيي. وقيل: هي مشتقة من حسر إذا كشف، ومنه الحاسر في الحرب: الذي لا درع معه. والانحسار. الانكشاف. قوله تعالى: {وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ} دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ}. وسيأتي. {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الانعام، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في الأنعام والأعراف إن شاء الله تعالى. الثانية: قوله تعالى: {حَلالًا طَيِّباً} {حلالا} حال، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه. قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو عبد الله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، واكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت- وهو اسم مجمل- والغلول والمكروه والشبهة. الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا} نهي {خُطُواتِ الشَّيْطانِ} {خطوات} جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة بالضم: ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة بالفتح: المرة الواحدة، والجمع خطوات بالتحريك وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس: لها وثبات كوثب الظباء *** فؤاد خطاء وواد مطر وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير {خطوات} بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش {خطؤات} بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تفقوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس: {خُطُواتِ الشَّيْطانِ} أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في المعاصي. قلت: والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في: {الشيطان} مستوفى. الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بنى آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} وقال: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً} وقال: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} وقال: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ}. وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبد الله بن عمر: إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر في الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبى مالك الأشعري وفيه: «وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.
{إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)} قوله تعالى: {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ} سمى السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال الله تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. وقال الشاعر: إن يك هذا الدهر قد ساءني *** فطالما قد سرني الدهر الامر عندي فيهما واحد *** لذاك شكر ولذاك صبر والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش *** ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} فإنه منع الزكاة. قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا. {وَأَنْ تَقُولُوا} في موضع خفض عطفا على قوله تعالى: {بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ}.
{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)} فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ} يعني كفار العرب. ابن عباس: نزلت في اليهود. الطبري: الضمير في: {لَهُمُ} عائد على الناس من قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا}. وقيل: هو عائد على {من} في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ} أي بالقبول والعمل. {قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} ألفينا: وجدنا. وقال الشاعر: فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا الثانية: قوله تعالى: {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ} الألف للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم. مسألة- قال علماؤنا: وقوه ألفاظ هذه الآية تعطى إبطال التقليد، ونظيرها: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في: {لَهُمُ} عائد عليهم في الآيتين جميعا. الثالثة: تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح. الرابعة: التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا. وقيل: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم: وقلدوا أمركم لله دركم *** ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا الخامسة: التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول. السادسة: فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الأخر صحابيا أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين. السابعة: قال ابن عطية: أجمعت الامة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبى بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب الانتصار له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ}. فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل، كصنيع أهل الاهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دينه، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة، كما بيناه في آية التوحيد، والله يهدي من يريد. قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله بقوله: {رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا} إلى قوله: {كَبِيراً} وقوله: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. ثم قال لنبيه: {قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} ثم قال لنبيه عليه السلام {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} الآية. فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الامة، من قولهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا وأَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا بسبيل، لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ}. فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه آباءه من صفات المدح. ولم يجئ فيما جاءوا به ذكر الاعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها. قال ابن الحصار: وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه. واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الاغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة. فلم يزل الامر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الامر على السلطان، حتى قال الأمير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك. فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبد الله بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم. وكان من درج من المسلمين من هذه الامة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف. قلت: ومن نظر ألان في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:39 pm | |
|
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)} شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية الإيجاز. قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به. والمعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الحماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي. قال الطبري: المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه. ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به. والنعيق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعاقا، أي صاح بها وزجرها. قال الأخطل: انعق بضأنك يا جرير فإنما *** منتك نفسك في الخلاء ضلالا قال القتبي: لم يكن جرير راعى ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن، وجرير منهم، فهو في جهلهم. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون: أجهل من راعى ضأن. قال القتبي: ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للاباعد. وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر. ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمى. وقد تقدم في أول السورة.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} هذا تأكيد للأمر الأول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل: هو الأكل المعتاد. وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك». {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تقدم معنى الشكر فلا معنى للإعادة.
{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} فيه أربع وثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} {إنما} كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفى ما عداه، وقد حصرت هاهنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة {إنما} الحاصرة، فاقتضى ذلك الايعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روى أنها نزلت بعرفة: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قال ابن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في الأنعام إن شاء الله تعالى. الثانية: {الميتة} نصب بـ {حرم}، و{ما} كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع {الميتة والدم ولحم الخنزير} على خبر {إن} وهي قراءة ابن أبى عبلة. وفي {حَرَّمَ} ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ}. وقرأ أبو جعفر {حرم} بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا {الميتة} بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت، وميت لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه ميت بالتخفيف، دليله قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وقال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير {وما هو بميت} والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر: إذا ما مات ميت من تميم *** فسرك أن يعيش فجئ بزاد فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، والأول أشهر. الثالثة: الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي الأنعام إن شاء الله تعالى. الرابعة: هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: «أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال». أخرجه الدارقطني، وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه البخاري ومسلم مع قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء الله تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك. وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا! قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما. الخامسة: وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب الله تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي. وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبى أوفى قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبد الحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعي وأبى حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه، لأنه من صيد البر، ألا ترى أن الحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل. وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في الأعراف عند ذكره، إن شاء الله تعالى. السادسة: واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، واختلف عن مالك في ذلك أيضا، فقال مرة: يجوز الانتفاع بها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على شاة ميمونة فقال: «هلا أخذتم إهابها» الحديث. وقال مرة: جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} ولم يخص وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مجمل، لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، وأيضا فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء». وفي حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب». وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتي بيان هذه الاخبار والكلام عليها في النحل إن شاء الله تعالى. السابعة: فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة وأستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال: «إن شئتم فكلوه لان ذكاته ذكاة أمه». خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبى سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة المائدة إن شاء الله تعالى. الثامنة: واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أولا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر، لقوله عليه السلام: «أيما إهاب دبغ فقد طهر». ووجه قوله: لا يطهر، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم. وتحمل لأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء، لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة الفرقان. والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية، والله تعالى أعلم. التاسعة: وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر، لما روى عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل». ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة، لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة النحل إن شاء الله تعالى. العاشرة: وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت، فقال عليه السلام: «إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه». واختلف العلماء فيه إذا غسل، فقيل: لا يطهر بالغسل، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات. وقال ابن القاسم: يطهر بالغسل، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لان الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه. الحادية عشرة: فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ثمن الخمر فقال: «عن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها». وأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه. وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر. الثانية عشرة: واختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره فمات فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في المرق من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد. الثالثة عشرة: فأما إنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي: ذلك نجس لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل. وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء. قال ابن خويز منداد فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بإنفحة ميتة أو ذكى. قيل له: قدر ما يقع من الإنفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم، فمن أين لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفحة ذبائحهم. وقال أبو عمر: ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من إنفحة الميتة. وفي سنن ابن ماجة: «الجبن والسمن» حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السمن والجبن والفراء. فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه». الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَالدَّمَ} اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لان الله تعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، وقال في موضع آخر {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}. فحرم المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره، لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الامة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك. قلت: ذكر الله سبحانه وتعالى الدم هاهنا مطلقا، وقيده في الأنعام بقوله: {مَسْفُوحاً} وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا. فالدم هنا يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرم. وهو اختيار ابن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته. قلت: وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول: الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكى أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها. السادسة عشرة: أجمعت الامة على تحريم شحم الخنزير. وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لان اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم. وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لأنه دخل تحت اسم اللحم. وحرم الله تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله: {حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث، والله تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم. السابعة عشرة: لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. وقد روي أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: «لا بأس بذلك» ذكره ابن خويز منداد، قال: ولان الخرازة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده. وما أجازه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كابتداء الشرع منه. الثامنة عشرة: لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف. وأبي مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال: أنتم تقولون خنزيرا! وقد تقدم، وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى. التاسعة عشرة: ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية. وفي الصحاح: وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر. والخزر: ضيق العين وصغرها. رجل أخزر بين الخزر. ويقال: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها. وجمع الخنزير خنازير. والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة. العشرون: قوله تعالى: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل. فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في سورة المائدة. والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بكذا، أي رفع صوته. قال ابن أحمر يصف فلاة: يهل بالفريد ركبانها *** كما يهل الراكب المعتمر وقال النابغة: أو درة صدفية غواصها *** بهج متى يرها يهلّ ويسجد ومنه إهلال الصبى واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير الله به، فتركها الناس. قال ابن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم. قلت: ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدوم عليها. قالت: كان يصلى قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت امرأة عند ذلك من الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم. الحادية والعشرون: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة. وقرأ ابن محيصن {فمن أطر} بإدغام الضاد في الطاء. وأبو السمال فمن اضطر بكسر الطاء. وأصله أضطر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء. الثانية والعشرون: الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه. وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليهما فنادانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعنا إليه فقال: «إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد الله أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا» قالوا لا، فقال: «إن هذه كذلك». قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: «كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل». خرجه ابن ماجه رحمه الله، وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ابن المنذر قال: قلنا يا رسول الله، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: «يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل». قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضى عليه بنرميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة. الثالثة والعشرون: خرج ابن ماجه أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة ح وحدثنا محمد ابن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال: سمعت عباد بن شرحبيل- رجلا من بني غبر- قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني واخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فقال للرجل: «ما أطعمه إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا» فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق. قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا، وليس له عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذه القصة فما ذكر أبو عمر رحمه الله، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب ولا يحمل». وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة». قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الثمر المعلق، فقال: «من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه». قال فيه: حديث حسن. وفي حديث عمر رضي الله عنه: «إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا». قال أبو عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبان، يقال: قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه: قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع: «ولا يتخذ خبنة». يقال منه: خبنت أخبن خبنا. قال أبو عبيد: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته. قلت: لان الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام، أو كما هو ألان في بعض البلدان، فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم والله أعلم. وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما- أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها. قال معناه مالك في موطئة، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا. ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وحديث العنبر نص في ذلك، فإن أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، الحديث. فأكلوا وشبعوا- رضوان الله عليهم- مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه حلال وقال: «هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» فأرسلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه فأكله. وقالت طائفة. يأكل بقدر سد الرمق. وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود: فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها. الرابعة والعشرون: فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا. وهو قول الشافعي، فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن الله تعالى قال في الخنزير {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها {رِجْسٌ} فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة. | |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:41 pm | |
| الخامسة والعشرون: روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل- وقاله ابن وهب- ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي. السادسة والعشرون: فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل. لا، مخافة أن يدعي ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة. ابن العربي: أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا. ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة، لأنها حلال في حال. والخنزير وابن آدم لا يحل بحال. والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتج أحمد بقوله عليه السلام: «كسر عظم الميت ككسره حيا». وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير. فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء! فغلب عليه ابن شريح بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الأدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، والله أعلم. السابعة والعشرون: سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إلى من أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة. الثامنة والعشرون: روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: أنحرها، فأبى فنفقت. فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاه فسأله، فقال: «هل عندك غنى يغنيك» قال لا، قال: «فكلوها» قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها فقال: استحييت منك. قال ابن خويز منداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه. والثاني- يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع. قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبى يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: «ما طعامكم» قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية. قال: «ذاك وأبي الجوع». قال: فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار. وقال الخطابي: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن خويز منداد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الأخر: لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني. قالوا: لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروى نحوه عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلع منها بشيء. وقال مقاتل بن حيان: لا يزداد على ثلاث لقم. والصحيح خلاف هذا، كما تقدم. التاسعة والعشرون: وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة. وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات. وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة. ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري. وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للأمرين جميعا. ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة، لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم»، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما اصنعها للدواء، فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء». رواه مسلم في الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه، والله أعلم. الثلاثين: قوله تعالى: {غَيْرَ باغٍ} {غير} نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت {غير} يصلح في موضعه في فهي حال، وإذا صلح موضعها إلا فهي استثناء، فقس عليه. و{باغ} أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة {غَيْرَ باغٍ} في أكله فوق حاجته، {وَلا عادٍ} بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. وقال السدي: {غَيْرَ باغٍ} في أكلها شهوة وتلذذا، {وَلا عادٍ} باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى: {غَيْرَ باغٍ} على المسلمين {وَلا عادٍ} عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله. وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ} [النور: 33]. وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر: لا يمنعك من بغا *** ء الخير تعقاد الرتائم إن الأشائم كالأيا *** من والأيامن كالأشائم الحادية والثلاثون: قوله تعالى: {وَلا عادٍ} أصل {عاد} عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث. والأصل شائك وهائر ولائت، من لثت العمامة. فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم. الثانية والثلاثون: واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته، لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الأخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. قال ابن العربي: وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا. قلت: الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان. وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو الله عنه. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالافطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا. قلت: واختلفت الروايات عن مالك في ذلك، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ابن خويز منداد: فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لأن التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ارتكبت معصية فارتكب أخرى! أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن، وللزاني: اكفر! أو يقال لهما: ضيعا الصلاة؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي: وروى زياد بن عبد الرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان. فسوى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها، فكذلك ما ذكرناه. وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الاسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه. قال ابن حبيب: وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا. والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم- باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الإباحة، والله أعلم. قلت: هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الأصوليين، ومنظوم الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والأصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل. الرابعة وثلاثون: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر المعاصي، فأولى لا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ} يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة رسالته. ومعنى: {أَنْزَلَ}: أظهر، كما قال تعالى: {وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] أي سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله. {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي بالمكتوم {ثَمَناً قَلِيلًا} يعني أخذ الرشاء. وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لان ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا. قلت: وهذه الآية وإن كانت في الاخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم هذا المعنى. قوله تعالى: {فِي بُطُونِهِمْ} ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضى ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له. ومعنى: {إِلَّا النَّارَ} أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة. فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً} [النساء: 10] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب *** قال: فللموت ما تلد الوالده **** آخر: ودورنا لخراب الدهر نبنيها *** وهو في القرآن والشعر كثير. قوله تعالى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه. وقال الطبري: المعنى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ} بما يحبونه. وفي التنزيل: {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء. و{أَلِيمٌ} بمعنى مؤلم، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثة لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا ينظر إليهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر». وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى: «لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» لا يرحمهم ولا يعطف عليهم. وسيأتي في آل عمران إن شاء الله تعالى.
{أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ} تقدم القول فيه. ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء. قوله تعالى: {فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} مذهب الجمهور- منهم الحسن ومجاهد- أن ما معناه التعجب، وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل: {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] و{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38]. وبهذا المعنى صدر أبو علي. قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم والله عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار! وهي لغة يمنية معروفة. قال الفراء: أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله؟ أي ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس! أي ما أبقاه فيه. وقيل: المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا. وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار. وقيل: ما استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي أي شيء صبرهم على عمل أهل النار؟! وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.
{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)} قوله تعالى: {ذلِكَ} {ذلك} في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال: ذلك الحكم بالنار. وقال الزجاج: تقديره الامر ذلك، أو ذلك الامر، أو ذلك العذاب لهم. قال الأخفش: وخبر {ذلك} مضمر، معناه ذلك معلوم لهم. وقيل: محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم. {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ} يعني القرآن في هذا الموضع {بِالْحَقِّ} أي بالصدق. وقيل بالحجة. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ} يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته. وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها. وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختلفوا فيها. وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك. وقد تقدم القول في معنى الشقاق، والحمد لله. | |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:43 pm | |
| {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} فيه ثمان مسائل: الأولى: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البر، فأنزل الله هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل الله هذه الآية. وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}. الثانية: قرأ حمزة وحفص {الْبِرَّ} بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد {ليس}: {البر} نصبه، وجعل {أَنْ تُوَلُّوا} الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون {البر} بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره {أَنْ تُوَلُّوا}، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: {ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا} [الجاثية: 25]، {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا} [الروم: 10] {فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ} [الحشر: 17] وما كان مثله. ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} [البقرة: 189] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي بالباء {ليس البر بأن تولوا} وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان. الثالثة: قوله تعالى: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} البر هاهنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر: فإنما هي إقبال وإدبار *** أي ذات إقبال وذات إدبار. وقال النابغة: وكيف تواصل من أصبحت *** خلالته كأبي مرحب أي كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: {هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر- أي ذا البر- من آمن بالله، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون {الْبِرَّ} بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل: {إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت {وَلكِنَّ الْبِرَّ} بفتح الباء. الرابعة: قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} فقيل: يكون {الْمُوفُونَ} عطفا على {مَنْ} لأن من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش. {وَالصَّابِرِينَ} نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه. فأما المدح فقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء: 162]. وأنشد الكسائي: وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم *** إلا نميرا أطاعت أمر غاويها الظاعنين ولما يظعنوا أحدا *** والقائلون لمن دار نخليها وأنشد أبو عبيدة: لا يبعدن قومي الذين هم *** سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك *** والطيبون معاقد الأزر وقال آخر: نحن بني ضبة أصحاب الجمل *** فنصب على المدح. وأما الذم فقوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61] الآية. وقال عروة ابن الورد: سقوني الخمر ثم تكنفوني *** عداة الله من كذب وزور وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الاعراب، موجود في كلام العرب كما بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الامام، قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء: 162]، وفي سورة المائدة {وَالصَّابِئُونَ} [المائدة: 69]. والجواب ما ذكرناه. وقيل: {الْمُوفُونَ} رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي: {وَالصَّابِرِينَ} عطف على {ذَوِي الْقُرْبى} كأنه قال: وآتى الصابرين. قال النحاس: وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت {والصابرين} ونسقته على {ذَوِي الْقُرْبى} دخل في صلة {مَنْ} وإذا رفعت {وَالْمُوفُونَ} على أنه نسق على {من} فقد نسقت على {من} من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف. وقال الكسائي: وفي قراءة عبد الله: {والموفين}، {والصَّابِرِينَ}. وقال النحاس: يكونان منسوقين على {ذَوِي الْقُرْبى} أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله في النساء {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} [النساء: 162]. وقرأ يعقوب والأعمش {والموفون والصابرون} بالرفع فيهما. وقرأ الجحدري {بعهودهم}. وقد قيل: إن {وَالْمُوفُونَ} عطف على الضمير الذي في: {آمَنَ}. وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن بالله هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله: {مَنْ آمَنَ} تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم. الخامسة: قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الايمان بالله وبأسمائه وصفاته- وقد أتينا عليها في الكتاب الأسنى- والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار- وقد أتينا عليها في كتاب التذكرة- والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله- كما تقدم- والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل- قيل المنقطع به، وقيل: الضيف- والسؤال وفك الرقاب. وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى. واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا. السادسة: قوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن في المال حقا سوى الزكاة» ثم تلا هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح. قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: {وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، والله أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوى ما اخترناه، والموفق الاله. السابعة: قوله تعالى: {عَلى حُبِّهِ} الضمير في: {حُبِّهِ} اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطى للمال، وحذف المفعول وهو المال. ويجوز نصب {ذَوِي الْقُرْبى} بالحلب، فيكون التقدير على حب المعطى ذوى القربى. وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. قال ابن عطية: ويجيء قوله: {عَلى حُبِّهِ} اعتراضا بليغا أثناء القول. قلت: ونطيره قوله الحق: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً} فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ} وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله: {عَلى حُبِّهِ} وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، ومنه قول زهير: من يلق يوما على علاته هرما *** يلق السماحة منه والندى خلقا وقال امرؤ القيس: على هيكل يعطيك قبل سؤاله *** أفانين جرى غير كز ولا وان فقوله: على علاته وقبل سؤاله تتميم حسن، ومنه قول عنترة: أثنى علي بما علمت فإنني *** سهل مخالفتي إذا لم أظلم فقوله: إذا لم أظلم تتميم حسن. وقال طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها *** صوب الربيع وديمة تهمى وقال الربيع بن ضبع الفزاري: فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي *** وكل امرئ إلا أحاديثه فان فقوله: غير مفسدها، وإلا أحاديثه تتميم واحتراس. وقال أبو هفان: فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم *** وأفنى الندى أموالنا غير عائب فقوله: غير ظالم، وغير عائب تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير. وقيل: يعود على الإيتاء، لأن الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ} أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل يعود على اسم الله تعالى في قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}. والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء. الثامنة: قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا} أي فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ} البأساء: الشدة والفقر. والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: «يقول الله تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب» قيل: يا رسول الله، ما لحم خير من لحمه؟ قال: «لحم لم يذنب» قيل: فما دم خير من دمه؟ قال: «دم لم يذنب» ووالبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت. {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي وقت الحزب. قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء. والصدق: خلاف الكذب. ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا».
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)} فيه سبع عشرة مسألة: الأولى: روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان {ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} قتل بعد قبول الدية. هذا لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول. وقال الشعبي في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى} قال: أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقتل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة. الثانية: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ} {كتب} معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول وقد قيل: إن كتب هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه: {فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً} [الكهف: 64]. وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وإباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه. الثالثة: صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: «إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية». قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: القتل أوقى للقتل بالواو والقاف، ويروي أبقى بالباء والقاف، ويروى أنفى بالنون والفاء، فنهاهم الله عن البغي فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} [البقرة: 179]. وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم. الرابعة: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الامر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فان قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقي، وشبههن. الخامسة: قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى} الآية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الأخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وبينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية المائدة وهو قول أهل العراق. السادسة: قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} فعم، وقوله: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة. قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا: ولما اتفق جميعهم- إلى قوله- فقد ناقض فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في النساء إن شاء الله تعالى. السابعة: والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقتل مسلم بكافر» أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا. قال الدارقطني: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله. قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} الآية، وعموم قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]. الثامنة: روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبد الله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافيه للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير. ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي الله عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا. التاسعة: وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس بالنفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأخرى والأولى، على ما تقدم. العاشرة: قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قتل عبده قتلناه» وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] والولي هاهنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه. وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به. فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطي بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لاورثها في الجانبين. قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه: «ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه». وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، واخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما!. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، والله أعلم. واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الأول أصح. الحادية عشرة: روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبد الحكم: يقتل به. وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، والثابت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى إلكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن. قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الا جني بمثل هذا. ابن العربي: سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه، لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك. وقد أثروا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يقاد الوالد بولده» وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي الله عنهم المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل به. الثانية عشرة: وقد استدل الامام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لان الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]. والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي الله عنه الحرورية بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر على بذلك قال: الله أكبر! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم على وأصحابه خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار». وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الاعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ، والله أعلم. وقال ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبد الملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه. التاسعة عشرة: روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقلة فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا»، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية». وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. الرابعة عشرة: اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد ابن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي ترك له دمه، في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية {فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت {ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي أن من كان قبلنا لم يفرض الله عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل الله على هذه الامة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه. وقال آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقصاص وقال: «القصاص كتاب الله، القصاص كتاب الله» ولم يخبر المجني عليه بين القصاص والديه ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة ابن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عام الفتح: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود». فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: تأخذ به! نعم آخذ به، وذلك الفرض على وعلى من سمعه، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} اختلف العلماء في تأويل من و{عفي} على تأويلات خمس: أحدها- أن من يراد بها القاتل، و{عفي} تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و{شيء} هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتول وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان. الثاني: وهو قول مالك أن من يراد به الولي و{عفي} يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و{شيء} هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن معنى: {عفي} بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي: خذي العفو مني تستديمي مودتي وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» يعني شهد الله على عباده. فكأنه قال: من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة المائدة {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان. وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون {عفي} بمعنى فضل. روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عليه السلام: «القتل سواء» فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الأخر، فهو قوله: {كُتِبَ} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ. وتأويل خامس- وهو قول علي رضي الله عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و{عُفِيَ} في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل. السادسة عشرة: هذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} شرط والجواب، {فَاتِّباعٌ} وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن فاتباعا، وأداء بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة {فاتباعا} بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]. وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقابِ} [محمد: 4]. السابع عشرة: قوله تعالى: {ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} لان أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الامة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ} شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط الدم قاتل وليه. {فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية. واختلف العلماء فيمن تقل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية». وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الامام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من أصيب بدم أو خبل- والخبل عرج- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا».
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:45 pm | |
| {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الأخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة. الثانية: اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لاحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض. الثالثة: وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى}، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعال فاستقد». قال: بل عفوت يا رسول الله. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص من نفسه!. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه. الرابعة: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تقدم معناه. والمراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ}. قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 12] وفي المائدة: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: 106]. والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15- 16] أي والذي، فحذف. وقيل: لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و{كُتِبَ} معناه فرض وأثبت، كما تقدم. وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم: يا أيها الراكب المزجي مطيته *** سائل بني أسد ما هذه الصوت وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا *** قولا يبرئكم إني أنا الموت وقال عنترة: وإن الموت طوع يدي إذا ما *** وصلت بنانها بالهندوان وقال جرير في مهاجاة الفرزدق: أنا الموت الذي حدثت عنه *** فليس لهارب مني نجاء الثانية: إن قيل: لم قال: {كُتِبَ} ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه: قام امرأة. ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل. الثالثة: قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} {إن} شرط، وفي جوابه لابي الحسن الأخفش قولان، قال الأخفش: التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها *** والشر بالشر عند الله مثلان والجواب الأخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل {الْوَصِيَّةُ} في: {إِذا} لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة. ويجوز أن يكون العامل في: {إِذا}: {كُتِبَ} والمعنى: توجه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في: {إِذا} الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الإيصاء إذا. الرابعة: قوله تعالى: {خَيْراً} الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية بالكسر والفتح. وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم». ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به. الخامسة: اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصى أو فقيرا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهدي وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن، لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» وفي رواية: «يبيت ثلاث ليال» وفيها قال عبد الله بن عمر: ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك إلا وعندي وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} وكتب بمعنى فرض، فدل على وجوب الوصية. قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل، والمعنى: إذا أردتم الوصية، والله أعلم. وقال النخعي: مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه. السادسة: لم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} والخير المال، كقوله: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272]، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات: 8] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي الله عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لان أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولان أوصي بالربع أحسن إلي من أوصي بالثلث. واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين. روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة. قالت: إن الله تعالى يقول: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك. السابعة: ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لاحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» الحديث، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي. وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان. الثامنة: أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم. التاسعة: وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر، فقال مالك رحمه الله: الامر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». قال أبو الفرج المالكي: المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر، لأنه أجل آت لا محالة. وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: هو وصية، لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وطئ المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل، وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باع مدبرا، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة: يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة. وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي، وهو قول سفيان الثوري. العاشرة: واختلفوا في الرجل يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، وأراد الوصية، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبر بعد موتي، لم يكن له الرجوع فيه. وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية، لأنه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو وصية، إلا أن الشافعي قال: لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة. وليس قوله: قد رجعت رجوعا، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حثى يموت فإنه يعتق بموته. وقال في القديم: يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية. واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور: إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير، فإن مات لم يعتق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية. وقال أشهب: هو مدبر وإن لم يرد الوصية. الحادية عشرة: اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة، فقيل: هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاوس والحسن، واختاره الطبري. وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض. وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله عليه السلام: «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث». رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث، على الصحيح من أقوال العلماء. ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع. والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وقد تقدم هذا المعنى. ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث. فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين. والله أعلم. وقال ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء وثبتت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم. وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع. وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة، وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. وقال الربيع بن خثيم: لا وصية. قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرأ: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه. الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَالْأَقْرَبِينَ} الأقربون جمع أقرب. قال قوم: الوصية للأقربين أولى من الأجانب، لنص الله تعالى عليهم، حتى قال الضحاك: إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية. وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت. وروي عن سالم ابن عبد الله بمثل ذلك. وقال الحسن: إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له! أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم. وقال الشعبي: لم يكن له ذلك ولا كرامة. وقال طاوس: إذا أوص لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله، وقاله جابر بن زيد، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا، وبه قال إسحاق بن راهويه. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة، وهو قول ابن عمر وابن عباس. قلت: القول الأول أحسن، وأما أبو العالية رضي الله عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى. وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا، فحسبها ثواب عتقها، والله أعلم. الثالثة عشرة: ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله، وشذ أهل الظاهر فقالوا: لا يحجر عليه وهو كالصحيح، والحديث والمعنى يرد عليهم. قال سعد: عادني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» الحديث. ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الورثة، وهو الصحيح، لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم. وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة». وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة». الرابعة عشرة: واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته، فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا. هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق. احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم، فكذلك ها هنا. واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شي. واحتج مالك بأن قال: إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات. الخامسة عشرة: فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ، قاله الأبهري. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسنة من غيره. قال ابن المنذر: واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. السادسة عشرة: واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم. وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله. السابعة عشرة: لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره، فقال مالك: الامر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز وصية الصبي. وقال المزني: وهو قياس قول الشافعي، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه. واختلف أصحابه على قولين: أحدهما كقول مالك، والثاني كقول أبي حنيفة. وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته. قال أبو عمر: قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة. ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل، فوجب أن تجوز وصيته مع الامر الذي جاء فيه عن عمر رضي الله عنه. وقال مالك: إنه الامر المجمع عليه عندهم بالمدينة، وبالله التوفيق. وقال محمد بن شريح: من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فالله قضاه على لسانه ليس للحق مدفع. الثامنة عشرة: قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكولا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه عليه السلام، فقال عليه السلام: «الثلث والثلث كثير»، وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة». أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وحكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله. فمن تجاوز ما حده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالما. وقال الشافعي: وقوله: «الثلث كثير» يريد أنه غير قليل. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {حَقًّا} يعني ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب، بدليل قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} وهذا يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد تقدم هذا المعنى. وانتصب {حَقًّا} على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن حق بمعنى ذلك حق. العشرون: قال العلماء: المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية وإنما هي من حديث ابن عمر. وفائدتها: المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه. الحادية والعشرون: روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} شرط، وجوابه {فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} وما كافة ل إن عن العمل. و{إِثْمُهُ} رفع بالابتداء، {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} موضع الخبر. والضمير في: {بَدَّلَهُ} يرجع إلى الإيصاء، لأن الوصية في معنى الإيصاء، وكذلك الضمير في: {سَمِعَهُ}، وهو كقوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] أي وعظ، وقوله: {إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] أي المال، بدليل قوله: {مِنْهُ}. ومثله قول الشاعر: ما هذه الصوت *** أي الصيحة. وقال امرؤ القيس: برهرهة رودة رخصة *** كخرعوبة البانة المنفطر والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة. و{سَمِعَهُ} يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان. والضمير في: {إِثْمُهُ} عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي. وقيل: إن هذا الموصي إذا غير فترك الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم. الثانية: في هذه الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه. الثالثة: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر. الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين.
{فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ خافَ} من شرط، و{خاف} بمعنى خشي. وقيل: علم. والأصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون {خاف} ليدلوا على الكسرة من فعلت. {مِنْ مُوصٍ} بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لأن أكثر النحويين يقولون {موص} للتكثير. وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم. {جَنَفاً} من جنف يجنف إذا جار، والاسم منه جنف وجانف، عن النحاس. وقيل: الجنف الميل. قال الأعشى: تجانف عن حجر اليمامة ناقتي *** وما قصدت من أهلها لسوائكا وفي الصحاح: الجنف الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً}. قال الشاعر: هم المولى وإن جنفوا علينا *** وإنا من لقائهم لزور قال أبو عبيدة: المولى هاهنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}. وقال لبيد: إني امرؤ منعت أرومة عامر *** ضيمي وقد جنفت علي خصومي قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ بالهمز وهو المائل أيضا. ويقال: أجنف الرجل، أي جاء بالجنف. كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه. وأخس، أي أتى بخسيس. وتجانف لإثم، أي مال. ورجل أجنف، أي منحني الظهر. وجنفى على فعلى بضم الفاء وفتح العين: اسم موضع، عن ابن السكيت. وروي عن على أنه قرأ {حيفا} بالحاء والياء، أي ظلما. وقال مجاهد: {فَمَنْ خافَ} أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} عن الموصى إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية. وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم وراي وأتى علمه بعد موت الموصى أن الموصى جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، ولكنة تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. الثانية: الخطاب بقوله: {فَمَنْ خافَ} لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصى بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح. والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عم الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل. الثالثة: في هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له. قوله تعالى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} عطف على {خافَ}، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وجواب الشرط {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. الرابعة: لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت، لقوله عليه السلام وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» الحديث، أخرجه أهل الصحيح. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لان يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة». وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع». الخامسة: من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته. روى الدارقطني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته». فإن ضر في الوصية وهي: السادسة: فقد روى الدارقطني أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر». وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار». وترجم النسائي: «الصلاة على من جنف في وصيته» أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب من ذلك وقال: «لقد هممت ألا أصلي عليه»ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة. وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولا شديدا، بدل قوله: «لقد هممت ألا أصلي عليه».
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:47 pm | |
| {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج» رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لأنه. إمساك عن الكلام. قال الله تعالى مخبرا عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً} [مريم: 26] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على أريها: قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج وخيل تعلك اللجما أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال: كأن الثريا علقت في مصامها *** أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله: والبكرات شرهن الصائمة *** يعني التي لا تدور. وقال امرؤ القيس: فدعها وسلّ الهمّ عنك بجسرة *** ذمول إذا صام النهار وهجرا أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة. وقال آخر: حتى إذا صام النهار واعتدل *** وسال للشمس لعاب فنزل وقال آخر: نعاما بوجرة صفر الخدود *** دما تطعم النوم إلا صياما أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير. والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». الثانية: فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك ألان منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال مخبرا عن ربه: «يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا. الثالثة: قوله تعالى: {كَما كُتِبَ} الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام، أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم. وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بـ {كما} إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. وما في موضع خفض، وصلتها: {كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. والضمير في: {كتب} يعود على ما. واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي: الرابعة: فقال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية. وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل ابن حنظلة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمّنّ هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين». وقال مجاهد: كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة. وقيل: أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي. قلت: ولهذا- والله أعلم- كره ألان صوم يوم الشك والستة من شوال بأثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله تعالى بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} [البقرة: 187] على ما يأتي بيانه، قاله السدي وأبو العالية والربيع. وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهم اليهود- في قول ابن عباس- ثلاثة أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الامة بشهر رمضان. وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك بـ {أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ} ثم نسخت الأيام برمضان. الخامسة: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعل ترج في حقهم، كما تقدم. و{تَتَّقُونَ} قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي. وهذا وجه مجازي حسن. وقيل: لتتقوا المعاصي. وقيل: هو على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: «الصيام جنة ووجاء» وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات. السادسة: قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} {أَيَّاماً} مفعول ثان بـ {كُتِبَ}، قاله الفراء. وقيل: نصب على الظرف لـ {كُتِبَ}، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والأيام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، والله أعلم. قوله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فيه ست عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {مَرِيضاً} للمريض حالتان: إحداهما ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا. والثانية أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. قال طريف ابن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي. وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى. قلت: قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر. الثانية: قوله تعالى: {أَوْ عَلى سَفَرٍ} اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلا، وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي. وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية. قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا. الثالثة: اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره واخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه، وحكى ذلك عن أصبغ وابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر؟. وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم، لأنه متأول في فطره. وقال أشهب: ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، وهو بمنزلة المرأة تقول: غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة، لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء، والمرأة لا تحدث الحيضة. قلت: قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن، لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمة بريئة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: {أَوْ عَلى سَفَرٍ}. وقال أبو عمر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده كذلك، إن شاء الله تعالى. وقد روى الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال: أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد ابن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب. فقلت له: سنة؟ قال نعم. وروي عن أنس أيضا قال قال لي أبو موسى: ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت صائما، فإذا خرجت فاخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل مفطرا. وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج. وقال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت. وقال إسحاق: لا، بل حين يضع رجله في الرحل. قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل: إنه يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال يقضي ولا يكفر. قال مالك: لان السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه. وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وحكاه الباجي عن الشافعي، واختاره ابن العربي وقال به، قال: لان السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض، لأن المرض يبيح له الفطر، والحيض يحرم عليها الصوم، والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته. قال أبو عمر: وليس هذا بشيء، لأن الله سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة. وأما قولهم لا يفطر فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا، وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق. قلت: وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة (باب من أفطر في السفر ليراه الناس) وساق الحديث عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان. وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه: ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة. وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه، وبالله التوفيق. وفيه أيضا حجة على من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر. روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر: من صام في السفر قضى في الحضر. وعن عبد الرحمن بن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وقال به قوم من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على ما يأتي بيانه، وبما روى كعب بن عاصم قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ليس من البر الصيام في السفر». وفيه أيضا حجة على من يقول: إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، وإليه ذهب مطرف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث. وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كفر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره. وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، قال أبو عمر. الرابعة: واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفصل، وكذلك ابن علية، لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهما قالا: الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمرو ابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل، لقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. الخامسة: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} في الكلام حذف، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض. والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما. وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. قال إلكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقل فشهر من أيام أخر. وقوله: {فَعِدَّةٌ} يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده. السادسة: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ} ارتفع عدة على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة. وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة من أيام. وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة. والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. ومنه عدة المرأة. {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لم ينصرف {أخر} عند سيبويه، لأنها معدولة عن الألف واللام، لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، نحو الكبر والفضل. وقال الكسائي: هي معدولة عن آخر، كما تقول: حمراء وحمر، فلذلك لم تنصرف. وقيل: منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة لأيام، ولم تجئ أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة. وقيل: إن {أخر} جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل: أيام أخر. وقيل: إن نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بآخر. السابعة: اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدارقطني في سننه، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت {فعدة من أيام أخر متتابعات} فسقطت {متتابعات} قال هذا إسناد صحيح. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه» في إسناده عبد الرحمن بنإبراهيم ضعيف الحديث. وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان: «صمه كيف شئت». وقال ابن عمر: «صمه كما أفطرته». وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص. وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: «ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن يعفو ويغفر». إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا. وفي موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر. قال الباجي في المنتقى: يحتمل أن يريد الاخبار عن الوجوب، ويحتمل أن يريد الاخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء. وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه. ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق. الثامنة: لما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، أو برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. في رواية: وذلك لمكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا نص وزيادة بيان للآية. وذلك يرد على داود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال. ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها. ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله. وقال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم. والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض. التاسعة: من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه، لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير. هذا قول البغداديين من المالكيين، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة. العاشرة: فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: نعم. وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود: لا. قلت: وإلى هذا ذهب البخاري لقوله، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم، ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا. خرجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح. وروي عنه مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: «يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا». في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان. الحادية عشرة: فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر، فروى الدارقطني عن ابن عمر أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء. وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال: إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني ولا قضاء عليه، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي، فإذا أفطر قضاه، إسناد صحيح. قال علماؤنا: وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها. وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين؟ فقال له ابن عباس: استمر بك مرضك، أو صححت بينهما؟ فقال: بل صححت، قال: صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا. وهذا بدل من قوله: إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي. الثانية عشرة: واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون: يطعم عن كل يوم مدا. وقال الثوري: يطعم نصف صاع عن كل يوم. الثالثة عشرة: واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه، فقال مالك: من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شيء غير قضائه، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى، لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم هاهنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لإفطاره عامدا. وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب في ذلك، وهو قول جمهور العلماء. قال مالك: ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم. وقال قتادة: على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمدا في قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين، كمن أفسد حجه بإصابة أهله، وحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان. قال أبو عمر: قد خالفه في الحج ابن وهب وعبد الملك، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه. والصواب عندي- والله أعلم- أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد، لأنه يوم واحد أفسده مرتين. قلت: وهو مقتضى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فمتى أتى بيوم تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك، والله أعلم. الرابعة عشرة: والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه. وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح: يطعم عنه. الخامسة عشرة: واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه، فقال مالك والشافعي والثوري: لا يصوم أحد عن أحد. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر: يصام عنه، إلا أنهم خصصوه بالنذر، وروي مثله عن الشافعي. وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان: يطعم عنه. احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». إلا أن هذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر- وفي رواية صوم شهر- أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك». احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى} [النجم: 39] وقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها} [الأنعام: 164] وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة». قلت: وهذا الحديث عام، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: «لا يصوم أحد عن أحد» صوم رمضان. فأما صوم النذر فيجوز، بدليل حديث ابن عباس وغيره، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس، وفي بعض طرقه: صوم شهرين أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها». فقولها: شهرين، يبعد أن يكون رمضان، والله أعلم. وأقوى ما يحتج به لمالك أنه عمل أهل المدينة، ويعضده القياس الجلي، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة. ولا ينقص هذا بالحج لان للمال فيه مدخلا. السادسة عشرة: استدل بهذه الآية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار. وبقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصيام في السفر» قال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر. والجمهور يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم. وهو الصحيح، لحديث أنس قال: سافرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه خمس مسائل: الأولى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال. ومشهور قراءة ابن عباس {يطوقونه} بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقد روى مجاهد {يطيقونه} بالياء بعد الطاء على لفظ يكيلونه وهي باطلة ومحال، لأن الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال. قال أبو بكر الأنباري: وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لابي ذؤيب: فقيل تحمل فوق طوقك إنها *** مطبعة من يأتها لا يضيرها فأظهر الواو في الطوق، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس {يطيقونه} بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى. وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار {يطوقونه} بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير. وقرأ أهل المدينة والشام {فدية طعام} مضافا، {مساكين} جمعا. وقرأ ابن عباس {طعام مسكين} بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن عطاء عنه. وهي قراءة حسنة، لأنها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد. وجمع المساكين لا يدري كم منهم في اليوم الأمن غير الآية. وتخرج قراءة الجمع في: {مساكين} لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو علي. واختار قراءة الجمع النحاس قال: وما اختاره أبو عبيد مردود، لأن هذا إنما يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين أن لكل يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع. قال النحاس: واختار أبو عبيد أن يقرأ {فِدْيَةٌ طَعامُ} قال: لان الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ {فِدْيَةٌ طَعامُ} بالإضافة، لأن {فِدْيَةٌ} مبهمة تقع للطعام وغيره، فصار مثل قولك: هذا ثوب خز. الثانية: واختلف العلماء في المراد بالآية، فقيل: هي منسوخة. روى البخاري: وقال ابن نمير حدثناالأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. وعلى هذا قراءة الجمهور {يُطِيقُونَهُ} أي يقدرون عليه، لأن فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في: {يُطِيقُونَهُ} يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا}. ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة {يطوقونه} على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس- إن كان الاسناد عنه صحيحا- {يُطِيقُونَهُ} بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أنه قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ} ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لام ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح. وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع- من غير شك- فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح. قلت: فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، والله أعلم. وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور. وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام. وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا. واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شيء عليهم، غير أن مالكا قال: لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلى. وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم، وقوله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ثم قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية. والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض. وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر. الثالثة: واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر. وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال: من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح. وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم. الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد. ابن عباس: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} قال: مسكينا آخر فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. ذكره الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و{خَيْرٌ} الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و{خَيْراً} الأول. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي {يطوع خيرا} مشددا وجزم العين على معنى يتطوع. الباقون {تَطَوَّعَ} بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي. الخامسة: قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي والصيام خير لكم. وكذا قرأ أبي، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ. وقيل: {وَأَنْ تَصُومُوا} في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم. وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:49 pm | |
| {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ} قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة. وقد تقدم قول مجاهد: كتب الله رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم، والله أعلم. والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته. ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش. والرمضاء ممدودة: شدة الحر، ومنه الحديث: «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال». خرجه مسلم. ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها. فرمضان- فيما ذكروا- وافق شدة الحر، فهو مأخوذ من الرمضاء. قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الارماض وهو الإحراق، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت. وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني، ومنه قيل: أرمضني الامر. وقيل: لان القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. والرمضاء: الحجارة المحماة. وقيل: هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق. ومنه نصل رميض ومرموض- عن ابن السكيت-، وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم. وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية ناتق وأنشد للمفضل: وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى *** وولت على الأدبار فرسان خثعما و{شَهْرُ} بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبر {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون {شَهْرُ} مبتدأ، و{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} صفة، والخبر {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ}. وأعيد ذكر الشهر تعظيما، كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1- 2]. وجاز أن يدخله معنى الجزاء، لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل، قاله أبو علي. وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب {شهر}، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا. و{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا، لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو {خَيْرٌ لَكُمْ}. الرماني: يجوز نصبه على البدل من قوله: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} [البقرة: 184]. الثانية: واختلف هل يقال: {رمضان} دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد وقال: يقال كما قال الله تعالى. وفي الخبر: «لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله في القرآن فقال شَهْرُ رَمَضانَ». وكان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله. وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى. ويحتج بما روي: رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف. والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين». وفي صحيح البستي عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين». وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول...، فذكره. قال البستي: أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس، واسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن. وروى النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم». وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال: فقوله: «مردة الشياطين» تقييد لقوله: «صفدت الشياطين وسلسلت». وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامرأة من الأنصار: «إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة». وروى النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». والإثار في هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر. وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان. قال الشاعر: جارية في درعها الفضفاض *** أبيض من أخت بني إباض جارية في رمضان الماضي *** تقطع الحديث بالايماض وفضل رمضان عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب، وما كتبناه من الأحاديث. الثالثة: فرض الله صيام شهر رمضان أي مدة هلاله، وبه سمي الشهر، كما جاء في الحديث: «فإن غمي عليكم الشهر» أي الهلال، وسيأتي، وقال الشاعر: أخوان من نجد على ثقة *** والشهر مثل قلامة الظفر حتى تكامل في استدارته *** في أربع زادت على عشر وفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين، فقال في كتابه {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وروى الأئمة الإثبات عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد» في رواية: «فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين». وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا: يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لروى، لقوله عليه السلام: «فإن أغمي عليكم فاقدروا له» أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى: «فاقدروا له» فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة: «فأكملوا العدة». وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله: «فاقدروا له»: أي قدروا المنازل. وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم. وقد روى ابن نافع عن مالك في الامام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به ولا يتبع. قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يعول على الحساب، وهي عثرة لا لعاد لها. الرابعة: واختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين، فقال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد لأنها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين، أصله الشهادة على هلال شوال وذي الحجة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يقبل الواحد، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وأخرجه الدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة. روى الدارقطني أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام، أحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان. قال الشافعي: فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط. وقال الشافعي بعد: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان. قال الشافعي وقال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلا شاهدين، وهو القياس على كل مغيب. الخامسة: واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال، فروى الربيع عن الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، وليخف ذلك. وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم، لأنه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال. قال ابن المنذر: وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل. وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم ولا يفطر. قال ابن المنذر: يصوم ويفطر. السادسة: واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ابن عباس، وبه قال إسحاق، وإليه أشار البخاري حيث بوب: (لأهل كل بلد رؤيتهم). وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي. قال ابن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي. قلت: ذكر إلكيا الطبري في كتاب أحكام القرآن له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» الحديث، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالاندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال علماؤنا: قول ابن عباس هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الامام الأعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك، فإن حمل فلا تجوز مخالفته. وقال إلكيا الطبري: قوله هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتمل أن يكون تأول فيه قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». وقال ابن العربي: واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل: رده لأنه خبر واحد، وقيل: رده لان الأقطار مختلفة في المطالع، وهو الصحيح، لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لأن سهيلا يكشف من أغمات ولا يكشف من أشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع. قلت: وأما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء. وروي القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك. السابعة: قرأ جمهور الناس {شَهْرُ} بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أي ذلكم شهر، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان. أو الصوم أو الأيام. وقيل: ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله بـ {كُتِبَ} أي كتب عليكم شهر رمضان. و{رَمَضانَ} لا ينصرف لان النون فيه زائدة. ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. وقيل: خبره {فَمَنْ شَهِدَ}، و{الَّذِي أُنْزِلَ} نعت له. وقيل: ارتفع على البدل من الصيام. فمن قال: إن الصيام في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء. ومن قال: إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كتب عليكم شهر رمضان. وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب {شهر} بالنصب. قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان. وقال الفراء: أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال النحاس: لا يجوز أن ينتصب {شَهْرُ رَمَضانَ} بـ {تَصُومُوا}، لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول، وكذلك إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء، أي الزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيغرى به. قلت: قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} يدل على الشهر فجاز الإغراء، وهو اختيار أبي عبيد. وقال الأخفش: انتصب على الظرف. وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم، وهو قول الكوفيين. الثامنة: قوله تعالى: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله عز وجل: {حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} [الدخان: 1- 3] يعني ليلة القدر، ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر- على ما بيناه- جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما- يعني الآية والآيتين- في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة. قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع أن القرآن أنزل جملة واحدة، والله أعلم. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين». قلت: وفي هذا الحديث دلالة على ما يقول الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هذا. التاسعة: قوله تعالى: {الْقُرْآنُ} {القرآن}: اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يسمى شرابا، والمكتوب يسمى كتابا، وعلى هذا قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى. قال الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به *** يقطع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا، أي قراءة. وفي التنزيل: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] أي قراءة الفجر. ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا وللمشروب شربا، كما ذكرنا، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما لكلام الله، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك. وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام الله قرآنا توسعا، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» أراد به المصحف. وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته. وقيل: هو اسم علم لكتاب الله، غير مشتق كالتوراة والإنجيل، وهذا يحكى عن الشافعي. والصحيح الاشتقاق في الجميع، وسيأتي. العاشرة: قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ} {هُدىً} في موضع نصب على الحال من القرآن، أي هاديا لهم. {وَبَيِّناتٍ} عطف عليه. و{الْهُدى} الإرشاد والبيان، كما تقدم، أي بيانا لهم وإرشادا. والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام. {وَبَيِّناتٍ} جمع بينة، من بان الشيء يبين إذا وضح. {وَالْفُرْقانِ} ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل، وقد تقدم. الحادية عشرة: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قراءة العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الامر وحقها الكسر إذا أفردت، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان: الجزم والكسر. وإنما توصل بثلاثة أحرف: بالفاء كقوله: {فَلْيَصُمْهُ} {لْيَعْبُدُوا} [قريش: 3]. والواو كقوله: {وَلْيُوفُوا} [الحج: 29]. وثم كقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا} [الحج: 29] و{شَهِدَ} بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه، وهو يقال عام فيخصص بقوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ} الآية. وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة- أربعة من الصحابة- وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده واهلة فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر. والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرا فليصمه. وقال جمهور الامة: من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الاخبار الثابتة. وقد ترجم البخاري رحمه الله ردا على القول الأول (باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر) حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس. قال أبو عبد الله: والكديد ما بين عسفان وقديد. قلت: قد يحتمل أن يحمل قول على رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الاخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية. وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك، أو دفع عدو، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك، بل الفطر فيه أفضل للتقوى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه، لحديث ابن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه، لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه. ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح بـ {شَهِدَ}. الثانية عشرة: قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان بعد الفجر استحب لهما الإمساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم. وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الامام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. وقال عطاء والحسن: يصوم ما بقي ويقضي ما مضى. وقال عبد الملك بن الماجشون: يكف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه. وقال أحمد وإسحاق مثله. وقال ابن المنذر: ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم. وقال الباجي: من قال من أصحابنا أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام- وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه- أوجب عليه الإمساك في بقية يومه. ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك، وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال: لا يلزمه الإمساك في بقية يومه، وهو مقتضى قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون، وقاله ابن القاسم. قلت: وهو الصحيح لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخاطب المؤمنين دون غيرهم، وهذا واضح، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى. وتقدم الكلام في معنى قوله: {وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} والحمد لله. الثالثة عشرة: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} قراءة جماعة {الْيُسْرَ} بضم السين لغتان، وكذلك {الْعُسْرَ}. قال مجاهد والضحاك: {الْيُسْرَ} الفطر في السفر، و{الْعُسْرَ} الصوم في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دين الله يسر»، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يسروا ولا تعسروا». واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لأنه يسهل له الامر بمعاونتها لليمنى، قولان. وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} هو بمعنى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فكرر تأكيدا. الرابعة عشرة: دلت الآية على أن الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات. هذا مذهب أهل السنة، كما أنه عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام. وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات. وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها، تعالى الله عن قول الزائغين وإبطال المبطلين. والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه، فالعقل السليم يقضي بأن ذنك كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الامر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حاله ثانيا، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به، ولا يخفي ما فيه من المحال، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي برده وإبطاله. وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى: {فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} [هود: 107] وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون. ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والأحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شي، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. قالوا: وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا، إذ الحياة شرط هذه الصفات، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فيه تأويلان: أحدهما- إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. والثاني- عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين. قال جابر بن عبد الله قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشهر يكون تسعا وعشرين». وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة» أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما، أخرجه أبو داود. وتأوله جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين. السادسة عشرة: ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح. وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن شقيق قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس. وذكره أبو عمر من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كتب إلينا عمر...، فذكره. قال أبو عمر: وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبد الرزاق أيضا، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والليث والأوزاعي، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال سفيان الثوري وأبو يوسف. إن رؤي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي، وإن رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية. وروي مثل ذلك عن عمر، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: كتب عمر إلى عتبة بن فرقد: إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا، وروي عن على مثله. ولا يصح في هذه المسألة شيء من جهة الاسناد عن على. وروي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوري، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب، وبه كان يفتي بقرطبة. واختلف عن عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة، قال أبو عمر: والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع، والمصير إلى المتصل أولى. وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال: حديث الأعمش مجمل لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده، وحديث إبراهيم مفسر، فهو أولى أن يقال به. قلت: قد روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: أصبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صائما صبح ثلاثين يوما، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى. أخرجه الدارقطني من حديث الواقدي وقال: قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال: سألت الزهري عن هلال شوال إذا رؤي باكرا، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رؤي هلال شوال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجئ، قال أبو عبد الله: وهذا مجمع عليه. السابعة عشرة: روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهلا الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ثابت. قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحكي عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فمرة قال بقول مالك، واختاره المزني وقال: إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى ألا تصلى فيه. وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى. وقال البويطي: لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث. قال أبو عمر: لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لاشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها. وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: يخرجون من الغد، وقال أبو يوسف في الاملاء. وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى. قال أبو يوسف: وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث. قال أبو عمر: لان الأضحى أيام عيد وهى صلاة عيد، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد، فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره، لأنها ليست بفريضة فتقضى. وقال الليث بن سعد: يخرجون في الفطر والأضحى من الغد. قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس». صححه أبو محمد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك. وروي عن عمر أنه فعله. قلت: وقد قال علماؤنا: من ضاق عليه الوقت وصلي الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر. قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز. قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الأصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من السنة. روى النسائي قال: أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. في رواية: ويخرجوا لمصلاهم من الغد. الثامنة عشرة: قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمروفي بعض ما روي عنه- والحسن وقتادة والأعرج {ولتكملوا العدة} بالتشديد. والباقون بالتخفيف. واختار الكسائي التخفيف، كقوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. قال النحاس: وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال عز وجل: {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17]. ولا يجوز {ولتكملوا} بإسكان اللام، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير: ويريد لان تكملوا، ولا يجوز حذف أن والكسرة، هذا قول البصريين، ونحوه قول كثير أبو صخر: أريد لأنسي ذكرها أي لأن أنسي، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. وقيل: هي متعلقة بفعل مضمر بعد، تقديره: ولان تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة. وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء. قال النحاس: وهذا قول حسن، ومثله: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك. وقيل: الواو مقحمة. وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللام لام الامر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. وقال أبو إسحاق إبراهيم ابن السري: هو محمول على المعنى، والتقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة، قال: ومثله ما أنشده سيبويه: بادت وغيّر آيهن مع البلى *** إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج أما سواء قذاله *** فبدا وغيب ساره المعزاء شاده يشيده شيدا جصصه، لأن معناه بادت إلا رواكد بها رواكد، فكأنه قال: وبها مشجج أو ثم مشجج. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} عطف عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. واختلف الناس في حده، فقال الشافعي: روي عن سعيد بن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الامام ويكبر بتكبيره. وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الامام للصلاة. وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. زيد بن أسلم: يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد. وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الامام. وروى ابن القاسم وعلي بن زياد: أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الامام. والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر، والليل عليه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} ولان هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن الكبير في الخروج إليه كالاضحى. وروى الدارقطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى. وروي عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى. وروي عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الامام. وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال: وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس. وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال: أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الامام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج. وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الأعلى والكوثر الكوثرإن شاء الله تعالى. العشرين: ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثا، وروي عن جابر بن عبد الله. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير. ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر: وكان مالك لا يحد فيه حدا. وقال أحمد: هو واسع. قال ابن العربي: واختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل. الحادية والعشرون: قوله تعالى: {عَلى ما هَداكُمْ} قيل: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب. وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام. وتقدم معنى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:51 pm | |
| {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ} المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك ورجع مغنما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}. وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت. الثانية: قوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والانعام. الثالثة: قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ} أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم» فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر: 60] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وخص عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس». وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الامة في: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [البقرة: 25] فها هنا شرط، وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] فها هنا شرط، وقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين {أُجِيبُ} {أَسْتَجِبْ} لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، يأتي بيانها هنا وفي الأعراف إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} [الأنعام: 41] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة، على ما يأتي بيانه في الأنعام إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما مقصود هذا الاخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] الآية. وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالاجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة». وأوحى الله تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن الله يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها». قالوا: إذن نكثر؟ قال: «لله أكثر». خرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فهذا كله من الإجابة. وقال ابن عباس: كل عبد دعا أستجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له. قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» وزاد مسلم: «ما لم يستعجل». رواه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل- قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال- يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء». وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: يحتمل قوله: «يستجاب لأحدكم» الاخبار عن وجوب وقوع الإجابة، والاخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الاخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب، لي، لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط. قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك» وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبد الله التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم واكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: شرائطه أربع- أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم: ينادي ربه باللحن ليث *** كذاك إذا دعاه لا يجيب وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال علي رضي الله عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لاحد منهم، ما دام لاحد من خلقي مظلمة. يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: إن شئت نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له». وفي الموطأ: «اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت». قال علماؤنا: قوله: «فليعزم المسألة» دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في، الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة الله، لأنه يدعو كريما. قال سفيان ابن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الإثار، ويأتي بيانها في مواضعها. وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك. وقال جابر بن عبد الله: دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين. فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة. الرابعة: قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ، مثل استغنى الله. وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الايمان، أي الطاعة والعمل. ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب *** أي لم يجبه. والسين زائدة واللام لام الامر. وكذا {وَلْيُؤْمِنُوا} وجزمت لام الامر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل. والرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد بالكسر يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده الله. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو الأقصد. وتقول: هو لرشدة. خلاف قولك: لزنية. وام راشد: كنية للفأرة: وبنو رشدان: بطن من العرب، عن الجوهري. وقال الهروي: الرشد والرشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:52 pm | |
| {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} فيه ست وثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ} لفظ {أُحِلَّ} يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسخن لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية، وفيها {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}. وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس ابن صرمة الأنصاري كان صائما- وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما- فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ}. يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أعتذر إلى الله وإليك، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: «لم تكن حقيقا يا عمر» فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك فنزلت: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتا�
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} فيه ثماني مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ} قيل: إنه نزل في عبدان ابن أشوع الحضرمي، ادعى ملا امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت الآية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه. الثانية: الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لان الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة النساء. وأضيفت الأموال إلى ضمير المنتهى لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}. وقال قوم: المراد بالآية {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين. الثالثة: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقتضى القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضى بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبى حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار- في رواية- فليحملها أو يذرها». وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج، إلا ما حكى عن أبى حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها- ممن يعلم أن القضية باطل- بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء، لأن قضاء القاضي قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: «فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه» الحديث. الرابعة: وهذه الآية مستمك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ}. فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهي دليل على أنه الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل. الخامسة: قوله تعالى: {بِالْباطِلِ} الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل. والأباطل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ} قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقض. وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} يعني الشرك. والبطلة: السحرة. السادسة: قوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} الآية. قيل: يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة. وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلى. والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الأدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}. وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالياء الزاق مجرد. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضى الحاجة. قلت: ويقوى هذا قوله: {وَتُدْلُوا بِها} تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفى مصحف أبى {ولا تدلوا} بتكرار حرف النهى، وهذه القراءة تؤيد جزم {تُدْلُوا} في قراءة الجماعة. وقيل: {تُدْلُوا} في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة. والهاء في قوله: {بها} ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر: فقوى القول الثاني لذكر الأموال، والله أعلم. في الصحاح: والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رشى ورشى، وقد رشاه يرشوه. وارتشى: أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه. قلت- فالحكام اليوم عين الرشاء لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!. السابعة: قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا} نصب بلام كي. {فَرِيقاً} أي قطعة وجزاء، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس. {بِالْإِثْمِ} معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية. الثامنة: اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجبائى حيث قال: إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال: يفسق بأخذ خمسة دراهم: وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال: يفسق بأخذ درهم فما فوق، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الامة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» الحديث، متفق على صحته.
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} فيه اثنتا عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال معاذ: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم. الثانية: قوله تعالى: {عَنِ الْأَهِلَّةِ} الأهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلول فيه، كما قال: أخوان من نجد على ثقة *** والشهر مثل قلامة الظفر وقيل: سمي شهرا لان الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله. وقيل: لثلاث من أوله. وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لان الناس يرفعون أصواتهم بالأخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه *** برقت كبرق العارض المتهلل ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري: وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه: قال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا. الثالثة: قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي. قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الاشكال في الآجال والمعاملات والايمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والاكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [الإسراء: 12] على ما يأتي. وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [يونس: 5]. وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام. الرابعة: وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير توقيت. وهذا لا دليل فيه، لأنه عليه السلام قال لليهود: «أقركم فيها ما أقركم الله». وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الامة. الخامسة: قوله تعالى: {مَواقِيتُ} المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت. وقيل: الميقات منتهى الوقت. و{مَواقِيتُ} لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت قوارير في قوله: {قَوارِيرَا} [الإنسان: 16] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم. السادسة: قوله تعالى: {وَالْحَجِّ} بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: {حِجُّ الْبَيْتِ في} [آل عمران: 97] في آل عمران. سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم. السابعة: أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسي فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى. الثامنة: استدل مالك رحمه الله وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية، لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي، لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} [البقرة: 197] على ما يأتي. وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله: {هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج، ولو أراد التبعيض لقال: بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول: إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل، وليس كذلك في مسألتنا، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو، فبطل ما قالوه. التاسعة: لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز، لأن الله تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح. العاشرة: إذا رؤي الهلال كبيرا فقال علماؤنا: لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله مده للرؤية» فهو لليلة رأيتموه. الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعا. وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر- يعني من أهل البيوت- نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر- يعني أهل الخيام- يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس. وروى الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم دخلت وأنت قد أحرمت». فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني أحمس» أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة. وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري. والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر ابن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج: وكم قطعنا من قفاف حمس أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها، فقيل ما ذكرنا، وهو الصحيح. وقيل: إنه النسي وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وسيأتي بيان النسي في سورة براءة إن شاء الله تعالى. وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الامر من بابه. وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر. وسمي النساء بيوتا للايواء إليهن كالايواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام. وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه. قلت: القول الأول أصح هذه الأقوال، لما رواه البراء قال: كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} وهذا نص في البيوت حقيقة. خرجه البخاري ومسلم. وأما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية، فتأمله. وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه. قلت: فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال. والبيوت جمع بيت، وقرى بضم الباء وكسرها. وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل، فلا معنى للإعادة. الثانية عشرة: في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الإثار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه». فأبطل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الأربعاء ديسمبر 30, 2015 11:54 pm | |
| {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَقاتِلُوا} هذه الآية أول آية نزلت في الامر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} [المزمل: 10] وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. والأول أكثر، وأن آية الاذن إنما نزلت في القتال عامة لمن فاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة- والحديبية اسم بئر، فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر- فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع: نسخها {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فأمر بالقتال لجميع الكفار. وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة. وأما النظر فإن فاعل لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والاجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء أذائه، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الامداد بالأموال، ومنها التحريص على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال. الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل. الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: فذرهم وما حبسوا أنفسهم له. الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم أذائه قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة. الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما- مثل قول الجماعة. والثاني- يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الامام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية. السادسة: العسفاء، وهم الاجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والاجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع: «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا». وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر. والثانية: روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة براءة بقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم». وقيل: غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة. والثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا} قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: {لا تَعْتَدُوا} أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)} فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {ثَقِفْتُمُوهُمْ} يقال: ثقف يثقف ثقفا وثقفا، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. وفي هذا دليل على قتل الأسير، وسيأتي بيان هذا في الأنفال إن شاء الله تعالى. {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي مكة. قال الطبري: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش. الثانية: قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة. وقال غيره: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به. وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبد الله بن جحش، على ما يأتي بيانه، قاله الطبري وغيره. الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} الآية. للعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما- أنها منسوخة، والثاني- أنها محكمة. قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه أقال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وفي الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة». وقال قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ثم نسخ هذا قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم. ومما احتجوا به أن براءة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة وعليه المغفر، فقيل: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه». وقال ابن خويز منداد: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} منسوخة، لأن الإجماع قد تقرر بأن عدلوا لو استولى على مكة وقال: لاقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء. وإنما قيل فيها: هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: «احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا» حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم. ألا ترى أنه قال في تعظيمها: «ولا يلتقط لقطتها إلا منشد» واللقطة بها وبغيرها سواء. ويجوز أن تكون منسوخة بقوله: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]. قال ابن العربي: حضرت في بيت المقدس- طهره الله- بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل سلبه الشطار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه- على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم- ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل، فقال قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} قرئ {ولا تقتلوهم}، ولا تُقاتِلُوهُمْ فإن قرئ {ولا تقتلوهم} فالمسألة نص، وإن قرئ {وَلا تُقاتِلُوهُمْ} فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لاحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص. فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام. قال ابن العربي: فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه. وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن. قلت: وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل فيها القتال. فثبت وصح أن القول الأول أصح، والله أعلم. الرابعة: قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن الباغي على الامام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع. ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح. على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في الحجرات إن شاء الله تعالى. الخامسة: قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي عن قتالكم بالايمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وسيأتي.
{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ} أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَإِنْ قاتَلُوكُمْ} والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، وقال عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين. واصل الفتنة: الاختبار والامتحان، مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها. وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى. الثانية: قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي عن الكفر، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في براءة وإلا قوتلوا وهم الظالمون عدوان إلا عليهم. وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]. والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:01 am | |
| {الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرامُ} قد تقدم اشتقاق الشهر. وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا: نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه، فنزلت هذه الآية. وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام؟ قال: «عم». فأرادوا قتاله، فنزلت الآية. المعنى: إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم، فأباح الله بالآية مدافعتهم، والقول الأول أشهر وعليه الأكثر. الثانية: قوله تعالى: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة. وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام. والحرمة: ما منعت من أنتهاكه. والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع. فـ {الْحُرُماتُ قِصاصٌ} على هذا متصل بما قبله ومتعلق به. وقيل: هو مقطوع منه. وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفى له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شي، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام. والأموال يتناولها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} [النساء: 58]. وهو قول عطاء الخراساني. قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا. قلت: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» واخذ الحق من الظالم نصر له. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف». فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} قاطع في موضع الخلاف. الثالثة: واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم. وللشافعي قولان، أصحهما الأخذ، قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله. والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس. ومنهم من قال: يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك. وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم. الرابعة: وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقال الشافعي: لا، بل يأخذ ماله عليه. وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس، وهو القياس، والله أعلم. الخامسة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح، لأن قول القائل: فقالت له العينان سمعا وطاعة وكذلك: امتلأ الحوض وقال قطني وكذلك: شكا إلى جملي طول السرى *** ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق. وحد الكذب: إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به. ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقال الآخر: ولي فرس للحلم بالحلم ملجم *** ولي فرس للجهل بالجهل مسرج ومن رام تقويمي فإني مقوم *** ومن رام تعويجي فإني معوج يريد: أكافئ الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج. السادسة: واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء: عليه في ذلك المثل، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. قالوا: وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال: «إناء بإناء وطعام بطعام» خرجه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة. قال ابن المثنى: فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: «غارت أمكم». زاد ابن المثنى: «كلوا» فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها. ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال: «كلوا» وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته. حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري- قال أبو داود: وهو أفلت بن خليفة- عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما فبعثت به، فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ قال: «إناء مثل إناء وطعام مثل طعام». قال مالك وأصحابه: عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل، بدليل تضمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه، ولم يضمنه مثل نصف عبده. ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات، لقوله عليه السلام: «طعام بطعام». السابعة: لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يعذب بالنار، إلا الله». والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك، لعموم الآية. الثامنة: وأما القود بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف، رواه عنه ابن وهب، وقاله ابن القاسم. وفي الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي. وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب، وقاله عبد الملك. قال ابن العربي: والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف. واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقا عينه بقصد التعذيب فعل به ذلك، كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلة الرعاء. وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف. وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة والثعلبي والنخعي. واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا قود إلا بحديدة»، وبالنهي عن المثلة، وقوله: «لا يعذب بالنار إلا رب النار». والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك! أفلان، أفلان؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترض رأسه بالحجارة. وفي رواية: فقتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين حجرين. وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}. وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى من طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل على ذلك حديث أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه بين حجرين. وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة. وقوله: «لا يعذب بالنار إلا رب النار» صحيح إذا لم يحرق، فإن حرق حرق، يدل عليه عموم القرآن. قال الشافعي: إن طرحه في النار عمدا طرح في النار حتى يموت، وذكره الوقار في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات، أو ألفاه من جبل أو سطح فمات، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفا بذلك- قد خنق غير واحد- فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله. قلت: وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة: إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إلا إذا قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان عاقلته الدية. وهذا منه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الامة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس، فليس عنه مناص. التاسعة: واختلفوا فيمن حبس رجلا وقتله آخر، فقال عطاء: يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت. وقال مالك: إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعا، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس. واختاره ابن المنذر. قلت: قول عطاء صحيح، وهو مقتضى التنزيل. وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الأخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه». رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلا. العاشرة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى} الاعتداء هو التجاوز، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور. ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني دون عذر فقل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته». أما عرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه. وقال ابن عباس: نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به، أو يصبر أو يعفو، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وقيل: نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان. ولا يحل لاحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان.
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: روى البخاري عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقى بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرد عليه ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم. قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شي. وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الاعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بما ذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل. ومعنى ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا. وقول رابع- قيل للبراء ابن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقال عبيدة السلماني. وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. {سَبِيلِ اللَّهِ} هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في: {بِأَيْدِيكُمْ} زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. ونظيره: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى} [العلق: 14]. وقال المبرد: {بِأَيْدِيكُمْ} أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، {بِما قَدَّمَتْ يَداكَ} [الحج: 10]. وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. والتهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: {لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. وقال الطبري: قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله. الثانية: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب. قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: «فلك الجنة». فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: «من يردهم عنا وله الجنة» أو: «هو رفيقي في الجنة» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: «من يردهم عنا وله الجنة» أو: «هو رفيقي في الجنة». فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أنصفنا أصحابنا». هكذا الرواية: «أنصفنا» بسكون الفاء «أصحابنا» بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم. وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجريه المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولان فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]. وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله». وسيأتي القول في هذا في آل عمران إن شاء تعالى. الثالثة: قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في أخلافه عليكم. وقيل: أحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:02 am | |
| {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)} قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فيه سبع مسائل: الأولى: اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي. ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تحرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله: {لِلَّهِ}. وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر. قلت: أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» في رواية: «غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». وخرجه أبو داود وقال: «يرحم الله وكيعا! أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة». ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات. وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة. وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات. وقل أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت المواقيت وعينها، فصارت بيانا لمجمل الحج، ولم يحرم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لامته، وما فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الأفضل إن شاء الله. وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم. واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة: ما خير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته من ميقاته، وعرفوا مغزاه ومراده، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته. الثانية: روى الأئمة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت لأهل المشرق العقيق. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق. وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت لأهل العراق ذات عرق، وهذا هو الصحيح. ومن روى أن عمر وقته لان العراق في وقته افتتحت، فغفلة منه، بل وقته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وقت لأهل الشام الجحفة. والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير. قال أبو عمر: كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته، والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع. الثالثة: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص. الرابعة: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي بن معبد: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين على، وإني أهللت بهما جميعا. فقال له عمر هديت لسنة نبيك. قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: وجدت الحج والعمرة مكتوبتين على. وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس. وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع. قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا. قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا. وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة. وسيل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت». وكان مالك يقول: «العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها». وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو؟ قال: «نعم» فسأله عن العمرة: أواجبه هي؟ قال: «لا وأن تعتمر خير لك». رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر. فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [المزمل: 20]. وابتدأ بإيجاب الحج فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها. الخامسة: قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في: {العمرة}، وهي تدل على عدم الوجوب. وقرأ الجماعة {العمرة} بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب. وفي مصحف ابن مسعود {وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله} وروي عنه {وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت}. وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي. السادسة: لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة- والقلم جار له وعليه- أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا} ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالاحرام عند الإحرام، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته: «لبيك بحجة وعمرة معا» على ما يأتي. وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال: ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما، واحتج بحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات». قال: ومن فعل مثل ما فعل على حين أهل على إهلال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجزته تلك النية، لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت، بخلاف الصلاة. السابعة: واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك: لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لاحد متمسكا بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة: جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام. واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة. وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد. قال: ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام، ولم يكن عليهما دم، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي، وليس ذلك بالبين عندي. واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أقبل من اليمن مهلا بالحج: «بم أهللت» قال قلت: لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإني أهللت بالحج وسقت الهدي». قال الشافعي: ولم ينكر عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالته، ولا أمره بتجديد نية لافراد أو تمتع أو قران. وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد يعتق، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات. وقال أبو حنيفة: يلزم العبد الدم. وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما. فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي، ولا شيء عليهما في ترك الميقات. قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فيه اثنتا عشرة مسألة: الأولى: قال ابن العربي: هذه آية مشكلة، عضلة من العضل. قلت: لا إشكال فيها، ونحن نبينها غاية البيان فنقول: الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة، فجملة أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان. واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين: الأول: قال علقمة وعروة ابن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدو. وقيل: العدو خاصة، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي. قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا. وراي أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن أحصر عرض للمرض، وحصر نزل به العدو. قلت: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى. وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، على ما يأتي. وقال أبو عبيدة والكسائي: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس، فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة: يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر. قلت: وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئة أحصر فيهما، فتأمله. وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو. قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما. قلت: ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه. قال الخليل: حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه، هكذا قال، جعل الأول ثلاثيا من حصرت، والثاني في المرض رباعيا. وعلى هذا خرج قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به، وحاصروه محاصرة وحصارا. قال الأخفش: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته. قال: واحصرني بولي، واحصرني مرصي، أي جعلني أحصر نفسي. قال أبو عمرو الشيباني: حصرني الشيء واحصرني، أي حبسني. قلت: فالأكثر من أهل اللغة على أن حصر في العدو، وأحصر في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273]. وقال ابن ميادة: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت *** عليك ولا أن أحصرتك شغول وقال الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر، يقال: حصر حصرا، وفي الأول أحصر إحصارا، فدل على ما ذكرناه. واصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير: الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره. الثانية: ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك. واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا، قالوا: وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزكام أمان من الجذام»، وقال: «من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص». الشوص: وجع السن. واللوص: وجع الاذن. والعلوص: وجع البطن. أخرجه ابن ماجه في سننه. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدل حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه، لا بدلالة الظاهر. وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو، لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مكة. قال ابن عمر: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه وحلق رأسه. ودل على هذا قوله تعالى: {فَإِذا أَمِنْتُمْ}. ولم يقل: برأتم، والله أعلم. الثالثة: جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه. وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة: دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله، وخالفه صاحباه فقالا: يتوقف على يوم النحر، وإن نحر قبله لم يجزه. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان. الرابعة: الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدى، وهو قول الشافعي، وبه قال أشهب. وكان ابن القاسم يقول: ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدى إلا أن يكون ساقه معه، وهو قول مالك. ومن حجتهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة، فلما لم يبلغ ذلك الهدى محله للصد أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحر، لأنه كان هديا وجب بالتقليد والاشعار، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه، ولم ينحره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل الصد، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدى. واحتج الجمهور بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدى، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدى إن كان عنده، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به، وهو مقتضى قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. وقد قيل: يحل ويهدى إذا قدر عليه، والقولان للشافعي، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه، قولان. الخامسة: قال عطاء وغيره: المحصر بمرض كالمحصر بعدو. وقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق. وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال. قال مالك: وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق. قال: وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه، فإذا برئ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا، وسعي بين الصفا والمروة، وحل من حجته أو عمرته. وهذا كله قول الشافعي، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد: إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق. وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه. ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم: فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل، فإذا كان قابل حج وأهدى. وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها: لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا. واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي فقال: قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدى خلاف ظاهر الكتاب، لقول الله عز وجل: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}. قال: والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب تفقه أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه، فإذا نحر فقد حل من إحرامه. كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق، لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية. السادسة: قال مالك وأصحابه: لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر يمرض أو عدو، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم. والاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني من الأرض. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور: لا بأس أن يشترط وله شرطه، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إني أردت الحج، أأشترط؟ قال: «نعم». قالت: فكيف أقول؟ قال: «قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني». أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. قال الشافعي: لو ثبت حديث ضباعة لم أعده، وكان محله حيث حبسه الله. قلت: قد صححه غير واحد، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر، قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لضباعة بنت الزبير: «حجي واشترطي». وجه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال: جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أن أهل؟ قال: «أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني». قال: فأدركت. وهذا إسناد صحيح. السابعة: واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر، فقال مالك والشافعي: من أحصر بعدو فلا قضاء عليه لحجه ولا عمرته، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا. وقال أبو حنيفة: المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة، وهو قول الطبري. قال أصحاب الرأي: إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة، لأن إحرامه بالحج صار عمرة. وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين. وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة. وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو، على ما تقدم. واحتجوا بحديث ميمون بن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدى، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم، فنحرت الهدى مكاني ثم حللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدى، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. واستدلوا بقوله عليه السلام: «من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى». رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى». قالوا: فاعتمار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، قالوا: ولذلك قيل لها عمرة القضاء. واحتج مالك بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه. قالوا: وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء، وإنما قيل لها ذلك لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل، فسميت بذلك عمرة القضية. الثامنة: لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه. وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر، ولكن اختلفوا فيما به يحل، فقال مالك وغيره: يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره. ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية وفعل ما يتحلل به، على ما تقدم من مذهبه. التاسعة: لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة. وقال ابن سيرين: لا إحصار في العمرة، لأنها غير مؤقتة. وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر، وفي ذلك نزلت الآية. وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية. العاشرة: الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموضعه، لقوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} كما تقدم. ولو سأل الكافر جعلا لم يجز، لأن ذلك وهن في الإسلام. فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإن الدين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما، ولان الحج مما ينفق فيه المال، فيعد هذا من النفقة. الحادية عشرة: والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أولا، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته. وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب: لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وجه قول ابن القاسم: أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب، فجاز له أن يحل فيه، أصل ذلك يوم عرفة. ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به فكان ذلك عليه. قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ما في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:04 am | |
| {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)} فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} يعني الهدى، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاوس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة. وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لأن الله تعالى قال: {فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئة، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة، وسيأتي. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم. وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة. وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلى يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى». وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقوله أصحاب الشافعي، وإما لان في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به. والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: {أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يحتمل أن يريد موضع الحج، ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لأن آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا. وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدى يوم النحر. الثانية: فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام أيام منى، قيل له: إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى. وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدى. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق، وقاله الحسن وعطاء. قال ابن المنذر: وكذلك نقول. وقالت طائفة: إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدى. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه، فتأمله. الثالثة: أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدى، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدى فصام ثم وجد الهدى قبل إكمال صومه، فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي، فإن لم يفعل أجزأه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور، وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدى، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدى، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد. الرابعة: قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ} قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد ابن علي {وسبعة} بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة. الخامسة: قوله تعالى: {إِذا رَجَعْتُمْ} يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقال مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان. وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل. وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم. وقال ابن العربي: إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب. قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس: «ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى» كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أمصاركم} [البقرة 196] الحديث، وسيأتي. قال النحاس: وكان هذا إجماعا. السادسة: قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر. وكمل يكمل، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى- أزيل ذلك بالجملة من قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} ثم قال: {كامِلَةٌ}. وقال الحسن: {كامِلَةٌ} في الثواب كمن أهدى. وقيل: {كامِلَةٌ} في البدل عن الهدى، يعني العشرة كلها بدل عن الهدى. وقيل: كاملة في الثواب كمن لم يتمتع. وقيل: لفظها لفظ الاخبار ومعناها الامر، أي أكملوها فذلك فرضها. وقال المبرد: {عَشَرَةٌ} دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة. وقيل: هو توكيد، كما تقول: كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر: ثلاث واثنتان فهن خمس *** وسادسة تميل إلى شمامي فقوله خمس تأكيد. ومثله قول الأخر: ثلاث بالغداة فذاك حسبي *** وست حين يدركني العشاء فذلك تسعة في اليوم ريى *** وشرب المرء فوق الري داء وقوله: {كامِلَةٌ} تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر. السابعة: قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى» طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: «من قلد الهدى فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدى محله» ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدى، كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ} إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء. الثامنة: اللام في قوله: {لِمَنْ} بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: «اشترطي لهم الولاء». وقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} [الإسراء: 7] أي فعليها. وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم. ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع. وقال الشافعي: لهم دم تمتع وقران. والإشارة ترجع إلى الهدى والصيام، فلا هدى ولا صيام عليهم. وفرق عبد الملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه. التاسعة: واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام- بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه. وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم. قال ابن عطية: وليس كما قال- فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة. وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت. وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية. العاشرة: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فيما فرضه عليكم. وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)} فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر. و{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر. وقيل التقدير: الحج في أشهر. ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف. قال الفراء: الأشهر رفع، لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات. قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر. أراد وقت الصيف، ووقت لباس الطيلسان، فحذف. الثانية: واختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو العقدة وذو الحجة كله. وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن ابن مسعود، وقاله ابن الزبير، والقولان مرويان عن مالك، حكى الأخير ابن حبيب، والأول ابن المنذر. وفائدة الفرق تعلق الدم، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يردما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر، لأنها في أشهر الحج. وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته. الثالثة: لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه، لأنها كانت معلومة عندهم. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها، فالوقت يذكر بعضه بكله، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيام منى ثلاثة». وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: رأيتك اليوم، وجئتك العام. وقيل: لما كان الاثنان وما فوقهما جمع قال أشهر، والله أعلم. الرابعة: اختلف في الإهلال بالحج غير أشهر الحج، فروي عن ابن عباس: من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج. وقال عطاء ومجاهد وطاوس والأوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال الأوزاعي: يحل بعمرة. وقال أحمد بن حنبل: هذا مكروه، وروي عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها، وهو قول أبي حنيفة. وقال النخعي: لا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقد تقدم القول فيها. وما ذهب إليه الشافعي أصح، لأن تلك عامة، وهذه الآية خاصة. ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الأشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، والله أعلم. الخامسة: قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي. قال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم. واصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل. ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الخز للقدح. وقيل: {فَرَضَ} أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره. و{من} رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله: {فَرَضَ}، لأن {من} ليست بموصولة، فكأنه قال: رجل فرض. وقال: {فِيهِنَّ} ولم يقل فيها، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال. وقال المازني أبو عثمان: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} [التوبة: 36] ثم قال: {مِنْها}. السادسة: قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ} قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لأنه يفسده. وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدى. وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، لقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم: وهن يمشين بنا هميسا *** إن تصدق الطير ننك لميسا فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم! فقال: إن الرفث ما قيل عند النساء. وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا. وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله. وقال أبو عبيدة: الرفث اللغا من الكلام، وأنشد: ورب أسراب حجيج كظم *** عن اللغا ورفث التكلم يقال: رفث يرفث، بضم الفاء وكسرها. وقرأ ابن مسعود {فلا رفوث} على الجمع. قال ابن العربي: المراد بقوله: {فَلا رَفَثَ} نفيه مشروعا لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] معناه: شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي. وهذا كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] إذا قلنا: إنه وارد في الأدميين- وهو الصحيح- أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا. السابعة: قوله تعالى: {وَلا فُسُوقَ} يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن. وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر واخذ الشعر، وشبه ذلك. وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قوله: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} [الحجرات: 11]. وقال ابن عمر أيضا: الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». والقول الأول أصح، لأنه يتناول جميع الأقوال. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» خرجه مسلم وغيره. وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال». وقال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه. وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله. قلت: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده. قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. وقيل غير هذا، وسيأتي. الثامنة: قوله تعالى: {وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} قرئ {فلا رفث ولا فسوق} بالرفع والتنوين فيهما. وقرئا بالنصب بغير تنوين. وأجمعوا على الفتح في: {وَلا جِدالَ}، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولان المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء. والأسماء الثلاثة في موضع رفع، كل واحد مع لا. وقوله: {فِي الْحَجِّ} خبر عن جميعها. ووجه قراءة الرفع أن لا بمعنى ليس فارتفع الاسم بعدها، لأنه اسمها، والخبر محذوف تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه {فِي الْحَجِّ} الثاني الظاهر وهو خبر {لا جِدالَ}. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال. قلت: فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} فلا تحتاج إلى خبر. ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا. ويجوز أن يرفع {رفث وفسوق} بالابتداء، ولا للنفي، والخبر محذوف أيضا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة. ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وعليه يكون {فِي الْحَجِّ} خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون {فِي الْحَجِّ} خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لأن خبر ليس منصوب وخبر {وَلا جِدالَ} مرفوع، لأن {وَلا جِدالَ} مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد. ويجوز {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} تعطفه على الموضع. وأنشد النحويون: لا نسب اليوم ولا خلة *** اتسع الخرق على الراقع ويجوز في الكلام {فلا رفث ولا فسوقا ولا جدال في الحج} عطفا على اللفظ على ما كان يجب في لا قال الفراء: ومثله: فلا أب وابنا مثل مروان وابنه *** إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا وقال أبو رجاء العطاردي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} بالنصب فيهما، {ولا جدال} بالرفع والتنوين. وأنشد الأخفش: هذا وجدكم الصغار بعينه *** لا أم لي إن كان ذاك ولا أب وقيل: إن معنى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. ومعنى: {وَلا جِدالَ} النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ. قال القشيري: وفيه نظر، إذ فيل: {وَلا جِدالَ} نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما. التاسعة: {وَلا جِدالَ} الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو القتل، ومنه زمام مجدول. وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض. فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة. قال الشاعر: قد أركب الآلة بعد الآلة *** وأترك العاجز بالجداله منعفرا لست له محاله *** العاشرة: واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة: الجدال السباب. وقال ابن زيد ومالك بن أنس: الجدال هنا أن يختلف الناس: أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل: لا جدال في مواضعه. وقالت طائفة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم، وتقول طائفة: الحج غدا. وقال مجاهد وطائفة معه: الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسي، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك. قلت: فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله: {وَلا جِدالَ}، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» الحديث، وسيأتي في براءة. يعني رجع أم الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حج: «خذوا عني مناسككم» فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه. وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم. ويقول الأخر مثل ذلك. وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء، والله أعلم. الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء. وقيل: هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال. وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه. الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} أمر باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجئ إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد. وقال عبد الله بن الزبير: كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد. وكان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلاثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: «يا عمر زود القوم». وقال بعض الناس: تَزَوَّدُوا الرفيق الصالح. وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة. قلت: القول الأول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين. قال الشعبي: الزاد التمر والسويق. ابن جبير: الكعك والسويق. قال ابن العربي: أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون. والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عز وجل أعلم. قال أبو الفرج الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ. قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة. فقال لا، إلا معهم. قال: فعلى جرب الناس توكلت؟! الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات، فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى. وجاء قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} محمولا على المعنى، لأن معنى: {وَتَزَوَّدُوا}: اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف. وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار. قال أهل الإشارات: ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الآخرة. قال الأعشى: إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله *** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وقال آخر: الموت بحر طامح موجه *** تذهب فيه حيلة السابخ يا نفس إني قائل فاسمعي *** مقالة من مشفق ناصح لا يصحب الإنسان في قبره *** غير التقى والعمل الصالح الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ} خص أولي الألباب بالخطاب- وإن كان الامر يعم الكل- لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. والألباب جمع لب، ولب كل شي: خالصه، ولذلك قيل للعقل: لب. قال النحاس: سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب: أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل؟ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس: لببت تلب، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:05 am | |
| {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {جُناحٌ} أي إثم، وهو اسم ليس. {أَنْ تَبْتَغُوا} في موضع نصب خبر ليس، أي في أن تبتغوا. وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض. ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة، المعنى: لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله. وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج». الثانية: إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء. أما إن الحج دون تجارة أفضل، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها. روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إني رجل أكرى في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: إنه لا حج لك. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لك حجا». قوله تعالى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} فيه ست عشرة مسألة. الأولى: قوله تعالى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ} أي اندفعتم. ويقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه. ورجل فياض، أي مندفق بالعطاء. قال زهير: وأبيض فياض يداه غمامة *** على معتفيه ما تغب فواضله وحديث مستفيض، أي شائع. الثانية: قوله تعالى: {مِنْ عَرَفاتٍ} قراءة الجماعة {عَرَفاتٍ} بالتنوين، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات، لأن التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، يقول: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفات يا هذا، بكسر التاء وبغير تنوين، قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة. وأنشدوا: تنورتها من أذرعات وأهلها *** بيثرب أدنى دارها نظر عال والقول الأول أحسن، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون. وعرفات: اسم علم، سمي بجمع كأذرعات. وقيل: سمي بما حوله، كأرض سباسب. وقيل: سميت تلك البقعة عرفات لان الناس يتعارفون بها. وقيل: لان آدم لما هبط وقع بالهند، وحواء بجدة، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، قاله الضحاك. وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قول تعالى: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} [البقرة: 128]. قال ابن عطية: والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع. وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر: تزودت من نعمان عود أراكة *** لهند ولكن لم يبلغه هندا وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله تعالى: {عَرَّفَها لَهُمْ} [محمد: 6] أي طيبها، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء، فلذلك سميت عرفات. ويوم الوقوف، يوم عرفة. وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف. إذا كان صابرا خاشعا. ويقال في المثل: النفس عروف وما حملتها تتحمل. قال: فصبرت عارفة لذلك حرة أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة: عروف لما خطت عليه المقادر أي صبور على قضاء الله، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد، لإقامة هذه العبادة. الثالثة: أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل، إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا. وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الامة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ} ولم يخص ليلا من نهار، وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في الموقف من جميع، فقلت يا رسول الله، جئتك من جبلي طئ، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه وتم حجه». أخرجه غير واحد من الأئمة، منهم أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو عمر: حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي السفر ومطرف، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام. وحجة مالك من السنة الثابتة: حديث جابر الطويل، خرجه مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأفعاله على الوجوب، لا سيما في الحج وقد قال: «خذوا عني مناسككم». الرابعة: واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم: عليه دم. وقال الحسن البصري: عليه هدي. وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال مالك: عليه حج قابل، والهدى ينحره في حج قابل، وهو كمن فاته الحج. فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي: لا شيء عليه، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، وبه قال الطبري. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس، وبذلك قال أبو ثور. الخامسة: ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس، وأردف أسامة بن زيد، وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي، وفي حديث ابن عباس أيضا. قال جابر: ثم ركب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، الحديث. فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. قال ابن وهب في موطئة قال لي مالك: الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما، قال: ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح. السادسة: ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نص. قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم، لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. السابعة: ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف». رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر». قال ابن عبد البر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأكثر الإثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الإثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. قال أبو عمر: واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه: يهريق دما وحجه تام. وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك. وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة. وروي عن ابن عباس قال: من أفاض من عرنة فلا حج له. وهو قول ابن القاسم وسالم، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي، قال وبه أقول: لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يوقف به. قال ابن عبد البر: الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع. وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف. وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها، وهو بغربي مسجد عرفة، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة. وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل، وعرنة في الحرم. قال أبو عمر: وأما بطن محسر فذكر وكيع: حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضع في بطن محسر. الثامنة: ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة، تشبيها بأهل عرفة. روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة. يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة. وقال موسى بن أبي عائشة: رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، قد فعله غير واحد: الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة. التاسعة: في فضل يوم عرفة. يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية». أخرجه الصحيح. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له». وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء». وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر». قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: «أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة». قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم ابن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: حدثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال: «يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم». فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه: «إني قد غفرت لهم»، فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل له: تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: «تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثى التراب على رأسه ويفر». وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له». قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبد الغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام. العاشرة: استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة. روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب. قال: حديث حسن صحيح. وقد روي عن ابن عمر قال: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه- يعني يوم عرفة- ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة. وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول، وزاد في آخره: ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، حديث حسن. وذكره ابن المنذر. وقال عطاء في صوم يوم عرفة: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة. وكان عثمان بن أبي، العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة. قال ابن المنذر: الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي، اتباعا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصوم بغير عرفة أحب إلي، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية». وقد روينا عن عطاء أنه قال: من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم. الحادية عشرة: في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ} أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام. ويسمى جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها، أي دنا منها، وبه سميت المزدلفة. ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها، لأنهم يزدلفون إلى الله، أي يتقربون بالوقوف فيها. وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج. ووصف بالحرام لحرمته. الثانية عشرة: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. وأجمع أهل العلم- لا اختلاف بينهم- أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء. واختلفوا فيمن صلاها؟ أن يأتي جمعا، فقال مالك: من وقف مع الامام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها، واستدل على ذلك بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسامة بن زيد: «الصلاة أمامك». قال ابن حبيب: من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال، لقوله عليه السلام: «الصلاة أمامك». وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: لا إعادة عليه، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها، وبه قال الشافعي، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما، فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما، وإنما كان على معنى الاستحباب، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة. واختار ابن المنذر هذا القول، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب. وحكي عن الشافعي أنه قال: لا يصلي حتى يأتي المزدلفة، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما. الثالثة عشرة: ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب: لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق، لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق، لقوله عليه السلام: «لصلاة أمامك» ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق. ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق، فلا يجوز أن يؤتي بها قبله، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه. الرابعة عشرة: وأما من أتى عرفة بعد دفع الامام، أو كان له عذر ممن وقف مع الامام فقد قال ابن المواز: من وقف بعد الامام فليصل كل صلاة لوقتها. وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الامام: إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما. وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الامام: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة، وإلا صلى كل صلاة لوقتها. فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الامام دون غيره، وراعي مالك الوقت دون المكان، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان، وكان مراعاة وقتها المختار أولى. الخامسة عشرة: اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين: أحدهما- الأذان والإقامة. والآخر: هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك، فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين. أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وكذلك الظهر والعصر بعرفة، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع. قال أبو عمر: لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب، وزاد ابن المنذر ابن مسعود. ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى، لأن ليس واحدة منهما تقضي، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة، وهذا بين، والله أعلم. وقال آخرون: أما الأولى منهما فتصلي بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلي بلا أذان ولا إقامة. قالوا: وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لان الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم. قالوا: وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الامام لعشاء أو غيره، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم، وإذا أذن أقام. قالوا: فهذا معنى ما روي عن عمر، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين، وفي طريق أخرى وصلي كل صلاة بأذان وإقامة، ذكره عبد الرزاق. وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري. وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: جمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة. وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة. وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس ابن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة، لم يجعل بينهما شيئا. وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت، وليس بالقوي. وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط. وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر، وهو القول الأول وعليه المعول. وقال آخرون: تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما. وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، واحتجوا بما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا. قال أبو عمر: والإثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب، ولكنها محتملة للتأويل، وحديث جابر لم يختلف فيه، فهو أولى، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر، وإنما فيها الاتباع. السادسة عشرة: وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلاها، ولم يصل بينهما شيئا. في رواية: ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا. وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل، العشاء بين الصلاتين، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع. وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة: أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته؟ فقال: أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته. وقال أشهب في كتبه: له حط رحله قبل الصلاة، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك، لما بدابته من الثقل، أو لغير ذلك من العذر. وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين، وفي حديث أسامة: ولم يصل بينهما شيئا. السابعة عشرة: وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور. واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع، فقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه، لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا فرض، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يعد. وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة. وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري: الوقوف بالمزدلفة فرض، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. وروي ذلك عن ابن الزبير وهو قول الأوزاعي. وروي عن الثوري مثل ذلك، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة. وقال حماد ابن أبي سليمان. من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا. واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقول الله تعالى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ} وأما السنة فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له». ذكره ابن المنذر. وروى الدارقطني عن عروة بن مضرس: قال أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بجمع فقلت له: يا رسول الله، هل لي من حج؟ فقال: «من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه». قال الشعبي: من لم يقف بجمع جعلها عمرة. وأجاب من احتج للجمهور بأن قال: أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت، إذ ليس ذلك مذكورا فيها، وإنما فيها مجرد الذكر. وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله إن حجه تام، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك. قال أبو عمر: وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع، وإن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ممن يقول إن ذلك فرض، ومن يقول إن ذلك سنة. وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة، ومثله حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه». رواه النسائي قال: أخبرنا إسحاق ابن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان- يعني الثوري- عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بنيعمر الديلي قال: شهدت...، فذكره. ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه». وقوله في حديث عروة: «من صلى صلاتنا هذه». فذكر الصلاة بالمزدلفة، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الامام حتى فاتته أن حجه تام. فلما كان حضور الصلاة مع الامام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك. قالوا: فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة. الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} كرر الامر تأكيدا، كما تقول: ارم. ارم. وقيل: الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام. والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص. وقيل المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الأنعام فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} والكاف في: {كما} نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية أو كافة. والمعنى: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه. وإن مخففة من الثقيلة، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر، قال سيبويه. الفراء: نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، كما قال: ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما *** حلت عليك عقوبة الرحمن أو بمعنى قد، أي قد كنتم، ثلاثة أقوال. والضمير في: {قبله} عائد إلى الهدي. وقيل إلى القرآن، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين. وإن شئت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كناية عن غير مذكور، والأول أظهر والله أعلم.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:08 am | |
| {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و{ثم} ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة. وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الامة، والمراد ب {الناس} إبراهيم عليه السلام، كما قال: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] وهو يريد واحدا. ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجيء {ثم} على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري. والمعنى: أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لان الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع. قلت: ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للأمر بالإفاضة منها، والله أعلم. والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول. روى الترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ}. هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ} قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ} رجعوا إلى عرفات. وهذا نص صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معول على غيره من الأقوال. والله المستعان. وقرأ سعيد بن جبير {الناسي} وتأويله آدم عليه السلام، لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]. ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس، كالقاض والهاد. ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه. وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظان القبول ومساقط الرحمة. وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة. الثانية: روى أبو داود عن علي قال: فلما أصبح- يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف على قزح فقال: «هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم». فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة ان يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الامام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام. وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الامام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع، على مخالفة العرب، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة. وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس. وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فأخر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وعجل هذا، أخر الدفع من عرفة، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدى المشركين. الثالثة: فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة، وهو أن يسير الامام بالناس سير العنق، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا. والعنق: مشي للدواب معروف لا يجهل. والنص: فوق العنق، كالخبب أو فوق ذلك. وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسيل: كيف كان يسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أفاض من عرفة؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق، وقد تقدم. ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر، فإن لم يفعل فلا حرج، وهو من منى. وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال: دفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه السكينة وقال لهم: «أوضعوا في وادي محسر» وقال لهم: «خذوا عني مناسككم». فإذا أتوا مني وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حصيات، كل حصاة منها مثل حصي الخذف- على ما يأتي بيانه- فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه. وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية، لما جاء في ذلك. ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يحل له كل شيء إلا النساء، وروي عن ابن عباس. الرابعة: ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك. والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطئة عن علي، وقال: هو الامر عندنا. قلت: والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: «عليكم بالسكينة» وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا «وهو من منى» قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمي به الجمرة»، وقال: لم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبي حتى رمى جمرة العقبة. في رواية: والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده كما يحذف الإنسان. وفي البخاري عن عبد الله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب». وفي البخاري عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها. وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام، وسيأتي ذكره في سورة الحج إن شاء الله تعالى.
{فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ} قال مجاهد: المناسك الذبائح وهراقة الدماء. وقيل: هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام: «خذوا عني مناسككم». المعنى: فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم. وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف، وكذلك {ما سَلَكَكُمْ} لأنهما مثلان. و{قَضَيْتُمْ} هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] أي أديتم الجمعة. وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها. الثانية: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ} كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية. هذا قول جمهور المفسرين. وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم: أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم. وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم. وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما. والكاف من قوله: {كَذِكْرِكُمْ} في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم. {أَوْ أَشَدَّ} قال الزجاج: {أَوْ أَشَدَّ} في موضع خفض عطفا على ذكركم، المعنى: أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لأنه أفعل صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد. و{ذِكْراً} نصب على البيان. قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا} {من} في موضع رفع بالابتداء، وإن شئت بالصفة يقول: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا} صلة {من} المراد المشركون. قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعوا في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم. ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا ف {ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب. و{من} زائدة وقد تقدم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)} قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ} أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة. واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الآخرة الحور العين. {وَقِنا عَذابَ النَّارِ}: المرأة السوء. قلت: وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لأن النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز. وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال. وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة. وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة. وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن {حَسَنَةً} نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل. وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع. وقيل: لم يرد حسنة واحدة، بل أراد: أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم. الثانية: قوله تعالى: {وَقِنا عَذابَ النَّارِ} أصل قنا أو قنا، حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي، لأنها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن العرب تقول: ورم يرم، فيحذفون الواو. والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة. ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدرى ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حولها ندندن» خرجه أبو داود في سننه وابن ماجه أيضا. الثالثة: هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة. قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون! قد سألت الدنيا والآخرة!. وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللهم آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ». قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ماله هجيرى غيرها، ذكره أبو عبيد. وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ}. وقال ابن عباس: إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين، فقولوا: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ} وسيل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين» الحديث. خرجه ابن ماجه في السنن، وسيأتي بكماله مسندا في الحج إن شاء الله.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:10 am | |
| {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع {أُولئِكَ} إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. الثانية: قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} من سرع يسرع- مثل عظم يعظم- سرعا وسرعة، فهو سريع. {الحساب} مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد: يقال: حسب يحسب حسابا وحسابه وحسبانا وحسبانا وحسبا، أي عد، وأنشد ابن الاعرابي: يا جمل أسقاك بلا حسابه *** سقيا مليك حسن الربابة قتلتني بالدل والخلابة *** والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: «الحسب المال والكرم التقوى» رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابه بالضم مثل خطب خطابة. والمعنى في الآية: أن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقوله الحق: {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب» الحديث. فالله عز وجل عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذا قد علم ما للحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم. وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ}. قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر: «إن الله يحاسب في قدر حلب شاة». وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال كما يرزقهم في يوم! ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}. وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة. قلت: والكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا. الثالثة: قال ابن عباس في قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي». قال نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى». قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} يعني من حج عن منيت كان الأجر بينه وبين الميت. قال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ} فيه ست مسائل: الأولى: قال الكوفيون: الألف والتاء في: {مَعْدُوداتٍ} لأقل العدد. وقال البصريون: هما للقليل والكثير، بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ} والغرفات كثيرة. ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهى أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمى الجمار، وهى واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر، فقف على ذلك. وقال الثعلبي وقال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر، وكذا حكى مكي والمهدوي أن الأيام المعدودات هي أيام العشر. ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع، على ما نقله أبو عمر بن عبد البر وغيره. قال ابن عطية: وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد النحر، وفى ذلك بعد. الثانية: أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهى الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر وهو ثانى يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات. خرج الدارقطني والترمذي وغيرهما عن عبد الرحمن بنيعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديا فنادى: «الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه»، أي من تعجل من الحاج في يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر، ويصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، ويسقط عنه رمى يوم الثالث. ومن لم ينفر منها إلا في آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام من أجل يوم النحر، واستوفى العدد في الرمي، على ما يأتي بيانه. ومن الدليل على أن أيام منى ثلاثة- مع ما ذكرناه- قول العرجي: ما نلتقي إلا ثلاث منى *** حتى يفرق بيننا النفر فأيام الرمي معدودات، وأيام النحر معلومات. وروى نافع عن ابن عمر أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهذا مذهب مالك وغيره. وإنما كان كذلك لان الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ} ولا من التي عين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «أيام منى ثلاثة» فكان معلوما، لأن الله تعالى قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ}، ولا خلاف أن المراد به النحر، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا، فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى: {مَعْلُوماتٍ} لأنه لا ينحر فيه وكان مما يرمى فيه، فصار معدودا لأجل الرمي، غير معلوم لعدم النحر فيه. قال ابن العربي: والحقيقة فيه أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ}. وقال أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذى الحجة، وآخرها يوم النحر، لم يختلف قولهما في ذلك، ورويا ذلك عن ابن عباس. وروى الطحاوي عن أبى يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال أبو يوسف: روى ذلك عن عمر وعلى، وإليه أذهب، لأنه تعالى قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ}. وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى ويومان بعده. قال إلكيا الطبري: فعلى قول أبى يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف، ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث. وقد روى عن ابن عباس أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول الجمهور. قلت: وقال ابن زيد: الأيام المعلومات عشر ذى الحجة وأيام التشريق، وفيه بعد، لما ذكرناه، وظاهر الآية يدفعه. وجعل الله الذكر في الأيام المعدودات والمعلومات يدل على خلاف قوله، فلا معنى للاشتغال به. الثالثة: ولا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمى الحمار، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية، وهل يدخل غير الحاج في هذا أم لا؟ فالذي عليه فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد- وخصوصا في أوقات الصلوات- فيكبر عند انقضاء كل صلاة- كان المصلى وحده أو في جماعة- تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم. وفى المختصر: ولا يكبر النساء دبر الصلوات. والأول أشهر، لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل، قاله في المدونة. الرابعة: ومن نسى التكبير بأثر صلاة كبر إن كان قريبا، وإن تباعد فلا شيء عليه، قاله ابن الجلاب. وقال مالك في المختصر: يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام من مجلسه فلا شيء عليه. وفى المدونة من قول مالك: إنسى الامام التكبير فإن كان قريبا قعد فكبر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبر والقوم جلوس فليكبروا. الخامسة: واختلف العلماء في طرفي مدة التكبير، فقال عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وابن عباس: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر. وخالفاه صاحباه فقالا بالقول الأول، قول عمر وعلى وابن عباس رضي الله عنهم، فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء. وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا. وقال زيد بن ثابت: يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق. قال ابن العربي: فأما من قال: يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر، لأن الله تعالى قال: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ} وأيامها ثلاثة، وقد قال هؤلاء: يكبر في يومين، فتركوا الظاهر لغير دليل. وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق، فقال: إنه قال: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ}، فذكر {عرفات} داخل في ذكر الأيام، هذا كان يصح لو كان قال: يكبر من المغرب يوم عرفة، لأن وقت الإفاضة حينئذ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى. السادسة: واختلفوا في لفظ التكبير، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، رواه زياد بن زياد عن مالك. وفى المذهب رواية: يقال بعد التكبيرات الثلاث: لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وفى المختصر عن مالك: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} التعجيل أبدا لا يكون هنا إلا في آخر النهار، وكذلك اليوم الثالث، لأن الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال. وأجمعوا على أن يوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال، وكذلك أجمعوا أن وقت رمى الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: جائز رميها بعد الفجر قبل طلوع الشمس. وقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص لاحد برمي قبل أن يطلع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز رميها، وبه قال أحمد وإسحاق. ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر، روى عن أسماء بنت أبى بكر أنها كانت ترمى بالليل وتقول: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه أبو داود. وروى هذا القول عن عطاء وابن أبى مليكة وعكرمة بن خالد، وبه قال الشافعي إذا كان الرمي بعد نصف الليل. وقالت طائفة: لا يرمى حتى تطلع الشمس، قاله مجاهد والنخعي والثوري. وقال أبو ثور: إن رماها قبل طلوع الشمس فإن اختلفوا فيه لم يجزه، وإن أجمعوا، أو كانت فيه سنة أجزأه. قال أبو عمر: أما قول الثوري ومن تابعه فحجته أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى الجمرة بعد طلوع الشمس وقال: «خذوا عني مناسككم». وقال ابن المنذر: السنة ألا ترمى إلا بعد طلوع الشمس، ولا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر، فإن رمى أعاد، إذ فاعله مخالف لما سنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامته. ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه. الثانية: روى معمر قال أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم سلمة أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها. قال أبو عمر: اختلف على هشام في هذا الحديث، فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا كما رواه معمر، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أم سلمة بذلك مسندا، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبى سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا، وكلهم ثقات. وهو يدل على أنها رمت الجمرة بمنى قبل الفجر، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، والله أعلم. ورواه أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا ابن أبى فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندها. وإذا ثبت فالرمي بالليل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشمس إلى زوالها. قال أبو عمر: أجمعوا على أن وقت الاختيار في رمى جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى زوالها، وأجمعوا أنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر فقد أجزأ عنه ولا شيء عليه، إلا مالكا فإنه قال: أستحب له إن ترك جمرة العقبة حتى أمسى أن يهريق دما يجئ به من الحل. واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم، واحتج بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت لرمي الجمرة وقتا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رماها بعد خروج وقتها، ومن فعل شيئا في الحج بعد وقته فعليه دم. وقال الشافعي: لا دم عليه، وهو قول أبى يوسف ومحمد، وبه قال أبو ثور، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له السائل: يا رسول الله، رميت بعد ما أمسيت فقال: «لا حرج»، قال مالك: من نسى رمى الجمار حتى يمسي فليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلى أية ساعة ذكر، ولا يرمى إلا ما فاته خاصة، وإن كانت جمرة واحدة رماها، ثم يرمى ما رمى بعدها من الجمار، فإن الترتيب في الجمار واجب، فلا يجوز أن يشرع في رمى جمرة حتى يكمل رمى الجمرة الأولى كركعات الصلاة، هذا هو المشهور من المذهب. وقيل: ليس الترتيب بواجب في صحة الرمي، بل إذا كان الرمي كله في وقت الأداء أجزأه. الثالثة: فإذا مضت أيام الرمي فلا رمى، فإن ذكر بعد ما يصدر وهو بمكة أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدى، وسواء ترك الجمار كلها، أو جمرة منها، أو حصاة من جمرة حتى خرجت أيام منى فعليه دم. وقال أبو حنيفة: إن ترك الجمار كلها فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء، إلا جمرة العقبة فعليه دم. وقال الأوزاعي: يتصدق إن ترك حصاة. وقال الثوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعة فصاعدا فعليه دم. وقال الليث: في الحصاة الواحدة دم، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الآخر وهو المشهور: إن في الحصاة الواحدة مدا من طعام، وفي حصاتين مدين، وفي ثلاث حصيات دم. الرابعة: ولا سبيل عند الجميع إلى رمى ما فاته من الجمار في أيام التشريق حتى غابت الشمس من آخرها، وذلك اليوم الرابع من يوم النحر، وهو الثالث من أيام التشريق، ولكن يجزئه الدم أو الإطعام على حسب ما ذكرنا. الخامسة: ولا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى ليالي التشريق، فإن ذلك غير جائز عند الجميع إلا للرعاء ولمن ولى السقاية من آل العباس. قال مالك: من ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء واهل السقاية فعليه دم. روى البخاري عن ابن عمر أن العباس استأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. قال ابن عبد البر: كان العباس ينظر في السقاية ويقوم بأمرها، ويسقى الحاج شرابها أيام الموسم، فلذلك أرخص له في المبيت عن منى، كما أرخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم لرعي الإبل وضرورتهم إلى الخروج بها نحو المراعى التي تبعد عن منى. وسميت منى منى لما يمنى فيها من الدماء، أي يراق. وقال ابن عباس: إنما سميت منى لان جبريل قل لآدم عليه السلام: تمن. قال: أتمنى الجنة، فسميت منى. قال: وإنما سميت جمعا لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام، والجمع أيضا هو المزدلفة، وهو المشعر الحرام، كما تقدم. السادسة: وأجمع الفقهاء على أن المبيت للحاج غير الذين رخص لهم ليالي منى بمنى من شعائر الحج ونسكه، والنظر يوجب على كل مسقط لنسكه دما، قياسا على سائر الحج ونسكه. وفى الموطأ: مالك عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر: لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. والعقبة التي منع عمر أن يبيت أحد وراءها هي العقبة التي عند الجمرة التي يرميها الناس يوم النحر مما يلي مكة. رواه ابن نافع عن مالك في المبسوط، قال: وقال مالك: ومن بات وراءها ليالي منى فعليه الفدية، وذلك أنه بات بغير منى ليالي منى، وهو مبيت مشروع في الحج، فلزم الدم بتركه كالمبيت بالمزدلفة، ومعنى الفدية هنا عند مالك الهدى. قال مالك: هو هدى يساق من الحل إلى الحرم. السابعة: روى مالك عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدى أخبره أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. قال أبو عمر: لم يقل مالك بمقتضى هذا الحديث، وكان يقول: يرمون يوم النحر- يعني جمرة العقبة- ثم لا يرمون من الغد، فإذا كان بعد الغد وهو الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الذي يتعجل فيه النفر من يريد التعجيل أو من يجوز له التعجيل رموا اليومين لذلك اليوم ولليوم الذي قبله، لأنهم يقضون ما كان عليهم، ولا يقضى أحد عنده شيئا إلا بعد أن يجب عليه، هذا معنى ما فسر به مالك هذا الحديث في موطئة. وغيره يقول: لا بأس بذلك كله على ما في حديث مالك، لأنها أيام رمى كلها، وإنما لم يجز عند مالك للرعاء تقديم الرمي لان غير الرعاء لا يجوز لهم أن يرموا في أيام التشريق شيئا من الجمار قبل الزوال، فإن رمى قبل الزوال أعادها، ليس لهم التقديم. وإنما رخص لهم في اليوم الثاني إلى الثالث. قال ابن عبد البر: الذي قاله مالك في هذه المسألة موجود في رواية ابن جريج قال: أخبرني محمد بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدى أخبره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرخص للرعاء أن يتعاقبوا، فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرمون الغد. قال علماؤنا: ويسقط رمى الجمرة الثالثة عمن تعجل. قال ابن أبى زمنين يرميها يوم النفر الأول حين يريد التعجيل. قال ابن المواز: يرمى المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع حصيات، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، لأنه قد رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع. قال ابن المنذر: ويسقط رمى اليوم الثالث. الثامنة: روى مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبى رباح أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل، يقول في الزمن الأول. قال الباجى: قوله في الزمن الأول يقتضى إطلاقه زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أول زمن هذه الشريعة، فعلى هذا هو مرسل. ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء، فيكون موقوفا مسندا. والله أعلم. قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه الدارقطني وغيره، وقد ذكرناه في المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس، وإنما أبيح لهم الرمي بالليل لأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعى الإبل، لأن الليل وقت لا ترعى فيه ولا تنتشر، فيرمون في ذلك الوقت. وقد اختلفوا فيمن فاته الرمي حتى غربت الشمس، فقال عطاء: لا رمى بالليل إلا لرعاء الإبل، فأما التجار فلا. وروى عن ابن عمر أنه قال: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تطلع الشمس من الغد، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك: إذا تركه نهارا رماه ليلا، وعليه دم في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في الموطأ أن عليه دما. وقال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد: إذا نسى الرمي حتى أمسى يرمى ولا دم عليه. وكان الحسن البصري يرخص في رمى الجمار ليلا. وقال أبو حنيفة: يرمى ولا شيء عليه، وإن لم يذكرها من الليل حتى يأتي الغد فعليه أن يرميها وعليه دم. وقال الثوري: إذا أخر الرمي إلى الليل ناسيا أو متعمدا أهرق دما. قلت: أما من رمى من رعاء الإبل أو أهل السقاية بالليل فلا دم يجب، للحديث، وإن كان من غيرهم فالنظر يوجب الدم لكن مع العمد، والله أعلم. التاسعة: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته. واستحب مالك وغيره أن يكون الذي يرميها راكبا. وقد كان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمونها وهم مشاة، ويرمى في كل يوم من الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة، يكبر مع كل حصاة، ويكون وجهه في حال رميه إلى الكعبة، ويرتب الجمرات ويجمعهن ولا يفرقهن ولا ينكسهن، يبدأ بالجمرة الأولى فيرميها بسبع حصيات رميا ولا يضعها وضعا، كذلك قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأى، فإن طرحها طرحا جاز عند أصحاب الرأى. وقال ابن القاسم: لا تجزئ في الوجهين جميعا، وهو الصحيح، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرميها، ولا يرمى عندهم بحصاتين أو أكثر في مرة، فإن فعل عدها حصاة واحدة، فإذا فرغ منها تقدم أمامها فوقف طويلا للدعاء بما تيسر. ثم يرمى الثانية وهى الوسطى وينصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل، ويطيل الوقوف عندها للدعاء. ثم يرمى الثالثة بموضع جمرة العقبة بسبع حصيات أيضا، يرميها من أسفلها ولا يقف عندها، ولو رماها من فوقها أجزأه، ويكبر في ذلك كله مع كل حصاة يرميها. وسنة الذكر في رمى الجمار التكبير دون غيره من الذكر، ويرميها ماشيا بخلاف جمرة يوم النحر، وهذا كله توقيف رفعه النسائي والدارقطني عن الزهري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رمى الجمرة التي تلى المسجد- مسجد منى- يرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف. ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه ثم يدعو. ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها. قال الزهري: سمعت سالم بن عبد الله يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وكان ابن عمر يفعله، لفظ الدارقطني. العاشرة: وحكم الجمار أن تكون طاهرة غير نجسة، ولا مما رمى به، فإن رمى بما قد رمى به لم يجزه عند مالك، وقد قال عنه ابن القاسم: إن كان ذلك في حصاة واحدة أجزأه، ونزلت بابن القاسم فأفتاه بهذا. الحادية عشرة: واستحب أهل العلم أخذها من المزدلفة لا من حصى المسجد، فإن أخذ زيادة على ما يحتاج وبقي ذلك بيده بعد الرمي دفنه ولم يطرحه، قال أحمد بن حنبل وغيره. الثانية عشرة: ولا تغسل عند الجمهور خلافا لطاوس، وقد روى أنه لو لم يغسل الجمار النجسة أو رمى بما قد رمى به أنه أساء وأجزأ عنه. قال ابن المنذر: يكره أن يرمى بما قد رمى به، ويجزئ إن رمى به، إذ لا أعلم أحدا أوجب على من فعل ذلك الإعادة، ولا نعلم في شيء من الاخبار التي جاءت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه غسل الحصى ولا أمر بغسله، وقد روينا عن طاوس أنه كان يغسله. الثالثة عشرة: ولا يجزئ في الجمار المدر ولا شيء غير الحجر، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأى: يجوز بالطين اليابس، وكذلك كل شيء رماها من الأرض فهو يجزئ. وقال الثوري: من رمى بالخزف والمدر لم يعد الرمي. قال ابن المنذر: لا يجزئ الرمي إلا بالحصى، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «عليكم بحصى الخذف». وبالحصى. رمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرابعة عشرة: واختلف في قدر الحصى، فقال الشافعي: يكون أصغر من الأنملة طولا وعرضا. وقال أبو ثور وأصحاب الرأى: بمثل حصى الخذف، وروينا عن ابن عمر أنه كان يرمى الجمرة بمثل بعر الغنم، ولا معنى لقول مالك: أكبر من ذلك أحب إلى، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سن الرمي بمثل حصى الخذف، ويجوز أن يرمى بما وقع عليه اسم حصاة، واتباع السنة أفضل، قاله ابن المنذر. قلت: وهو الصحيح الذي لا يجوز خلافه لمن اهتدى واقتدى. روى النسائي عن ابن عباس قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداة العقبة وهو على راحلته: «هات القط لي- فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال-: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين». فدل قوله: «وإياكم والغلو في الدين»على كراهة الرمي بالجمار الكبار، وأن ذلك من الغلو، والله أعلم. الخامسة عشرة: ومن بقي في يده حصاة لا يدرى من أي الجمار هي جعلها من الأولى، ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال استأنف جميعا. السادسة عشرة: قال مالك والشافعي وعبد الملك وأبو ثور وأصحاب الرأى فيمن قدم جمرة على جمرة: لا يجزئه إلا أن يرمى على الولاء. وقال الحسن وعطاء وبعض الناس: يجزئه. واحتج بعض الناس بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج- وقال:- لا يكون هذا بأكثر من رجل اجتمعت عليه صلوات أو صيام فقضى بعضا قبل بعض». والأول أحوط، والله أعلم. السابعة عشرة: واختلفوا في رمى المريض والرمي عنه، فقال مالك: يرمى عن المريض والصبى اللذين لا يطيقان الرمي، ويتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات لكل جمرة وعليه الهدى، وإذا صح المريض في أيام الرمي رمى عن نفسه، وعليه مع ذلك دم عند مالك. وقال الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأى: يرمى عن المريض، ولم يذكروا هديا. ولا خلاف في الصبى الذي لا يقدر على الرمي أنه يرمى عنه، وكان ابن عمر يفعل ذلك. الثامنة عشرة: روى الدارقطني عن أبى سعيد الخدري قال قلنا: يا رسول الله، هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص، فقال: «إنه ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال». التاسعة عشرة: قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن لمن أراد الخروج من الحاج من منى شاخصا إلى بلده خارجا عن الحرم غير مقيم بمكة في النفر الأول أن ينفر بعد زوال الشمس إذا رمى في اليوم الذي يلي يوم النحر قبل أن يمسي، لأن الله جل ذكره قال: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فلينفر من أراد النفر ما دام في شيء من النهار. وقد روينا عن النخعي والحسن أنهما قالا: من أدركه العصر وهو بمنى من اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغد. قال ابن المنذر: وقد يحتمل أن يكونا قالا ذلك استحبابا، والقول الأول به نقول، لظاهر الكتاب والسنة. العشرين: واختلفوا في أهل مكة هل ينفرون النفر الأول، فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من شاء من الناس كلهم أن ينفروا في النفر الأول، إلا آل خزيمة فلا ينفرون إلا في النفر الآخر. وكان أحمد بن حنبل يقول: لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة، وقال: أهل مكة أخف، وجعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر بن الخطاب: إلا آل خزيمة أي أنهم أهل حرم. وكان مالك يقول في أهل مكة: من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين، فإن أراد التخفيف عن نفسه مما هو فيه من أمر الحج فلا، فرأى التعجيل لمن بعد قطره. وقالت طائفة: الآية على العموم، والرخصة لجميع الناس، أهل مكة وغيرهم، أراد الخارج عن منى المقام بمكة أو الشخوص إلى بلده. وقال عطاء: هي للناس عامة. قال ابن المنذر: وهو يشبه مذهب، الشافعي، وبه نقول. وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي: من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا، إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك. وقال علي بن أبى طالب وابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي أيضا: معنى من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له، واحتجوا بقوله عليه السلام: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه». فقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} نفى عام وتبرئة مطلقة. وقال مجاهد أيضا: معنى الآية، من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام المقبل. وأسند في هذا القول أثر. وقال أبو العالية في الآية: لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره، والحاج مغفور له البتة، أي ذهب إثمه كله إن اتقى الله فيما بقي من عمره. وقال أبو صالح وغيره: معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد، وما يجب عليه تجنبه في الحج. وقال أيضا: لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا. الحادية والعشرون: من في قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} رفع بالابتداء، والخبر {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم، لأن معنى من جماعة، كما قال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وكذا {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. واللام من قوله: {لِمَنِ اتَّقى} متعلقة بالغفران، التقدير المغفرة لمن اتقى، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلى. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي. وقال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى. وقال بعضهم: لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفى الحرم. وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى، روى هذا عن ابن عمر. وقيل: السلامة لمن اتقى. وقيل: هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا} أي الذكر لمن اتقى. وقرأ سالم بن عبد الله: {فلا أثم عليه} بوصل الألف تخفيفا، والعرب قد تستعمله. قال الشاعر: إن لم أقاتل فألبسوني برقعا *** ثم أمر الله تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} لما ذكر الذين قصرت همتهم على الدنيا- في قوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا}- والمؤمنين الذين سألوا خير الدارين ذكر المنافقين، لأنهم أظهروا الايمان وأسروا الكفر. قال السدى وغيره من المفسرين: نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبى، والأخنس لقب لقب به، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بنى زهرة عن قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما يأتي في آل عمران بيانه. وكان رجلا حلو القول والمنظر، فجاء بعد ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأظهر الإسلام وقال: الله يعلم أنى صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بزرع لقوم من المسلمين وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر. قال المهدوي: وفيه نزلت {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} و{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}. قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم. وقال ابن عباس: نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع: عاصم بن ثابت، وخبيب، وغيرهم، وقالوا: ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآية في صفات المنافقين، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ}. وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهى تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبى يغترون، وعلى يجترءون، فبى حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران. ومعنى: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} أي يقول: الله يعلم أنى أقول حقا. وقرأ ابن محيصن {ويشهد الله على ما في قلبه} بفتح الياء والهاء في يشهد {الله} بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال. دليله قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ}. وقراءة ابن عباس: {والله يشهد على ما في قلبه}. وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه. وقرأ أبيّ وابن مسعود {ويستشهد الله على ما في قلبه} وهي حجة لقراءة الجماعة. الثانية: قال علماؤنا: وفى هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله تعالى بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا. فإن قيل: هذا يعارضه قوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث، وقوله: «فأقضي له على نحو ما أسمع» فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأما وقد عم الفساد فلا، قاله ابن العربي. قلت: والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري: أيها الناس، إن الوحى قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شي، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ} الألد: الشديد الخصومة، وهو رجل ألد، وامرأة لداء، وهم أهل لدد. وقد لددت- بكسر الدال- تلد- بالفتح- لددا، أي صرت ألد. ولددته- بفتح الدال- ألده- بضمها- إذا جادلته فغلبته. والألد مشتق من اللديدين، وهما صفحتا العنق، أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب. قال الشاعر: وألدّ ذي حنق عليّ كأنما *** تغلي عداوة صدره في مرجل وقال آخر: إن تحت التراب عزما وحزما *** وخصيما ألدّ ذا مغلاق و{الخصام} في الآية مصدر خاصم، قاله الخليل. وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج، ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام. والمعنى أشد المخاصمين خصومة، أي هو ذو جدال، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل. وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم». | |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:14 am | |
| {وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)} وقوله تعالى: {وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها} قيل: {تَوَلَّى وسَعى} من فعل القلب، فيجيء {تَوَلَّى} بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه. و{سَعى} أي سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام واهلة، عن ابن جريج وغيره. وقيل: هما فعل الشخص، فيجيء {تَوَلَّى} بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد. و{سَعى} أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، عن ابن عباس وغيره. وكلا السعيين فساد. يقال: سعى الرجل يسعى سعيا، أي عدا، وكذلك إذا عمل وكسب. وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم. قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ} عطف على ليفسد. وفى قراءة أبى {وليهلك}. وقرأ الحسن وقتادة {ويهلك} بالرفع، وفى رفعه أقوال: يكون معطوفا على {يُعْجِبُكَ}. وقال أبو حاتم: هو معطوف على {سَعى} لان معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق: وهو يهلك. وروى عن ابن كثير {ويهلك} بفتح الياء وضم الكاف، {الحرث والنسل} مرفوعان بيهلك، وهى قراءة الحسن وابن أبى إسحاق وأبى حيوة وابن محيصن، ورواه عبد الوارث عن أبى عمرو. وقرأ قوم {ويهلك} بفتح الياء واللام، ورفع الحرث، لغة هلك يهلك، مثل ركن يركن، وأبى يأبى، وسلى يسلى، وقلى يقلى، وشبهه. والمعنى في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر، قاله الطبري. قال غيره: ولكنها صارت عامة لجميع الناس، فمن عمل مثل عمله استوجب تلك اللعنة والعقوبة. قال بعض العلماء: إن من يقتل حمارا أو يحرق كدسا استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة. وقال مجاهد: المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وقيل: الحرث النساء، والنسل الأولاد، وهذا لان النفاق يؤدى إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، قال معناه الزجاج. والسعى في الأرض المشي بسرعة، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس، والله أعلم. وفى الحديث: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده». وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض. والحرث: كسب المال وجمعه، وفى الحديث: «أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا». والحرث الزرع. والحراث الزراع. وقد حرث واحترث، مثل زرع وازدرع ويقال: أحرث القرآن، أي ادرسه. وحرثت الناقة وأحرثتها، أي سرت عليها حتى هزلت وحرثت النار حركتها. والمحراث: ما يحرك به نار التنور، عن الجوهري. والنسل: ما خرج من كل أنثى من ولد. وأصله الخروج والسقوط، ومنه نسل الشعر، وريش الطائر، والمستقبل ينسل، ومنه: {إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}، {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}. وقال امرؤ القيس: فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل *** قلت: ودلت الآية على الحرث وزراعة الأرض، وغرسها بالأشجار حملا على الزرع، وطلب النسل، وهو. نماء الحيوان، وبذلك يتم قوام الإنسان. وهو يرد على من قال بترك الأسباب، وسيأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} قال العباس بن الفضل: الفساد هو الخراب. وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض. وقال عطاء: إن رجلا كان يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينزعها. قال قتادة قلت لعطاء: إنا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد. قلت: والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قيل: معنى لا يحب الفساد أي لا يحبه من أهل الصلاح، أو لا يحبه دينا. ويحتمل أن يكون المعنى لا يأمر به، والله أعلم.
{وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)} هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا. وقال عبد الله: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، مثلك يوصيني! والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه. ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} وقيل: العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر: أخذته عزة من جهله *** فتولى مغضبا فعل الضجر وقيل: العزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتحى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إياه. وقال قتادة: المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية، والمعنى حملته العزة على الإثم. وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي ارتكب الكفر للعزة وحمية الجاهلية. ونظيره: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} وقيل: الباء في: {بِالْإِثْمِ} بمعنى اللام، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، ومنه قول عنترة يصف عرق الناقة: وكان ربا أو كحيلا معقدا *** حش الوقود به جوانب قمقم أي حش الوقود له. وقيل: الباء بمعنى مع، أي أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلات. وذكر أن يهوديا كانت له حاجة عند هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم يقض حاجته، فوقف يوما على الباب، فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا، فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت، فلما رجع قيل له: يا أمير المؤمنين، نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال: لا، ولكن تذكرت قول الله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ}. حسبه أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك! وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل. والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبى. وسمي جهنم مهادا لأنها مستقر الكفار. وقيل: لأنها بدل لهم من المهاد، كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} ونظيره من الكلام قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع ***
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)} ابْتِغاءَ نصب على المفعول من أجله. ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين. قيل: نزلت في صهيب فإنه أقبل مهاجرا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، واخذ قوسه، وقال: لقد علمتم أنى من أرماكم، وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمى بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شي، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلى عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ} الآية، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ربح البيع أبا يحيى»، وتلا عليه الآية، أخرجه رزين، وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما. وقال المفسرون: أخذ المشركون صهيبا فعذبوه، فقال لهم صهيب: إنى شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالى وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى. فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر، فما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية. وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية، نزلت في المسلم لقى الكافر فقال له: قل لا إله إلا الله، فإذا قلتها عصمت مالك ونفسك، فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لاشرين نفسي لله، فتقدم فقاتل حتى قتل. وقيل: نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وعلى ذلك تأولها عمر وعلى وابن عباس رضي الله عنهم، قال على وابن عباس: اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله وقاتله فاقتتلا. وقال أبو الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. وقيل: إن عمر سمع ابن عباس يقول: اقتتل الرجلان عند قراءة القارئ هذه الآية، فسأله عما قال ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر، لله تلادك يا ابن عباس! وقيل: نزلت فيمن يقتحم القتال. حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ}، ومثله عن أبى أيوب. وقيل: نزلت في شهداء غزوة الرجيع. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار. وقيل: نزلت في على رضي الله عنه حين تركه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فراشه ليلة خرج إلى الغار، على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى. وقيل: الآية عامة، تتناول كل مجاهد في سبيل الله، أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر. وقد تقدم حكم من حمل على الصف، ويأتي ذكر المغير للمنكر وشروطه وأحكامه في آل عمران إن شاء الله تعالى. و{يَشْرِي} معناه يبيع، ومنه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي باعوه، وأصله الاستبدال، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}. ومنه قول الشاعر: وإن كان ريب الدهر أمضاك في الأولى *** شروا هذه الدنيا بجناته الخلد وقال آخر: وشريت بردا ليتني *** من بعد برد كنت هامه البرد هنا اسم غلام. وقال آخر: يعطى بها ثمنا فيمنعها *** ويقول صاحبها ألا فأشر وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله. {ابْتِغاءَ} مفعول من أجله. ووقف الكسائي على {مَرْضاتِ} بالتاء، والباقون بالهاء. قال أبو على: وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول: طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر: بل جوز تيهاء كظهر الحجفت *** وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد. والمرضاة الرضا، يقال: رضى يرضى رضا ومرضاة. وحكى قوم أنه يقال: شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال: إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله. فيستقيم اللفظ على معنى باع. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مجاهد، ورواه أبو مالك عن ابن عباس. ومنه قول الشاعر الكندي: دعوت عشيرتي للسلم لما *** رأيتهم تولوا مدبرينا أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الأشعث بن قيس الكندي، ولان المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، قاله الطبري. وقيل: أمر من آمن بأفواههم أن يدخلوا فيه بقلوبهم. وقال طاوس ومجاهد: ادخلوا في أمر الدين. سفيان الثوري: في أنواع البر كلها. وقرئ {السلم} بكسر السين. قال الكسائي: السلم والسلم بمعنى واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة. وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما، فقرأها هنا: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} وقال هو الإسلام. وقرأ التي في الأنفال والتي في سورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {السلم} بفتح السين، وقال: هي بالفتح المسالمة. وأنكر المبرد هذه التفرقة. وقال عاصم الجحدري: السلم الإسلام، والسلم الصلح، والسلم الاستسلام. وأنكر محمد بن يزيد هذه التفريقات وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس، ويحتاج من فرق إلى دليل. وقد حكى البصريون: بنو فلان سلم وسلم وسلم، بمعنى واحد. قال الجوهري: والسلم الصلح، يفتح ويكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد، ولذلك قيل للصلح: سلم. قال زهير: وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا *** بمال ومعروف من الأمر نسلم ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام بما تقدم. وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية: الإسلام ثمانية أسهم، الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والامر بالمعروف سهم، والنهى عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافة. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بى أحد من هذه الامة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». و{كافة} معناه جميعا، فهو نصب على الحال من السلم أو من ضمير المؤمنين، وهو مشتق من قولهم: كففت أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام. والكف المنع، ومنه كفة القميص- بالضم- لأنها تمنع الثوب من الانتشار، ومنه كفة الميزان- بالكسر- التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر، ومنه كف الإنسان الذي يجمع منافعه ومضاره، وكل مستدير كفة، وكل مستطيل كفة. ورجل مكفوف البصر، أي منع عن النظر، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق. وَلا تَتَّبِعُوا نهى. خُطُواتِ الشَّيْطانِ مفعول، وقد تقدم. وقال مقاتل: استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرءوا التوراة في الصلاة، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فنزلت {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} فإن اتباع السنة أولى بعد ما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خطوات الشيطان. وقيل: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، وقد تقدم.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي تنحيتم عن طريق الاستقامة. واصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه. وقرأ أبو السمال العدوى {زللتم} بكسر اللام، وهما لغتان. واصل الحرف، من الزلق، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين فالبينات ما ورد في شرعهم من الاعلام بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتعريف به. وفى الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع. وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه {فاعلموا أن الله غفور رحيم} فقال كعب: إنى لاستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقال الرجل: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال كعب: هكذا ينبغي. وعَزِيزٌ لا يمتنع عليه ما يريده. حَكِيمٌ فيما يفعله. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} هَلْ يَنْظُرُونَ يعني التاركين الدخول في السلم، و{هَلْ} يراد به هنا الجحد، أي ما ينتظرون: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ}. نظرته وانتظرته بمعنى. والنظر الانتظار. وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع والضحاك {في ظلال من الغمام}. وقرأ أبو جعفر {والملائكة} بالخفض عطفا على الغمام، وتقديره مع الملائكة، تقول العرب: أقبل الأمير في العسكر، أي مع العسكر. {ظلل} جمع ظلة في التكسير، كظلمة وظلم وفى التسليم ظللات، وأنشد سيبويه: إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها *** سواقط من حر وقد كان أظهرا وظلات وظلال، جمع ظل في الكثير، والقليل أظلال. ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلة، مثل قوله: قلة وقلال، كما قال الشاعر: ممزوجة بماء القلال *** قال الأخفش سعيد: و{الملائكة} بالخفض بمعنى وفى الملائكة. قال: والرفع أجود، كما قال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}. قال الفراء: وفى قراءة عبد الله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام}. قال قتادة: الملائكة يعني تأتيهم لقبض أرواحهم، ويقال يوم القيامة، وهو أظهر. قال أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتيهم الله فيما شاء. وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة. وقيل: ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه. وقيل: أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل: {فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي بخذلانه إياهم، هذا قول الزجاج، والأول قول الأخفش سعيد. وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}. وقال في قصة النضير: {فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}، وقال: {وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها}. وإنما احتمل الإتيان هذه المعاني لان أصل الإتيان عند أهل اللغة هو القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الافعال مع خلق من خلقه يقصد إلى مجازاتهم ويقضى في أمرهم ما هو قاض، وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه! وقال ابن عباس في رواية أبى صالح: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا. وقيل: الفاء بمعنى الباء، أي يأتيهم بظلل، ومنه الحديث: «يأتيهم الله في صورة» أي بصورة امتحانا لهم. ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال، لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا. والغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمى بذلك لأنه يغم، أي يستر، كما تقدم. وقرأ معاذ بن جبل {وقضاء الأمر}. وقرأ يحيى بن يعمر {وقضى الأمور} بالجمع. والجمهور {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فالمعنى وقع الجزاء وعذب أهل العصيان. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {ترجع الأمور} على بناء الفعل للفاعل، وهو الأصل، دليله {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}. وقرأ الباقون {تُرْجَعُ} على بنائه للمفعول، وهى أيضا قراءة حسنة، دليله {ثُمَّ تُرَدُّونَ}، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ}، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي} والقراءتان حسنتان بمعنى، والأصل الأولى، وبناؤه للمفعول توسع وفرع، والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد. وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا. | |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:16 am | |
|
{سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)} قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} {سَلْ} من السؤال: بتخفيف الهمزة، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في: {سَلْ} وثبوتها في واسئل وجهين: أحدهما- حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما، فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها. والوجه الثاني- أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ}، وقوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ}. وثبت في العطف، مثل قول: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، {وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه اسأل على الأصل. وقرأ قوم أسل على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال: الأحمر. وكَمْ في موضع نصب، لأنها مفعول ثان لآتيناهم. وقيل: بفعل مضمر، تقديره كم آتينا آتيناهم. ولا يجوز أن يتقدمها الفعل لان لها صدر الكلام. {مِنْ آيَةٍ} في موضع نصب على التمييز على التقدير الأول، وعلى الثاني مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في آتيناهم، ويصير فيه عائد على كم، تقديره: كم آتيناهموه، ولم يعرب وهى اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيه معنى الاستفهام، وإذا فرقت بين كم وبين الاسم كان الاختيار أن تأتى بمن كما في هذه الآية، فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال الشاعر: كم بجود مقرف نال العلا *** وكريم بخله قد وضعه والمراد بالآية كم جاءهم في أمر محمد عليه السلام من آية معرفة به دالة عليه. قال مجاهد والحسن وغيرهما: يعني الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك. وأمر الله تعالى نبيه بسؤالهم على جهة التقريع لهم والتوبيخ. قوله تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ} لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بنى إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى. وقال الطبري: النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول. ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش، فإن بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا. قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} خبر يتضمن الوعيد. والعقاب مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشى بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر. فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب، وقد عاقبه بذنبه.
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)} قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا} على ما لم يسم فاعله. والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس: وهى قراءة شاذة، لأنه لم يتقد للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبى عبلة {زينت} بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي، والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها. وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا. قوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} إشارة إلى كفار قريش، فإنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن جريج: في طلبهم الآخرة. وقيل: لفقرهم وإقلالهم، كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، رضي الله عنهم، فنبه سبحانه على خفض منزلتهم لقبيح فعلهم بقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وروى على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره وقلة ذات يده شهره الله يوم القيامة ثم فضحه ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى على تل من نار يوم القيامة حتى يخرج مما قال فيه وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرب وليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده». ثم قيل: معنى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي في الدرجة، لأنهم في الجنة والكفار في النار. ويحتمل أن يراد بالفوق المكان، من حيث إن الجنة في السماء، والنار في أسفل السافلين. ويحتمل أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاص بن وائل، قال خباب: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال فقلت له: إنى لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، الحديث. وسيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى. ويقال: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه، كل ذلك يقال، حكاه الأخفش. والاسم السخرية والسخرى والسخرى، وقرئ بهما قوله تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} وقوله: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا}. ورجل سخرة. يسخر منه، وسخرة- بفتح الخاء- يسخر من الناس. وفلان سخرة يتسخر في العمل، يقال: خادمه سخرة، وسخره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} قال الضحاك: يعني من غير تبعة في الآخرة. وقيل: هو إشارة إلى هؤلاء المستضعفين، أي يرزقهم علو المنزلة، فالآية تنبيه على عظيم النعمة عليهم. وجعل رزقهم بغير حساب من حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينفد. وقيل. إن قوله: {بِغَيْرِ حِسابٍ} صفة لرزق الله تعالى كيف يصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، والذي بحساب ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: {جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً}. والله أعلم. ويحتمل أن يكون المعنى بغير احتساب من المرزوقين، كما قال: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
{كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} قوله تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} أي على دين واحد. قال أبى بن كعب، وابن زيد: المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية. قال مجاهد: الناس آدم وحده، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل. وقيل: آدم وحواء. وقال ابن عباس وقتادة: المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهى عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحا فمن بعده. وقال ابن أبى خيثمة: منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة. وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة. وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة، متمسكين بالدين، تصافحهم الملائكة، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا. وهذا فيه نظر، لأن إدريس بعد نوح على الصحيح. وقال قوم منهم الكلبي والواقدي: المراد نوح ومن في السفينة، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا. وقال ابن عباس أيضا: كانوا أمة واحدة على الكفر، يريد في مدة نوح حين بعثه الله. وعنه أيضا: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة، كلهم كفار، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين. فـ {كان} على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضى. وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا فبعث، ودل على هذا الحذف: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى. وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم. ويحتمل أن تكون {كانَ} للثبوت، والمراد الاخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص {كانَ} على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}. و{أُمَّةً} مأخوذة من قولهم: أممت كذا، أي قصدته، فمعنى: {أُمَّةً} مقصدهم واحد، ويقال للواحد: أمة، أي مقصده غير مقصد الناس، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قس بن ساعدة: «يحشر يوم القيامة أمة وحده». وكذلك قال في زيد بن عمر وابن نفيل. والامة القامة، كأنها مقصد سائر البدن. والامة بالكسر: النعمة، لأن الناس يقصدون قصدها. وقيل: إمام، لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل، عن النحاس. وقرأ أبي بن كعب: {كان البشر أمة واحدة} وقرأ ابن مسعود {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث}. قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر، وأول الرسل آدم، على ما جاء في حديث أبى ذر، أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي. وقيل: نوح، لحديث الشفاعة، فإن الناس يقولون له: أنت أول الرسل. وقيل: إدريس، وسيأتي بيان هذا في الأعراف إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} نصب على الحال. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ اسم جنس بمعنى الكتب. وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة. ولِيَحْكُمَ مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو نصب بإضمار أن، أي لان يحكم، وهو مجاز مثل: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}. وقيل: أي ليحكم كل نبى بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب. وقراءة عاصم الجحدري {ليحكم بين الناس} على ما لم يسم فاعله، وهى قراءة شاذة، لأنه قد تقدم ذكر الكتاب. وقيل: المعنى ليحكم الله، والضمير في: {فِيهِ} عائد على ما من قوله: {فِيمَا} والضمير في: {فِيهِ} الثانية يحتمل أن يعود على الكتاب، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه. موضع {الَّذِينَ} رفع بفعلهم. و{أُوتُوهُ} بمعنى أعطوه. وقيل: يعود على المنزل عليه، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله الزجاج. أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} نصب على المفعول له، أي لم يختلفوا إلا للبغي، وقد تقدم معناه. وفى هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي واقعوه. و{فَهَدَى} معناه أرشد، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم. وقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها. وقالت طائفة: إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين، من قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا. وقال ابن زيد وزيد بن أسلم: من قبلتهم، فإن اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد» ومن صيامهم، ومن جميع ما اختلفوا فيه. وقال ابن زيد: واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبد الله. وقال الفراء: هو من المقلوب- واختاره الطبري- قال: وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه. قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه، لأن قوله: {فَهَدَى} يقتضى أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: {فِيهِ} وتبين بقوله: {مِنَ الْحَقِّ} جنس ما وقع الخلاف فيه، قال المهدوي: وقدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف. قال ابن عطية: وليس هذا عندي بقوى. وفى قراءة عبد الله بن مسعود {لما اختلفوا عنه من الحق} أي عن الإسلام. و{بِإِذْنِهِ} قال الزجاج: معناه بعلمه. قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} رد على المعتزلة في قولهم: إن العبد يستبد بهداية نفسه.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:17 am | |
| {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} {حَسِبْتُمْ} معناه ظننتم. قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ}. وقيل: نزلت في حرب أحد، نظيرها- في آل عمران- {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}. وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسر قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم {أَمْ حَسِبْتُمْ}. و{أَمْ} هنا منقطعة، بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجئ بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها، و{حَسِبْتُمْ} تطلب مفعولين، فقال النحاة: {أَنْ تَدْخُلُوا} تسد مسد المفعولين. وقيل: المفعول الثاني محذوف: أحسبتم دخولكم الجنة واقعا. و{لَمَّا} بمعنى لم. و{مَثَلُ} معناه شبه، أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا. وحكى النضر بن شميل أن {مَثَلُ} يكون بمعنى صفة، ويجوز أن يكون المعنى: ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم، أي من البلاء. قال وهب: وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيا موتى، كان سبب موتهم الجوع والقمل، ونظير هذه الآية {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} على ما يأتي، فاستدعاهم تعالى إلى الصبر، ووعدهم على ذلك بالنصر فقال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. والزلزلة: شدة التحريك، تكون في الاشخاص وفى الأحوال، يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا- بالكسر- فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، فمعنى: {زُلْزِلُوا} خوفوا وحركوا. والزلزال- بالفتح- الاسم. والزلازل: الشدائد. وقال الزجاج: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه. ومذهب سيبويه أن زلزل رباعي كدحرج. وقرأ نافع {حتى يقول} بالرفع، والباقون بالنصب. ومذهب سيبويه في: {حتى} أن النصب فيما بعدها من جهتين والرفع من جهتين، تقول: سرت حتى أدخل المدينة- بالنصب- على أن السير والدخول جميعا قد مضيا، أي سرت إلى أن أدخلها، وهذه غاية، وعليه قراءة من قرأ بالنصب. والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها، أي كي أدخلها. والوجهان في الرفع سرت حتى أدخلها، أي سرت فأدخلها، وقد مضيا جميعا، أي كنت سرت فدخلت. ولا تعمل حتى هاهنا بإضمار أن، لأن بعدها جملة، كما قال الفرزدق: فيا عجبا حتى كليب تسبني *** قال النحاس: فعلى هذا القراءة بالرفع أبين وأصح معنى، أي وزلزلوا حتى الرسول يقول، أي حتى هذه حاله، لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها، والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى. والرسول هنا شعيا في قول مقاتل، وهو اليسع. وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال: متى نصر الله؟. وروى عن الضحاك قال: يعنى، محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه يدل نزول الآية، والله أعلم. والوجه الآخر في غير الآية سرت حتى أدخلها، على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن. وحكى سيبويه: مرض حتى لا يرجونه، أي هو الآن لا يرجى، ومثله سرت حتى أدخلها لا أمنع. وبالرفع قرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن وشيبة. وبالنصب قرأ الحسن وأبو جعفر وابن أبى إسحاق وشبل وغيرهم. قال مكي: وهو الاختيار، لأن جماعة القراء عليه. وقرأ الأعمش {وزلزلوا ويقول الرسول} بالواو بدل حتى. وفى مصحف ابن مسعود {وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول}. وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، أي بلغ الجهد بهم حتى استبطئوا النصر، فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب. والرسول اسم جنس. وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان. قال ابن عطية: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. ويحتمل أن يكون {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول. قوله تعالى: {مَتى نَصْرُ اللَّهِ} رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبى العباس رفع بفعل، أي متى يقع نصر الله. و{قَرِيبٌ} خبر {أَنْ}. قال النحاس: ويجوز في غير القرآن قريبا أي مكانا قريبا. وقريب لا تثنيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى، قال الله عز وجل: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. وقال الشاعر: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم *** قريب ولا بسباسة بنة يشكرا فإن قلت: فلان قريب لي ثنيت وجمعت، فقلت: قريبون وأقرباء وقرباء.
{يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ} إن خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحتها وحذفت الهمزة فقلت: يسلونك. ونزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا فقال: يا رسول الله، إن مالى كثير، فبما ذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت {يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ}. الثانية: قوله تعالى: {ماذا يُنْفِقُونَ} ما في موضع رفع بالابتداء، وذا الخبر، وهو بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي ما الذي ينفقونه، وإن شئت كانت ما في موضع نصب ب ينفقون وذا مع ما بمنزلة شيء واحد ولا يحتاج إلى ضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء في قول الشاعر: وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا *** سوى أن يقولوا إننى لك عاشق فإن عسى لا تعمل فيه، فلماذا في موضع رفع وهو مركب، إذ لا صلة لذا. الثالثة: قيل: إن السائلين هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، وأين يضعون ما لزم إنفاقه. قال السدى: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة. قال ابن عطية: ووهم المهدوي على السدى في هذا، فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان. وقال ابن جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهى مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغنى أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك. قال مالك، ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغنى عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام. الرابعة: قوله تعالى: {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ} {ما} في موضع نصب ب {أنفقتم} وكذا {وَما تُنْفِقُوا} وهو شرط والجواب {فَلِلْوالِدَيْنِ}، وكذا {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} شرط، وجوابه {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وقد مضى القول في اليتيم والمسكين وابن السبيل. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. وقرأ علي بن أبى طالب {يفعلوا} بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهى تتضمن الوعد بالمجازاة.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {كُتِبَ} معناه فرض، وقد تقدم مثله. وقرأ قوم {كتب عليكم القتل}، وقال الشاعر: كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول هذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة. والمراد بالقتال قتال الاعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ثم أذن له في قتال المشركين عامة. واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، فكان القتال مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنما كتب على أولئك. وقال الجمهور من الامة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته. وقال سعيد بن المسيب: إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي. قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين، وسيأتي هذا مبينا في سورة براءة إن شاء الله تعالى. وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع. قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع. الثانية: قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع. قال ابن عرفة: الكره المشقة، والكره- بالفتح- ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها. وإنما كان الجهاد كرها لان فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الاطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لان امتثال الامر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات. قلت: ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق. الثالثة: قوله تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً} قيل: {عسى} بمعنى قد، قاله الأصم. وقيل: هي واجبة. و{عسى} من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ}. وقال أبو عبيدة: {عسى} من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم. قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأى بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير: رب أمر تتقيه *** جر أمرا ترتضيه خفى المحبوب منه *** وبدا المكروه فيه
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:19 am | |
| {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} فيه اثنتا عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ} تقدم القول فيه. وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}، {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ}، {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى}، ما كانوا يسألونك إلا عما ينفعهم. قال ابن عبد البر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. وروى أبو اليسار عن جندب بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: ولا تكرهن أصحابك على المسير، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله، قال: فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ} الآية. وروى أن سبب نزولها أن رجلين من بنى كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت الآية. والقول بأن نزولها في قصة عبد الله بن جحش أكثر وأشهر، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه مع تسعة رهط، وقيل ثمانية، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين، وقيل في رجب. قال أبو عمر- في كتاب الدرر له-: ولما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طلب كرز بن جابر- وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى: أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب، وبعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبى وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وخالد بن بكير الليثي. وكتب لعبد الله بن جحش كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع. فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونهضوا معه، فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي- واسم الحضرمي عبد الله بن عباد من الصدف، والصدف بطن من حضرموت- وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل ابن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بنى المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام: وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقال لهم عبد الله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففعلوا، فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش ورضيه وسنة للامة إلى يوم القيامة، وهى أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل. وأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ} إلى قوله: {هُمْ فِيها خالِدُونَ}. وقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين. وقيل: إن انطلاق سعد بن أبى وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبد الله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هابوهم، فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث. وتفاءلت اليهود وقالوا: واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال: لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فأداهما، فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بالثمن، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية» فهذا سبب نزول قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ}. وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب، على ما تقدم. وذكر الطبري عن السدى وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى. قال ابن عطية: وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالاسدية أن عبد الله بن جحش سمى أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين. الثانية: واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح. واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}. وقيل: نسخها غزو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام. وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذى القعدة، وهذا ضعيف، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ} الآية، قال: فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى. الثالثة: قوله تعالى: {قِتالٍ فِيهِ} {قتال} بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القتبي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه: فما كان قيس هلكه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما وقرأ عكرمة {يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل} بغير ألف فيهما. وقيل: المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه، وهكذا قرأ ابن مسعود، فيكون مخفوضا بعن على التكرير، قاله الكسائي. وقال الفراء: هو مخفوض على نية عن. وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان: جحرا ضب خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها. قال ابن عطية: وقال أبو عبيدة: هو خفض على الجوار، وقوله هذا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل. وقرأ الأعرج {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} بالرفع. قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه؟ فقوله: {يَسْئَلُونَكَ} يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس: أصاح ترى برقا أريك وميضه *** كلمع اليدين في حبى مكلل والمعنى: أترى برقا، فحذف ألف الاستفهام، لأن الألف التي في أصاح تدل عليها وإن كانت حرف نداء، كما قال الشاعر: تروح من الحي أم تبتكر *** والمعنى: أتروح، فحذف الألف لان أم تدل عليها. الرابعة: قوله تعالى: {قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ابتداء وخبر، أي مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين. والشهر في الآية اسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد. وسيأتي لهذا مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى. الخامسة: قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ابتداء {وَكُفْرٌ بِهِ} عطف على صد {وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} عطف على سبيل الله {وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عطف على صد، وخبر الابتداء {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، قاله المبرد وغيره. وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. {وَكُفْرٌ بِهِ} أي بالله، وقيل: {وَكُفْرٌ بِهِ} أي بالحج والمسجد الحرام. {وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقال الفراء: صَدٌّ عطف على {كَبِيرٌ}. {والْمَسْجِدِ} عطف على الهاء في: {بِهِ}، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} أي بالله عطف أيضا على {كَبِيرٌ}، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أكبر جرما عند الله. وقال عبد الله بن جحش رضي الله عنه: تعدون قتلا في الحرام عظيمة *** وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد *** وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله *** لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن غيرتمونا بقتله *** وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا *** بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا *** ينازعه غل من القد عاند وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: {قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخ بقوله: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} وبقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. وقال عطاء: لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم، وقد تقدم. السادسة: قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك. وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام. السابعة: قوله تعالى: {وَلا يَزالُونَ} ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة. قال مجاهد: يعني كفار قريش. و{يَرُدُّوكُمْ} نصب بحتى، لأنها غاية مجردة. الثامنة: قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ} أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر {فَأُولئِكَ حَبِطَتْ} أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلا فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. التاسعة: واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر؟ وهل يورث أم لا؟ فهذه ثلاث مسائل: الأولى: قالت طائفة: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم: ساعة واحدة. وقال آخرون: يستتاب شهرا. وقال آخرون: يستتاب ثلاثا، على ما روى عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم. وقال الحسن: يستتاب مائة مرة، وقد روى عنه أنه يقتل دون استتابة، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير. وذكر سحنون أن عبد العزيز بن أبى سلمة الماجشون كان يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب، واحتج بحديث معاذ وأبى موسى، وفيه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس. قال: نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله- ثلاث مرات- فأمر به فقتل، خرجه مسلم وغيره. وذكر أبو يوسف عن أبى حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب. والزنديق عندهم والمرتد سواء. وقال مالك: وتقتل الزنادقة ولا يستتابون. وقد مضى هذا أول البقرة. واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه يقتل، لقوله عليه السلام: «من بدل دينه فاقتلوه» ولم يخص مسلما من كافر. وقال مالك: معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة من الفقهاء. والمشهور عن الشافعي ما ذكره المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الامام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد. واختلفوا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه». ومن يصلح للذكر والأنثى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول ابن شبرمة، وإليه ذهب ابن علية، وهو قول عطاء والحسن. واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من بدل دينه فاقتلوه» ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروى عن على مثله. ونهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان. واحتج الأولون بقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان...» فعم كل من كفر بعد إيمانه، وهو أصح. العاشرة: قال الشافعي: إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه، لأن عمله باق. واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. قالوا: وهو خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا. وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طريق التغليظ على الامة، وبيان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يتصور إتيان منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم، ابن العربي. وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطا هاهنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لامته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكل هتك حرمة عقاب، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات. والله أعلم. الحادية عشرة: وهى اختلاف العلماء في ميراث المرتد، فقال علي بن أبى طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين. وقال مالك وربيعة وابن أبى ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال. وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو في، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين، ومطلق قوله عليه السلام: «لا وراثة بين أهل ملتين» يدل على بطلان قولهم. وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبد العزيز فإنه قال: يرثونه. الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا} الآية. قال جندب ابن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفى الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل. وقيل: أن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا} إلى آخر الآية. والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني. والهجر ضد الوصل. وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية. والتهاجر التقاطع. ومن قال: المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله. {وَجاهَدُوا} مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود. والجهاد بالفتح: الأرض الصلبة. {وَيَرْجُونَ} معناه يطمعون ويستقربون. وإنما قال: {يَرْجُونَ} وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين: أحدهما- لا يدرى بما يختم له. والثاني- لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء. والرجاء من الأمل ممدود، يقال: رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاؤه، يقال: ما أتيتك إلا رجاؤه الخير. وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته، قال بشر يخاطب بنته: فرجي الخير وانتظري إيابي *** إذا ما القارظ العنزي آبا وما لي في فلان رجيه، أي ما أرجو. وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى: {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً} أي لا تخافون عظمة الله، قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عوامل أي لم يخف ولم يبال. والرجا- مقصور-: ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا. والعوام من الناس يخطئون في قولهم: يا عظيم الرجا، فيقصرون ولا يمدون.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:20 am | |
| {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}. فيه تسع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ} السائلون هم المؤمنون، كما تقدم. والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه: «خمروا آنيتكم» فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم لأنه يغطى ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر: ألا يا زيد والضحاك سيرا *** فقد جاوزتما خمر الطريق أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره. وقال العجاج يصف جيشا يمشي برايات وجيوش غير مستخف: في لامع العقبان لا يمشى الخمر *** يوجه الأرض ويستاق الشجر ومنه قولهم: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه. وخمر الرأى، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهى المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر. والخمر: ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام. وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها. الثانية: والجمهور من الامة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبى ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في المائدة والنحل إن شاء الله تعالى. الثالثة: قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الامة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر. وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} ثم قوله: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ثم قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ} على ما يأتي بيانه في المائدة. الرابعة: قوله تعالى: {وَالْمَيْسِرِ} الميسر: قمار العرب بالأزلام. قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله واهلة، فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية ابن صالح وطاوس وعلى بن أبى طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق، على ما يأتي. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه. قال علي بن أبى طالب: الشطرنج ميسر العجم. وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء. وسيأتي في يونس زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى. والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا. والياسر: اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر: فأعنهم وأيسر بما يسروا به *** وإذا هم نزلوا بضنك فانزل وقال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك. وفى الصحاح: ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعي: أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني *** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. ويقال: يسر القوم إذا قامروا. ورجل يسر وياسر بمعنى. والجمع أيسار، قال النابغة: أنى أتمم أيساري وأمنحهم *** مثنى الايادي وأكسو الجفنة الأدما وقال طرفة: وهم أيسار لقمان إذا *** أغلت الشتوة إبداء الجزر وكان من تطوع بنحرها ممدوحا عندهم، قال الشاعر: وناجية نحرت لقوم صدق *** وما ناديت أيسار الجزور الخامسة: روى مالك في الموطأ عن داود بن حصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين، وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد، حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا، فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظباء والوعول وسائر الوحوش، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه، لأنه عنده من باب المزابنة، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشيرج بالسمسم، ونحو ذلك. والطير عنده كله جنس واحد، وكذلك الحيتان من سمك وغيره. وروى عنه أن الجراد وحده صنف. وقال الشافعي وأصحابه والليث ابن سعد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين، على عموم الحديث. وروى عن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. قال الشافعي: ولست أعلم لابي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة. قال أبو عمر: قد روى عن ابن عباس أنه أجاز بيع الشاة باللحم، وليس بالقوى. وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كره أن يباع حي بميت، يعني الشاة المذبوحة بالقائمة. قال سفيان: ونحن لا نرى به بأسا. قال المزني: إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز، وإن صح بطل القياس واتبع الأثر. قال أبو عمر: وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والاعتبار، إلا أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو عمر: ولا أعلمه يتصل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب على ما ذكره مالك في موطئة، وإليه ذهب الشافعي، وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلا أنه زعم أنه افتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحا. فكره بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه، لأنه لم يأت أثر يخصه ولا إجماع. ولا يجوز عنده أن يخص النص بالقياس. والحيوان عنده اسم لكل ما يعيش في البر والماء وإن اختلفت أجناسه، كالطعام الذي هو اسم لكل مأكول أو مشروب، فاعلم. السادسة: قوله تعالى: {قُلْ فِيهِما} يعني الخمر والميسر {إِثْمٌ كَبِيرٌ} إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله، إلى غير ذلك. روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إنى والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقينى من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الايمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه، وذكره أبو عمر في الاستيعاب. وروى أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهى عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال: أما هذا فإنى لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، وراي القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول: رأيت الخمر صالحة وفيها *** خصال تفسد الرجل الحليما فلا والله أشربها صحيحا *** ولا أشفي بها أبدا سقيما ولا أعطي بها ثمنا حياتي *** ولا أدعو لها أبدا نديما فإن الخمر تفضح شاربيها *** وتجنيهم بها الأمر العظيما قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لابي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروى عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها وجلده عمر الحد عليها مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه، وكان أحد الشجعان البهم، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبدا. قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فلم يشربها بعد ذلك. وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام على الحد وأطهر منها، وأما إذ بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا. وذكر الهيثم بن عدى أنه أخبره من رأى قبر أبى محجن باذر بيجان، أو قال: في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهى معروشة على قبره، ومكتوب على القبر هذا قبر أبى محجن قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله: إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه، حتى رئي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورئي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله. وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل. السابعة: قوله تعالى: {وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} أما في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشترى طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي. هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها: إنها تهضم الطعام، وتقوى الضعف، وتعين على الباه، وتسخى البخيل، وتشجع الجبان، وتصفى اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها. وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: ونشربها فتتركنا ملوكا *** وأسدا ما ينهنهنا اللقاء إلى غير ذلك من أفراحها. وقال آخر: فإذا شربت فإنني *** رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني *** رب الشويهة والبعير ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخرا كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شي. وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين. وسهام الميسر أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهى: الفذ وفيه علامة واحدة له نصيب وعليه نصيب إن خاب. الثاني- التوأم وفيه علامتان وله وعليه نصيبان. الثالث- الرقيب وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا. الرابع- الحلس وله أربع. الخامس- النافز والنافس أيضا وله خمس. السادس: المسبل وله ست. السابع- المعلى وله سبع. فذلك ثمانية وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي. وبقي من السهام أربعة، وهى الاغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهى: المصدر والمضعف والمنيح والسفيح. وقيل: الباقية الاغفال الثلاثة: السفيح والمنيح والوغد تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا. ويسمى المجيل المفيض والضارب والضريب والجمع الضرباء. وقيل: يجعل خلفه رقيب لئلا يحابى أحدا، ثم يجثو الضريب على ركبتيه، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل يده في الربابة فيخرج. وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السهام في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، يشترى الجزور ويضمن الإيسار ثمنها ويرضى صاحبها من حقه، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمونه البرم قال متمم بن نويرة: ولا برما تهدى النساء لعرسه *** إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام. قال ابن عطية: وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسما، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء. والربابة بكسر الراء: شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر، وربما سموا جميع السهام ربابة، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه: وكأنهن ربابة وكأنه *** يسر يفيض على القداح ويصدع والربابة أيضا: العهد والميثاق، قال الشاعر: وكنت آمرا أفضت إليك ربابتي *** وقبلك ربتني فضعت ربوب وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه، كما تقدم. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى: المطعمو الضيف إذا ما شتوا *** والجاعلو القوت على الياسر ومنه قول الآخر: بأيديهم مقرومة ومغالق *** يعود بأرزاق العفاة منيحها والمنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح. وأما المنيح الذي هو أحد الاغفال فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد الأخطل بقوله: ولقد عطفن على فزارة عطفة *** كر المنيح وجلن ثم مجالا وفي الصحاح: والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئا. ومن الميسر قول لبيد: إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم *** فواحش ينعى ذكرها بالمصائف فهذا كله نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل. الثامنة: قوله تعالى: {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم. وقرأ حمزة والكسائي {كثير} بالثاء المثلثة، وحجتهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها. وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام. و{كثير} بالثاء المثلثة يعطى ذلك. وقرأ باقى القراء وجمهور الناس {كَبِيرٌ} بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق. وأيضا فاتفاقهم على {أَكْبَرُ} حجة ل {كَبِيرٌ} بالباء بواحدة. وأجمعوا على رفض {أكثر} بالثاء المثلثة، إلا في مصحف عبد الله بن مسعود فإن فيه {قل فيهما إثم كثير} {وإثمهما أكثر} بالثاء مثلثة في الحرفين. التاسعة: قال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية، لأن الله تعالى قد قال: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ} فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام. قال ابن عطية: ليس هذا النظر بجيد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر. قلت: وقال بعضهم: في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ} وقال بعضهم: الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم يذهب بالعقول قلت: وهذا أيضا ليس بجيد، لأن الله تعالى لم يسم الخمر إثما في هذه الآية، وإنما قال: {قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ} ولم يقل: قل هما إثم كبير. وأما آية الأعراف وبئت الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبينا، إن شاء الله تعالى. وقد قال قتادة: إنما في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهى آية المائدة وعلى هذا أكثر المفسرين. قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} قراءة الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير. وبالرفع قراءة الحسن وقتادة وابن أبى إسحاق. قال النحاس وغيره: إن جعلت ذا بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى: الذي ينفقون هو العفو، وجاز النصب. وإن جعلت ما وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب، على معنى: قل ينفقون العفو، وجاز الرفع. وحكى النحويون: ماذا تعلمت: أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان، إلا أن التفسير في الآية على النصب. الثانية: قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ} سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وفق السؤال، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح- كما تقدم- فإنه لما نزل {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ} قال: كم أنفق؟ فنزل {قُلِ الْعَفْوَ} والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر: خذي العفو منى تستديمى مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبى ليلى وغيرهم، قالوا: العفو ما فضل عن العيال، ونحوه عن ابن عباس. وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى، وكذا قال عليه السلام: «خير الصدقة ما أنفقت عن غنى» وفي حديث آخر: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى». وقال قيس بن سعد: هذه الزكاة المفروضة. وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع. وقيل: هي منسوخة. وقال الكلبي: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها. وقال قوم: هي محكمة، وفى المال حق سوى الزكاة. والظاهر يدل على القول الأول. الثالثة: قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفى إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:22 am | |
| {فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى} إلى قوله: {حَكِيمٌ} فيه ثمان مسائل: الأولى: روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه، لفظ أبى داود. والآية متصلة بما قبل، لأنه اقترن بذكر الأموال الامر بحفظ أموال اليتامى. وقيل: إن السائل عبد الله بن رواحة. وقيل: كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية. الثانية: لما أذن الله عز وجل في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم، تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية. فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه، لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة. لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم. الثالثة: تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفى جواز خلط ماله بماله، دلالة على جواز التصرف في مال بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا. واختلف في عمله هو قراضا، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشترى لها. وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضى، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم. قال محمد بن عبد الحكم: وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا. قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله. قال: وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز. ودل الظاهر على أن ولى اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح. وسيأتي لهذا مزيد بيان في النساء إن شاء الله تعالى. الرابعة: ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان: حالة يمكنه الاشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة. وحالة لا يمكنه الاشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة. قال ابن خويز منداد: ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الاشهاد على نفقته وكسوته، لأنه يتعذر عليه الاشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال: أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعى الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطى الام أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الام أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة. الخامسة: واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمته، وهل له أن يشترى لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته؟ فقال مالك: ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة، حتى قال في الاعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة: إنهم ينكحونهم إنكاحهم، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في النساء بيانه، إن شاء الله تعالى. وأما الشراء منه فقال مالك: يشترى في مشهور الأقوال، وكذلك قال أبو حنيفة: له أن يشترى مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع، لأنه لم يذكر في الآية التصرف، بل قال: {إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر. وأبو حنيفة يقول: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه. والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ. وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح. والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية. وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن. وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضى جوازه. ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى} أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف. فإن قيل: يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه، فالجواب أن ذلك لا يلزم، وإنما يكون ذلك ذريعة فما يؤدى من الافعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها، وأما هاهنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه: إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب، وإن جاز أن يكذبن. وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}. وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له، ذكره البخاري. وفى هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه، كما ذكرنا. والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشترى مما تحت يده شيئا، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملا من الناس. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يشترى من التركة، ولا بأس أن يدس من يشترى له منها إذا لم يعلم أنه من قبله. السادسة: قوله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر. وقال أبو عبيد: مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الاسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الامر على الناس. السابعة: قوله تعالى: {فَإِخْوانُكُمْ} خبر مبتدأ محذوف، أي فهم إخوانكم، والفاء جواب الشرط. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} تحذير، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها، فيجازى كلا على إصلاحه وإفساده. الثامنة: قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} قال: لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا. وقيل: {لَأَعْنَتَكُمْ} لأهلككم، عن الزجاج وأبى عبيدة. وقال القتبي: لضيق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقيل: أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وإثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم. والعنت: المشقة، وقد عنت وأعنته غيره. ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه: قد أعنته، فهو عنت ومعنت. وعنتت الدابة تعنت عنتا: إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جرى. وأكمة عنوت: شاقة المصعد. وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه، ثم نقلت إلى معنى الهلاك. والأصل ما وصفنا. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي لا يمتنع عليه شيء {حَكِيمٌ} يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:23 am | |
| {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا} قراءة الجمهور بفتح التاء. وقرئت في الشاذ بالضم، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه. ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الثانية: لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفى مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبى مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبى مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها عناق فجاءته، فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنه كان مسلما وهى مشركة. وسيأتي في النور بيانه إن شاء الله تعالى. الثالثة: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: حرم الله نكاح المشركات في سورة البقرة ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة المائدة. وروى هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول العموم قط الكتابيات. وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية المائدة بعض العموم. وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في البقرة هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية. قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان، قال: حدثنا محمد بن رمح، قال: حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الاشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة لان البقرة من أول ما نزل بالمدينة، والمائدة من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفى أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما روى عنه: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في المائدة وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ: ولا أعلم أشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروى عن عمر أنه فرق بين طلحة ابن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة. قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروى عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ} ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضى مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} بعد قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ} نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل. فإن قيل: أراد بقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، كقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية. وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ} الآية. قيل له: هذا خلاف نص الآية في قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وخلاف ما قاله الجمهور، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار. والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} لان المشرك يدعو إلى النار، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار، فالمسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين. الرابعة: وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل، وسيل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {صاغِرُونَ}. قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه. وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. الخامسة: قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال. {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره. ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملا الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها. وقال السدى: نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال: «ما هي يا عبد الله» قال: تصوم وتصلى وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هذه مؤمنة». فقال ابن رواحة: لاعتقنها ولا تزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية. والله أعلم. السادسة: وأختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك: لا يجوز نكاح الامة الكتابية. وقال أشهب في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب. قال ابن العربي: درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال: احتج أصحاب أبى حنيفة على جواز نكاح الامة الكتابيةبقوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}. ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الامة المؤمنة والمشركة، فلولا أن نكاح الامة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما، لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادين. والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا: لان الله سبحانه قال: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}. وقال عمر في رسالته لأبي موسى: الرجوع إلى الحق خير من التمادى في الباطل. جواب آخر: قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ} لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيد الله وإماؤه، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني. السابعة: واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك. وقال ابن حنبل: لا يعجبني. وروى أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له: طلقها. وقال ابن القصار: قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم. وروى ابن وهب عن مالك أن الامة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وكذلك الوثنيات وغيرهن من الكافرات، وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات، فقالا: لا بأس بذلك. وتأولا قول الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ}. فهذا عندهما. على عقد النكاح لا على الامة المشتراة، واحتجا بسبي أوطاس، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهن بملك اليمين. قال النحاس: وهذا قول شاذ، أما سبى أوطاس فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن فجاز نكاحهن، وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} فغلط، لأنهم حملوا النكاح على العقد، والنكاح في اللغة يقع على العقد وعلى الوطي، فلما قال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ} حرم كل نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطئ. وقال أبو عمر بن عبد البر: وقال الأوزاعي: سألت الزهري عن الرجل يشترى المجوسية أيطؤها؟ فقال: إذا شهدت أن لا إله إلا الله وطئها. وعن يونس عن ابن شهاب قال: لا يحل له أن يطأها حتى تسلم. قال أبو عمر: قول ابن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تسلم هذا- وهو أعلم الناس بالمغازي والسير- دليل على فساد قول من زعم أن سبى أوطاس وطين ولم يسلمن. روى ذلك عن طائفة منهم عطاء وعمرو بن دينار قالا: لا بأس بوطي المجوسية، وهذا لم يلتفت إليه أحد من الفقهاء بالأمصار. وقد جاء عن الحسن البصري- وهو ممن لم يكن غزوه ولا غزو أهل ناحيته إلا الفرس وما وراءهم من خراسان، وليس منهم أحد أهل كتاب- ما يبين لك كيف كانت السيرة في نسائهم إذا سبين، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا هشام عن يونس عن الحسن، قال قال رجل له: يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهن؟ قال: كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم نأمرها أن تغتسل، وإذا أراد صاحبها أن يصيبها لم يصبها حتى يستبرئها. وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}. أنهن الوثنيات والمجوسيات، لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني العفائف، لا من شهر زناها من المسلمات. ومنهم من كره نكاحها ووطأها بملك اليمين ما لم يكن منهن توبة، لما في ذلك من إفساد النسب. قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} فيه إحدى عشر مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا} أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك. وأجمعت الامة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. والقراء على ضم التاء من {تَنْكِحُوا}. الثانية: في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن على ابن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ}. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي» وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولى، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بولي، روى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى بن أبى طالب وابن مسعود وابن عباس وأبى هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وسفيان الثوري وابن أبى ليلى وابن شبرمة وابن المبارك والشافعي وعبيد الله بنالحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد. قلت: وهو قول مالك رضي الله عنهم أجمعين وأبى ثور والطبري. قال أبو عمر: حجة من قال: «لا نكاح إلا بولي» أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ثبت عنه أنه قال: «لا نكاح إلا بولي». روى هذا الحديث شعبة والثوري عن أبى إسحاق عن أبى بردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا، فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله، وأما من لا يقبل المراسيل فيلزمه أيضا، لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة. وممن وصله إسرائيل وأبو عوانة كلاهما عن أبى إسحاق عن أبى بردة عن أبى موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإسرائيل ومن تابعه حفاظ، والحافظ تقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضدها أصول، قال الله عز وجل: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ}. وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري. ولو أن له حقا في الانكاح ما نهى عن العضل. قلت: ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن. وسيأتي بيان هذا في النور وقال تعالى حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} على ما يأتي بيانه في سورة القصص. وقال تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}، فقد تعاضد الكتاب والسنة على أن لا نكاح إلا بولي. قال الطبري: في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هي إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: «الأيم أحق بنفسها من وليها» أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليها. وروى الدارقطني عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها». قال: حديث صحيح. وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل- ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له». وهذا الحديث صحيح. ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنه قال: سألت عنه الزهري فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة، لأنه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى وهو ثقة إمام وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك، لأن النسيان لا يعصم منه ابن آدم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نسى آدم فنسيت ذريته». وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينسى، فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ فهو حجة على من نسى، فإذا روى الخبر ثقة فلا يضره نسيان من نسيه، هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج، فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرجوا عليها. قلت: وقد أخرج هذا الحديث أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي في المسند الصحيح له- على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقلها- عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل فإن تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له». قال أبو حاتم: لم يقل أحد في خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري هذا: «وشاهدي عدل» إلا ثلاثة أنفس: سويد بن يحيى الأموي عن حفص بن غياث وعبد الله بن عبد الوهاب الجمحي عن خالد بن الحارث وعبد الرحمن بن يونس الرقى عن عيسى بن يونس، ولا يصح في الشاهدين غير هذا الخبر، وإذا ثبت هذا الخبر فقد صرح الكتاب والسنة بأن لا نكاح إلا بولي، فلا معنى لما خالفهما. وقد كان الزهري والشعبي يقولان: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز. وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زفر. وإن زوجت نفسها غير كفء فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما. قال ابن المنذر: وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم. وبالخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول. وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلا بولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفء أجازه القاضي. وإنما يتم النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول: يأمر القاضي الولي بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدا. ولا خلاف بين أبى حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح بنفسها جاز. وقال الأوزاعي: إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى، وهذا نحو مذهب مالك على ما يأتي. وحمل القائلون بمذهب الزهري وأبى حنيفة والشعبي قوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بولي» على الكمال لا على الوجوب، كما قال عليه السلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» و«لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة». واستدلوا على هذا بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ}، وقوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وبما روى الدارقطني عن سماك بن حرب قال: جاء رجل إلى على رضي الله عنه فقال: امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذنى؟ فقال على: ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوجت كفؤا أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك. وفى الموطأ أن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب، الحديث. وقد رواه ابن جريج عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلا هو المنذر بن الزبير امرأة من بنى أخيها فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح، ثم قالت: ليس على النساء إنكاح. فالوجه في حديث مالك أن عائشة قررت المهر وأحوال النكاح، وتولى العقد أحد عصبتها، ونسب العقد إلى عائشة لما كان تقريره إليها. الثالثة: ذكر ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في الأولياء، من هم؟ فقال مرة: كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها، سواء كان من العصبة أو من ذوى الأرحام أو الأجانب أو الامام أو الوصي. وقال مرة: الأولياء من العصبة، فمن وضعها منهم في منصب حسن فهو ولى. وقال أبو عمر: قال مالك فيما ذكر ابن القاسم عنه: إن المرأة إذا زوجها غير وليها بإذنها فإن كانت شريفة لها في الناس حال كان وليها بالخيار في فسخ النكاح وإقراره، وإن كانت دنيئة كالمعتقة والسوداء والسعاية والمسلمانية، ومن لا حال لها جاز نكاحها، ولا خيار لوليها لان كل واحد كفء لها، وقد روى عن مالك أن الشريفة والدنيئة لا يزوجها إلا وليها أو السلطان، وهذا القول اختاره ابن المنذر، قال: وأما تفريق مالك بين المسكينة والتي لها قدر فغير جائز، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سوى بين أحكامهم في الدماء فقال: «المسلمون تتكافؤ دماؤهم». وإذا كانوا في الدماء سواء فهم في غير ذلك شيء واحد. وقال إسماعيل بن إسحاق: لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضا، فلو أن رجلا مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولاية أقرب من ولاية، وقرابة أقرب من قرابة. وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولى لها فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال، لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لأنها ممن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها، فأما إذا صيرت أمرها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الامر من غير وجهه، وفعلت ما ينكره الحاكم عليها والمسلمون، فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يعلم أن حقيقته حرام، لما وصفنا من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولما في ذلك من الاختلاف، ولكن يفسخ لتناول الامر من غير وجهه، ولأنه أحوط للفروج ولتحصينها، فإذا وقع الدخول وتطاول الامر وولدت الأولاد وكان صوابا لم يجز الفسخ، لأن الأمور إذا تفاوتت لم يرد منها إلا الحرام الذي لا يشك فيه، ويشبه ما فات من ذلك بحكم الحاكم إذا حكم بحكم لم يفسخ إلا أن يكون خطأ لا شك فيه. وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولى مفسوخ أبدا قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما. والولي عندهم من فرائض النكاح، لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} كما قال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، وقال مخاطبا للأولياء: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ}. وقال عليه السلام: «لا نكاح إلا بولي». ولم يفرقوا بين دنية الحال وبين الشريفة، لإجماع العلماء على أن لا فرق بينهما في الدماء، لقوله عليه السلام: «المسلمون تتكافؤ دماؤهم». وسائر الأحكام كذلك. وليس في شيء من ذلك فرق بين الرفيع والوضيع في كتاب ولا سنة. الرابعة: واختلفوا في النكاح يقع على غير ولى ثم يجيزه الولي قبل الدخول، فقال مالك وأصحابه إلا عبد الملك: ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك بالقرب، وسواء دخل أو لم يدخل. هذا إذا عقد النكاح غير ولى ولم تعقده المرأة بنفسها، فإن زوجت المرأة نفسها وعقدت عقدة النكاح من غير ولى قريب ولا بعيد من المسلمين فإن هذا النكاح لا يقر أبدا على حال وإن تطاول وولدت الأولاد، ولكنه يلحق الولد إن دخل، ويسقط الحد، ولا بد من فسخ ذلك النكاح على كل حال. وقال ابن نافع عن مالك: الفسخ فيه بغير طلاق. الخامسة: واختلف العلماء في منازل الأولياء وترتيبهم، فكان مالك يقول: أولهم البنون وإن سفلوا، ثم الآباء، ثم الاخوة للأب والام، ثم للأب، ثم بنو الاخوة للأب والام، ثم بنو الاخوة للأب، ثم الأجداد للأب وإن علوا، ثم العمومة على ترتيب الاخوة، ثم بنوهم على ترتيب بنى الاخوة وإن سفلوا، ثم المولى ثم السلطان أو قاضيه. والوصي مقدم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله لو كان الأب حيا. وقال الشافعي: لا ولاية لاحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أب أب الجد، لأنهم كلهم آباء. والولاية بعد الجد للاخوة، ثم الأقرب. وقال المزني: قال في الجديد: من انفرد بأم كان أولى بالنكاح، كالميراث. وقال في القديم: هما سواء. قلت: وروى المدنيون عن مالك مثل قول الشافعي، وأن الأب أولى من الابن، وهو أحد قولي أبى حنيفة، حكاه الباجى. وروى عن المغيرة أنه قال: الجد أولى من الاخوة، والمشهور من المذهب ما قدمناه. وقال أحمد: أحقهم بالمرأة أن يزوجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم. وقال إسحاق: الابن أولى من الأب، كما قاله مالك، واختاره ابن المنذر، لأن عمر بن أم سلمة زوجها بإذنها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: أخرجه النسائي عن أم سلمة وترجم له (إنكاح الابن أمه). قلت: وكثيرا ما يستدل بهذا علماؤنا وليس بشيء، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحاح أن عمر بن أبى سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك». وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب: عمر بن أبى سلمة يكنى أبا حفص، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة. وقيل: إنه كان يوم قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن تسع سنين. قلت: ومن كان سنه هذا لا يصلح أن يكون وليا، ولكن ذكر أبو عمر أن لابي سلمة من أم سلمة ابنا آخر اسمه سلمة، وهو الذي عقد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمه أم سلمة، وكان سلمة أسن من أخيه عمر بن أبى سلمة، ولا أحفظ له رواية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد روى عنه عمر أخوه. السادسة: واختلفوا في الرجل يزوج المرأة الأبعد من الأولياء- كذا وقع، والأقرب عبارة أن يقال: اختلف في المرأة يزوجها من أوليائها الأبعد والأقعد حاضر، فقال الشافعي: النكاح باطل. وقال مالك: النكاح جائز. قال ابن عبد البر: إن لم ينكر الأقعد شيئا من ذلك ولا رده نفذ، وإن أنكره وهى ثيب أو بكر بالغ يتيمة ولا وصى لها فقد اختلف قول مالك وأصحابه وجماعة من أهل المدينة في ذلك، فقال منهم قائلون: لا يرد ذلك وينفذ، لأنه نكاح انعقد بإذن ولى من الفخذ والعشيرة. ومن قال هذا منهم لا ينفذ قال: إنما جاءت الرتبة في الأولياء على الأفضل والأولى، وذلك مستحب وليس بواجب. وهذا تحصيل مذهب مالك عند أكثر أصحابه، وإياه اختار إسماعيل بن إسحاق وأتباعه. وقيل: ينظر السلطان في ذلك ويسأل الولي الأقرب على ما ينكره، ثم إن رأى إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يرده رده. وقيل: بل للاقعد رده على كل حال، لأنه حق له. وقيل: له رده وإجازته ما لم يطل مكثها وتلد الأولاد، وهذه كلها أقاويل أهل المدينة. السابعة: فلو كان الولي الأقرب محبوسا أو سفيها زوجها من يليه من أوليائها، وعد كالميت منهم، وكذلك إذا غاب الأقرب من أوليائها غيبة بعيدة أو غيبة لا يرجى لها أوبة سريعة زوجها من يليه من الأولياء. وقد قيل: إذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوجها الحاكم، والأول قول مالك. الثامنة: وإذا كان الوليان قد استويا في القعدد وغاب أحدهما وفوضت المرأة عقد نكاحها إلى الحاضر لم يكن للغائب إن قدم نكرته. وإن كانا حاضرين ففوضت أمرها إلى أحدهما لم يزوجها إلا بإذن صاحبه، فإن اختلفا نظر الحاكم في ذلك، وأجاز عليها رأى أحسنهما نظرا لها، رواه ابن وهب عن مالك. التاسعة: وأما الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالك وأصحابه، ويكفى من ذلك شهرته والإعلان به، وخرج عن أن يكون نكاح سر. قال ابن القاسم عن مالك: لو زوج ببينة، وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح، لأنه نكاح سر. وإن تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز، وأشهدا فيما يستقبلان. وروى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما قال: يفرق بينهما بتطليقة ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن كان أصابها، ولا يعاقب الشاهدان. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: إذا تزوجها بشاهدين وقال لهما: اكتما جاز النكاح. قال أبو عمر: وهذا قول يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحبنا، قال: كل نكاح شهد عليه رجلان فقد خرج من حد السر، وأظنه حكاه عن الليث ابن سعد. والسر عند الشافعي والكوفيين ومن تابعهم: كل نكاح لم يشهد عليه رجلان فصاعدا، ويفسخ على كل حال. قلت: قول الشافعي أصح للحديث الذي ذكرناه. وروى عن ابن عباس أنه قال: لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولى مرشد، ولا مخالف له من الصحابة فيما علمته. واحتج مالك لمذهبه أن البيوع التي ذكرها الله تعالى فيها الاشهاد عند العقد، وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع. والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الاشهاد أحرى بألا يكون الاشهاد فيه من شروطه وفرائضه، وإنما الغرض الإعلان والظهور لحفظ الأنساب. والاشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أعلنوا النكاح». وقول مالك هذا قول ابن شهاب وأكثر أهل المدينة. العاشرة: قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} أي مملوك {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} أي حسيب. {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي حسبه وماله، حسب ما تقدم. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأمة مؤمنة، أي ولا امرأة مؤمنة، كما بيناه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كل رجالكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله» وقال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وقال تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف، والله الموفق. الحادية عشر: قوله تعالى: {أُولئِكَ} إشارة للمشركين والمشركات. {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل. {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ} أي إلى عمل أهل الجنة. {بِإِذْنِهِ} أي بأمره، قاله الزجاج.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:24 am | |
| {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} ذكر الطبري عن السدى أن السائل ثابت بن الدحداح- وقيل: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين. وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره: أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بنى إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وفى صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين. الثانية: قوله تعالى: {عَنِ الْمَحِيضِ} المحيض: الحيض وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد: كحائضة يزني بها غير طاهر *** ونساء حيّض وحوائض. والحيضة: المرة الواحدة. والحيضة بالكسر الاسم، والجمع الحيض. والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: ليتني كنت حيضة ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحايض. وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض. وقال الطبري: المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش: إليك أشكو شدة المعيش *** ومر أعوام نتفن ريشي واصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد. قال ابن عرفة: المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمى الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة. فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت: استحيضت، فهي مستحاضة. ابن العربي. ولها ثمانية أسماء: الأول- حائض. الثاني- عارك. الثالث- فارك. الرابع- طامس. الخامس دارس. السادس: كابر. السابع- ضاحك. الثامن- طامث. قال مجاهد في قوله تعالى: {فَضَحِكَتْ} يعني حاضت. وقيل في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} يعني حضن. وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. الثالثة: اجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك. وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلى، ثم تلفق أيام الدم وتلغى أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء. والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن. روى البخاري عن أبى سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: «يا معشر النساء تصدقن فإنى أريتكن أكثر أهل النار- فقلن وبم يا رسول الله؟ قال- تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن- قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم- قلن: بلى يا رسول الله، قال- فذلك من نقصان دينها». وأجمع العلماء على أن الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، خرجه مسلم. فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل، على ما يأتي. الرابعة: واختلف العلماء في مقدار الحيض، فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، هذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روى عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيرة إلا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء. وقال محمد بن مسلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبى حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الاقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض. فإذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا كثر الحيض قل الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة. وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما. وقد روى عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة. قال ابن عبد البر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره، لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة. وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة، وهو قول الأوزاعي والطبري. وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبى رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل. قال الأوزاعي: وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية. قد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب- من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، وفى الاستظهار، والحجة في ذلك- في المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس فإن كانت بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما. وقال مالك: لا تقضى الصلاة ويمسك عنها زوجها. علي بن زياد عنه: تجلس قدر لداتها، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما. ابن حنبل: تجلس يوما وليلة، ثم تغتسل وتصلى ولا يأتيها زوجها. أبو حنيفة وأبو يوسف: تدع الصلاة عشرا، ثم تغتسل وتصلى عشرين يوما، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا، فيكون هذا حالها حتى ينقطع الدم عنها. أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام، عن مالك: ما لم تجاوز خمسة عشر يوما. الشافعي: تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار. والثاني من الدماء: دم النفاس عند الولادة، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه، فقيل: شهران، وهو قول مالك. وقيل: أربعون يوما، وهو قول الشافعي. وقيل غير ذلك. وطهرها عند انقطاعه. والغسل منه كالغسل من الجنابة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا: وهى وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه- وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة- والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه، وفى قراءة القرآن روايتان. والثالث من الدماء: دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، وإنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض. روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبى حبيش: يا رسول الله، إنى لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي». وفى هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة، وهو أصح ما روى في هذا الباب، وهو يرد ما روى عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة. وفيه أن الحائض لا تصلى، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة. وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة. ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح. ولقول من قال: تغتسل من طهر إلى طهر. ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمرها بشيء من ذلك. وفيه رد لقول من قال بالاستظهار، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلى، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجئ، أو لا يجئ، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها. الخامسة: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. والأذى كناية عن القذر على الجملة. ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} أي بما تسمعه من المكروه. ومنه قوله تعالى: {وَدَعْ أَذاهُمْ} أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم، وفى الحديث: «وأميطوا عنه الأذى» يعني بـ «الأذى» الشعر الذي يكون على رأس الصبى حين يولد، يحلق عنه يوم أسبوعه، وهى العقيقة. وفي حديث الايمان: «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» أي تنحيته، يعني الشوك والحجر، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار. وقوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} وسيأتي. السادسة: استدل من منع وطئ المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا: كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس. وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري. واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة: لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبد الرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي. وقال جمهور العلماء: المستحاضة تصوم وتصلى وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها. قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا، لأن كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب. وكان أحمد يقول: أحب إلى ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها. وعن ابن عباس في المستحاضة: لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها. وقال مالك: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنما ذلك عرق وليس بالحيضة». فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهى تصلى! قال ابن عبد البر: لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء. السابعة: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ} أي في زمن الحيض، إن حملت المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم. ومقصود هذا النهى ترك المجامعة. وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فروى عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت. وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء. وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له: أراغب أنت عن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء: له منها ما فوق الإزار، لقوله عليه السلام للسائل حين سأله-: ما يحل لي من امرأتي وهى حائض؟ فقال-: «لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها» وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: «شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك». وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: مجتنب موضع الدم، لقوله عليه السلام: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح». وقد تقدم. وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي. وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهى حائض؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. قال العلماء: مباشرة الحائض وهى متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق. الثامنة: واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهى حائض ماذا عليه، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال داود. وروى عن محمد بن الحسن: يتصدق بنصف دينار. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يتصدق بدينار أو نصف دينار». أخرجه أبو داود وقال: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار، واستحبه الطبري. فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهو قول الشافعي ببغداد. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار. وقال الأوزاعي: من وطئ امرأته وهى حائض تصدق بخمسى دينار، والطرق لهذا كله في سنن أبى داود والدارقطني وغيرهما. وفى كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار». قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة. التاسعة: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه: لا تلبس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه {يَطْهُرْنَ} بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبى بكر والمفضل {يطهرن} بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفى مصحف أبى وعبد الله {يتطهرن}. وفى مصحف أنس بن مالك {ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن}. ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر. قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو، فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، ورجح أبو على الفارسي قراءة تخفيف الطاء، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي. العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ} يعني بالماء، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة واهل المدينة وغيرهم. وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها. ولكن بأن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضى عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وهذا تحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها: عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل، مع موافقة أهل المدينة. ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين: أحدهما- انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}. والثاني- الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ} أي يفعلن الغسل بالماء، وهذا مثل قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} الآية، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما- بلوغ المكلف النكاح. والثاني- إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطي. احتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} مخففا هو بمعنى قوله: {يطهرن} مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى: {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. قال الكميت: وما كانت الأنصار فيها أذلة *** ولا غيبا فيها إذا الناس غيب وأيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما. ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل، لأنه لا يؤمن عوده: ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل. قال ابن العربي: وهذا أقوى مالهم، فالجواب عن الأول: أن ذلك ليس من كلام الفصحاء، ولا ألسن البلغاء، فإن ذلك يقتضى التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني: أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه، فهي إذا حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا. وأيضا فإن ما قالوه يقتضى إباحة الوطي عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضى الحظر، وإذا تعارض ما يقتضى الحظر وما يقتضى الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر، كما قال على وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، والتحريم أولى. والله أعلم. الحادية عشرة: واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا، فقال مالك في رواية ابن القاسم: نعم، ليحل للزوج وطؤها، قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ} يقول بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها. وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض، لأنها غير معتقدة لذلك، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات، وقال: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} وبهذا كان يقول محمود بن عبد الحكم. الثانية عشرة: وصفه غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، إنى أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» وفى رواية: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: لا زاد أبو داود: «واغمزي قرونك عند كل حفنة». الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي فجامعوهن. وهو أمر إباحة، وكنى بالإتيان عن الوطي، وهذا الامر يقوى ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء، لأن صيغة الامر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل. والله أعلم. ومن بمعنى في، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل، ونظيره قوله تعالى: {أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي في الأرض،: وقوله: {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أي في يوم الجمعة. وقيل: المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم. وقال ابن عباس وأبو رزين: من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقاله الضحاك. وقال محمد ابن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى. الرابعة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} اختلف فيه، فقيل: التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قال عطاء وغيره. وقال مجاهد: من الذنوب، وعنه أيضا: من إتيان النساء في أدبارهن. ابن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. وقيل: المتطهرون الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، قيل: قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:25 am | |
| {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} روى الأئمة واللفظ للمسلم عن جابر بن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت الآية: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} زاد في رواية عن الزهري: إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير إن ذلك في صمام واحد. ويروى: في سمام واحد بالسين، قاله الترمذي. وروى البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال: أتدرى فيم أنزلت؟ قلت: لا قال: نزلت في كذا وكذا، ثم مضى. وعن عبد الصمد قال: حدثني أبى قال حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: يأتيها في. قال الحميدي: يعني الفرج. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر والله يغفر له وهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب: وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف! فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شرى أمرهما؟ فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: «وما أهلكك؟» قال: حولت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، قال: فأوحى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة» قال: هذا حديث حسن صحيح. وروى النسائي عن أبى النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: قد أكثر عليك القول. إنك تقول عن ابن عمر: أنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن. قال نافع: لقد كذبوا على! ولكن سأخبرك كيف كان الامر: إن ابن عمر عرض على المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}، قال نافع: هل تدرى ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله سبحانه: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. الثانية: هذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطي في موضع الحرث، أي كيف شئتم من خلف ومن قدام وباركة ومستلقية ومضطجعة، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا، ولا يباح! وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم. و{حرث} تشبيه، لأنهن مزدرع الذرية، فلفظ الحرث يعطى أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع. وأنشد ثعلب: إنما الأرحام أرض *** ون لنا محترثات فعلينا الزرع فيها *** وعلى الله النبات ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث بمعنى المحترث. ووحد الحرث لأنه مصدر، كما يقال: رجل صوم، وقوم صوم. الثالثة: قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا آنفا. و{أنى} تجئ سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي في أنى. وقد فسر الناس أنى في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبويه بـ كيف ومن أين باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسرها ب أين إلى أن الوطي في الدبر مباح، وممن نسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون، وحكى ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر. وحذاق أصحاب مالك؟ ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سر. ووقع هذا القول في العتبية. وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن. وقال إلكيا الطبري: وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ}. وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال إلكيا: وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفى قوله تعالى: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} مع قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد. قلت: هذا هو الحق في المسألة. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوى أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفى إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطئ، ولو كان موضعا للوطي ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. وفى إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيناه. وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك، لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}، ولان الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله مالك النكاح، وهذا هو الحق. وقد قال أصحاب أبى حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم، ولان القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع. وأما صمام البول فغير صمام الرحم. وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الامام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدا بها. وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلى بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا على، كذبوا على، كذبوا على! ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}؟ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: {أَنَّى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه تحريم المحل المكروه. ولشيخنا أبى العباس أيضا في ذلك جزء سماه إظهار إدبار، من أجاز الوطي في الأدبار. قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روى عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه. وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد ابن يسار أبى الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أيها الناس إن الله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ لا تأتوا النساء في أعجازهن». ومثله عن علي بن طلق. وأسند عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة» وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «تلك اللوطية الصغرى» يعني إتيان المرأة في دبرها. وروى عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن. قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغنى به عما سواه. الرابعة: قوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} أي قدموا ما ينفعكم غدا، فحذف المفعول، وقد صرح به في قوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}.. فالمعنى قدموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالح. وقيل ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنة. وقيل: هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا. وقيل: هو تقدم الافراط، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم» الحديث. وسيأتي في مريم إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس وعطاء: أي قدموا ذكر الله عند الجماع، كما قال عليه السلام: «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا». أخرجه مسلم. الخامسة: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تحذير {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} خبر يقتضى المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب يقول: «إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا»- ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ}. أخرجه مسلم بمعناه. السادسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تأنيس لفاعل البر ومبتغى سنن الهدى.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:27 am | |
| {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} فيه أربع مسائل: الأولى: قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت. وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير لا بعد أن. وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ}. وذم من كثر اليمين فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}. والعرب تمتدح بقلة الايمان، حتى قال قائلهم: قليل الألايا حافظ ليمينه *** وإن صدرت منه الأليّة برت وعلى هذا {أَنْ تَبَرُّوا} معناه: أقلوا الايمان لما فيه من البر والتقوى، فان الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعى لحق الله تعالى، وهذا تأويل حسن. مالك بن أنس: بلغني أنه الحلف، بالله في كل شي. وقيل: المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل: وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: على يمين، وهو لم يحلف القتبي: المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين. قلت: وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل على سبب النزول، على ما نبينه في المسألة بعد هذا. الثانية: قيل: نزلت بسبب الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها، كما في حديث الافك، وسيأتي بيانه في النور، عن ابن جريج. وقيل: نزلت في الصديق أيضا حين حلف ألا يأكل مع الأضياف. وقيل نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف ألا يكلم بشير بن النعمان وكان ختنه على أخته، والله أعلم. الثالثة: قوله تعالى: {عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} أي نصبا، عن الجوهري. وفلان عرضة ذاك، أي عرضة لذلك، أي مقرن له قوى عليه. والعرضة: الهمة. قال: هم الأنصار عرضتها اللقاء وفلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه. وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له، وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح، إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة على السفر والحرب، قال كعب بن زهير: من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت *** عرضتها طامس الأعلام مجهول وقال عبد الله بن الزبير: فهذي لأيام الحروب وهذه *** للهوى وهذى عرضة لارتحالنا أي عدة. وقال آخر: فلا تجعلني عرضة للوائم *** وقال أوس بن حجر: وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها *** لرحلي وفيها هزة وتقاذف والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر. الرابعة: قوله تعالى: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} مبتدأ وخبره محذوف، أي البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل، مثل: {طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} عن الزجاج والنحاس. وقيل: محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح، عن الزجاج أيضا. وقيل: مفعول من أجله. وقيل: معناه ألا تبروا، فحذف لا، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي لئلا تضلوا، قاله الطبري والنحاس. ووجه رابع من وجوه النصب: كراهة أن تبروا، ثم حذفت، ذكره النحاس والمهدوي. وقيل: هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي، التقدير: في أن تبروا، فأضمرت في وخفضت بها. و{سَمِيعٌ} أي لأقوال العباد. {عَلِيمٌ} بنياتهم.
{لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {بِاللَّغْوِ} اللغو: مصدر لغا يلغو ويلغى، ولغى يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغى إثمه، وفى الحديث: «إذا قلت لصاحبك والامام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت». ولغة أبى هريرة: «فقد لغيت» وقال الشاعر: ورب أسراب حجيج كظم *** عن اللغا ورفث التكلم وقال آخر: ولست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمد عاقدات العزائم الثانية: واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين. قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: أيمان اللغو ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب. وفى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، وبلى والله. وقيل: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف. قال أبو هريرة: إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة، ونحوه عن ابن عباس. وروى: أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الامر بخلاف ذلك، فقال الرجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أيمان الرماة لغو لا حنث فيها ولا كفارة». وفى الموطأ قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه إثم كاذب ليرضى به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. وروى عن ابن عباس- إن صح عنه- قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وقاله طاوس. وروى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا يمين في غضب» أخرجه مسلم. وقال سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، فيقول: مالى على حرام إن فعلت كذا، والحلال على حرام، وقال مكحول الدمشقي، ومالك أيضا، إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقيل: هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن وعروة وعبد الله ابنا الزبير، كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها» أخرجه ابن ماجه في سننه، وسيأتي في المائدة أيضا. وقال زيد بن أسلم: لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا. النخعي: هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: إن لغو اليمين هي المكفرة، أي إذا كفرت اليمين سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير. وحكى ابن عبد البر قولا: أن اللغو أيمان المكره. قال ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها. لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض. قلت: ويمين المكره بمثابتها. وسيأتي حكم من حلف مكرها في النحل إن شاء الله تعالى. قال ابن العربي: وأما من قال إنه يمين المعصية فباطل، لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له: لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه. وأما من قال: إنه دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا، فهو قول لغو، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه، وربما يؤاخذ به، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا إلا أعطاه إياه». وأما من قال إنه يمين الغضب فإنه يرده حلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه. وسيأتي في براءة. قال ابن العربي: وأما من قال: إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى. وضعفه ابن عطية أيضا وقال: قد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الايمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم. الثالثة: قوله تعالى: {فِي أَيْمانِكُمْ} الايمان جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمى الحلف والعهد نفسه يمينا. وقيل: يمين فعيل من اليمن، وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع أيمان وأيمن، قال زهير: فتجمع أيمن منا ومنكم. الرابعة: قوله تعالى: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} مثل قوله: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ}. وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى. وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا اللغو، إلا أن يعقد الاشراك بقلبه ويكسبه. {غَفُورٌ حَلِيمٌ} صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة. {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} فيه أربع وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} {يُؤْلُونَ} معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية والوه والوه. وقرأ أبى وابن عباس {للذين يقسمون}. ومعلوم أن {يقسمون} تفسير: {يُؤْلُونَ}. وقرئ {للذين آلوا} يقال: آلى يؤلى إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ}، وقال الشاعر: فآليت لا أنفك أحدو قصيدة *** تكون وإياها بها مثلا بعدي وقال آخر: قليل الألايا حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليّة برّت وقال ابن دريد: أليّة باليعملات يرتمي *** بها النجاء بين أجواز الفلا قال عبد الله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي. قلت: وقد آلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كذا في صحيح مسلم. وقيل: لان زينب ردت عليه هديته، فغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآلى منهن، ذكره ابن ماجة. الثانية: ويلزم الإيلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء. وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصى إذا لم يكن مجبوبا، والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط. واختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى، ففي، قول: لا إيلاء له. وفى قول: يصح إيلاؤه، والأول أصح وأقرب إلى الكتاب والسنة، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث بقي حكم الإيلاء. وإيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة لازم له، وكذلك الأعجمي إذا آلى من نسائه. الثالثة: واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده لقوله عليه السلام: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». وبه قال الشافعي في الجديد. وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك واهل الحجاز وسفيان الثوري واهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي. قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله أو بصفة من صفاته أو قال: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو على عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته فإنه يلزمه الإيلاء. فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر ب الله فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلا أن يكون أراد ب الله ونواه. ومن قال إنه يمين يدخل عليه، وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى. فإن حلف بالصيام ألا يطأ امرأته فقال: إن وطيتك فعلى صيام شهر أو سنة فهو مول. وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة. والأصل في هذه الجملة عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} ولم يفرق، فإذا آلى بصدقة أو عتق عبد معين أو غير معين لزم الإيلاء. الرابعة: فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه في رواية ابن القاسم عن مالك. وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمؤل، وهو أصح لان الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف، وهو مذهب فقهاء الأمصار، لأنه بين بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل. ووجه ما رواه ابن القاسم مبنى على أن الاستثناء لا يحل اليمين، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة، على ما يأتي بيانه في المائدة فلما كانت يمينه باقية منعقدة لزمه حكم الإيلاء وإن لم تجب عليه كفارة. الخامسة: فإن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمؤل، قال مالك وغيره. قال الباجى: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره، ففي المبسوط: أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال قال مالك: كل كلام نوى به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء. السادسة: واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا. وقال طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روى هذا عن ابن مسعود والنخعي وابن أبى ليلى والحكم وحماد بن أبى سليمان وقتادة، وبه قال إسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فان حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا، وكانت عندهم يمينا محضا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الايمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبى ثور. وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء. قال الكوفيون: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر كما جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفى العدة ثلاثة قروء، فلا تربص بعد. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بألفي وهو الجماع في داخل المدة، والطلاق بعد انقضاء الاربعة الأشهر. واحتج مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمولى أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل. ووجه قول إسحاق- في قليل الأمد يكون صاحبه به موليا إذا لم يطأ- القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإنه يكون موليا، لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة. السابعة: واختلفوا أن من حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الاربعة الأشهر ولم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الاربعة الأشهر طلقة رجعية. ومنهم ومن غيرهم من يقول: يلزمه طلقة بائنة بانقضاء الاربعة الأشهر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولى لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجنه له ليفي فيراجع امرأته بالوطي ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفئ أو يطلق. والفيء: الجماع فيمن يمكن مجامعتها. قال سليمان بن يسار: كان تسعة رجال من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوقفون في الإيلاء، قال مالك: وذلك الامر عندنا، وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر. الثامنة: وأجل المولى من يوم حلف لأمن يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم، فإن خاصمته ولم ترض بامتناعه من الوطي ضرب له السلطان أجل أربعة أشهر من يوم حلف، فإن وطئ فقد فاء إلى حق الزوجة وكفر عن يمينه، وإن لم يفئ طلق عليه طلقة رجعية. قال مالك: فإن راجع لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة. قال الأبهري: وذلك أن الطلاق إنما وقع لدفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر باق، فلا معنى للرجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطي فتصح رجعته، لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطي ليس من أجل الضرر وإنما هو من أجل العذر. التاسعة: واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب، فقال ابن عباس: لا إيلاء إلا بغضب، وروى عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء، كلهم يقولون: الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشارة وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها إضرارا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء. وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك واهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد. قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الايمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك. قلت: ويدل عليه عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم. والله أعلم. العاشرة: قال علماؤنا: ومن امتنع من وطئ امرأته بغير يمين حلفها إضرارا بها أمر بوطئها، فإن أبى وأقام على امتناعه مضرا بها فرق بينه وبينها من غير ضرب أجل. وقد قيل: يضرب أجل الإيلاء. وقد قيل: لا يدخل على الرجل الإيلاء في هجرته من زوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله تعالى في ألا يمسكها ضرارا. الحادية عشرة: واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد. قال مالك: وقد بلغني أن علي بن أبى طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة. الثانية عشرة: وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل إلى أنه لا يكون موليا من حلف ألا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار لأنه يجد السبيل إلى وطئها في غير ذلك المكان. قال ابن أبى ليلى وإسحاق: إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، ألا ترى أنه يوقف عند الأشهر الاربعة، فإن حلف ألا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك، وهذا إنما يكون في سفر يتكلف المئونة والكلفة دون جنته أو مزرعته القريبة. الثالثة عشرة: قوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} يدخل فيه الحرائر والذميات والإماء إذا تزوجن. والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: إيلاؤه مثل إيلاء الحر، وحجتهم ظاهر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} فكان ذلك لجميع الأزواج. قال ابن المنذر: وبه أقول. وقال مالك والزهري وعطاء بن أبى رباح وإسحاق: أجله شهران. وقال الحسن والنخعي: إيلاؤه من زوجته الامة شهران، ومن الحرة أربعة أشهر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشعبي: إيلاء الامة نصف إيلاء الحرة. الرابعة عشرة: قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما. وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول. وقال مالك: ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها. الخامسة عشرة: وأما الذمي فلا يصح إيلاؤه، كما لا يصح ظهاره ولا طلاقه، وذلك أن نكاح أهل الشرك ليس عندنا بنكاح صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع فتلزمهم كفارات الايمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطئ زوجته ضرارا من غير يمين. السادسة عشرة: قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر، قال الشاعر: تربص بها ريب المنون لعلها *** تطلق يوما أو يموت حليلها وأما فائدة توقيت الاربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ} وقد آلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أزواجه شهرا تأديبا لهن. وقد قيل: الاربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد: ألا طال هذا الليل وأسود جانبه *** وأرقني أن لا حبيب ألاعبه فو الله لولا الله لا شيء غيره *** لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربى والحياء يكفني *** وإكرام بعلي أن تنال مراكبه فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوى اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر. السابعة عشرة: قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ} معناه رجعوا، ومنه: {حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} ومنه قيل للظل بعد الزوال: في، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفئ فيئة وفيوءا. وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع. قال: ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له *** ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا الثامنة عشرة: قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهى امرأته، فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطي فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قال مالك في المدونة والمبسوط. وقال عبد الملك: وتكون بائنا منه يوم انقضت المدة، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى، فإن أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها، حمل أمره على الكذب فيها واللدد، وأمضيت الأحكام على ما كانت تجب في ذلك الوقت. وقالت طائفة: إذا شهدت بينة بفيئته في حال العذر أجزأه، قاله الحسن وعكرمة والنخعي: وبه قال الأوزاعي. وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والاشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطي، قال ابن عطية: ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان له عذر يفئ بقلبه، وبه قال أبو قلابة. وقال أبو حنيفة: إن لم يقدر على الجماع فيقول: قد فئت إليها. قال إلكيا الطبري: أبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض وبينه وبينها مدة أربعة أشهر، وهى رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب: إنه إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك في صحيح، والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه. وقالت طائفة: لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره، وكذلك قال سعيد بن جبير، قال: وكذلك إن كان في سفر أو سجن. التاسعة عشرة: أوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولى إذا فاء بجماع امرأته. وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي، قال النخعي: كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه. وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ} يعني لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب في الايمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطئ الزوجة معصية. قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها» خرجه ابن ماجه في سننه. وسيأتي لها مزيد بيان في آية الايمان إن شاء الله تعالى. وحجة الجمهور قوله عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه». العشرين: إذا كفر عن يمينه سقط عنه الإيلاء، قاله علماؤنا. وفى ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء، ودليل على أبى حنيفة في مسألة الايمان، إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث، قاله ابن العربي. الحادية والعشرون: قلت: بهذه الآية استدل محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال: لما حكم الله تعالى للمولى بأحد الحكمين من في أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير في أو عزيمة الطلاق، لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شي، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شيء لم يكن موليا. وفى جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب. الثانية والعشرون: قال الله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. العزيمة: تتميم العقد على الشيء، يقال: عزم عليه يعزم عزما بالضم وعزيمة وعزيما وعزمانا، واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك. قال شمر: العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله. والطلاق من طلقت المرأة تطلق على وزن نصر ينصر طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا. قال الأعشى: أيا جارتا بيني فإنك طالقة *** ويجوز طلقت بضم اللام مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق: التخلية، يقال: نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعى، وبعير طلق بضم الطاء واللام غير مقيد، والجمع إطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه. فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها. وقيل: إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة. الثالثة والعشرون: في قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: {سَمِيعٌ} وسميع يقتضى مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: {سَمِيعٌ} لايلائه، {عَلِيمٌ} بعزمه الذي دل عليه مضى أربعة أشهر. وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه قال: سألت اثنى عشر رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يولى من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضى أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الامر أن تقدير الآية عندنا: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ} بعد انقضائها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وتقديرها عندهم: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ} فيها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ابن العربي: وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه. قلت: وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والاقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسى الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق، والله أعلم. الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على أن الامة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق، والله أعلم.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:56 am | |
| {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ} لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق. وفى كتاب أبى داود والنسائي عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} الآية. والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية الأحزاب: {فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} على ما يأتي. وكذلك الحامل بقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. والمقصود من الاقراء الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة. وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي. وقال قوم: إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة، وهو عرف النساء وعليه معظمهن. الثانية: قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ} التربص الانتظار، على ما قدمناه. وهذا خبر والمراد الامر، كقوله تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري. ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره. وقيل: معناه ليتربصن، فحذف اللام. الثالثة: قرأ جمهور الناس {قُرُوءٍ} على وزن فعول، اللام همزة. ويروى عن نافع {قرو} بكسر الواو وشدها من غير همز. وقرأ الحسن {قرء} بفتح القاف وسكون الراء والتنوين. وقروء جمع أقرؤ وأقراء، والواحد قرء بضم القاف، قال الأصمعي. وقال أبو زيد: {قرء} بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ. وأقرأت طهرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت، بلا ألف. يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين. والقرء: انقطاع الحيض. وقال بعضهم: ما بين الحيضتين. وأقرأت حاجتك: دنت، عن الجوهري. وقال أبو عمرو ابن العلاء: من العرب من يسمى الحيض قرءا، ومنهم من يسمى الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمى الطهر مع الحيض قرءا، ذكره النحاس. الرابعة: واختلف العلماء في الاقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلى وابن مسعود وأبى موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الاطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر: كرهت العقر عقر بنى شليل *** إذا هبت لقارئها الرياح فقيل للحيض: وقت، وللطهر وقت، لأنهما يرجعان لوقت معلوم، وقال الأعشى في الأطهار: أفي كل عام أنت جاشم غزوة *** تسد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة عزا وفي الحي رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا وقال آخر في الحيض: يا رب ذى ضغن على فارض *** له قروء كقروء الحائض يعنى أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض. وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني. ويقال لاجتماع حروفه، ويقال: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم تجمع في جوفها، وقال عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أدماء بكر *** هجان اللون لم تقرأ جنينا فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر. قال أبو عمر بن عبد البر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء لان القرء مهموز وهذا غير مهموز. قلت: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهري وغيره. واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف مقصور. وقيل: القرء، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعي في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا، ويكون معنى قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات، والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيا فتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، ولكن عرفنا بدليل آخر، أن الله تعالى لم يرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإدا خرج أحدهما عن أن يكون مرادا بقي الآخر وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما. قال إلكيا الطبري: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي، ويمكن أن نذكر في ذلك سرا لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب فبحيضها علم براءة رحمها. والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فان الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوى الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول الشاعر: ومبرّإ من كل غبّر حيضة *** وفساد مرضعة وداء مغيل يعنى أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها. فهذا ما للعلماء واهل اللسان في تأويل القرء. وقالوا: قرأت المرأة قرءا إذا حاضت أو طهرت. وقرأت أيضا إذا حملت. واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ} يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}. يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: «مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء». أخرجه مسلم وغيره. وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء. ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض، ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. قال أبو بكر ابن عبد الرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في أن الاقراء هي الاطهار. فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة. فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها: إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا ممن قال: الاقراء الاطهار يقول هذا غير ابن شهاب الزهري، فإنه قال: تلغى الطهر الذي طلقت فيه ثم تعتد بثلاثة أطهار، لأن الله عز وجل يقول: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. قلت: فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقول ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة، وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود بن على وأصحابه. والحجة على الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن في طلاق الطاهر من غير جماع، ولم يقل أول الطهر ولا آخره. وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض، لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض. أحتج الكوفيون بقول عليه السلام لفاطمة بنت أبى حبيش حين شكت إليه الدم: «إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلى وإذا مر القرء فتطهري ثم صلى من القرء إلى القرء». وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}. فجعل المأيوس منه المحيض، فدل على أنه هو العدة، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما. وقال عمر بحضرة الصحابة: عدة الامة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت، ولم ينكر عليه أحد. فدل على أنه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الاربعة، وحسبك ما قالوا! وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} يدل على ذلك، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء، يريد كوامل، وهذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الاقراء الحيض، لأن من يقول: إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا. وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة. قلت: هذا يرده قوله تعالى: {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ} فأثبت الهاء في: {ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ}، لأن اليوم مذكر وكذلك القرء، فدل على أنه المراد. ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر. وعندنا تعتد بالطهر، على ما بيناه. وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع، كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} والمراد به شهران وبعض الثالث، فكذلك قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. والله أعلم. وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قاله سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي. وقال شريك: إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل. وروى عن إسحاق بن راهويه أنه قال: إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج. إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها. وروى نحوه عن ابن عباس، وهو قول ضعيف، بدليل قول الله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} على ما يأتي. وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت. والله أعلم. الخامسة: والجمهور من العلماء على أن عدة الامة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان. وروى عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الامة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة: فإن السنة أحق أن تتبع. وقال الأصم عبد الرحمن بن كيسان وداود بن على وجماعة أهل الظاهر: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والاقراء عامة في حق الامة والحرة، فعدة الحرة والامة سواء. واحتج الجمهور بقوله عليه السلام: «طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان». رواه ابن جريج عن عطاء عن مظاهر بن أسلم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «طلاق الامة تطليقتان وقرؤها حيضتان» فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف. وروى عن ابن عمر: أيهما رق نقص طلاقه، وقالت به فرقة من العلماء. قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} أي من الحيض، قاله عكرمة والزهري والنخعي. وقيل: الحمل، قاله عمر وابن عباس. وقال مجاهد: الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض. والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والاطهار ولا اطلاع إلا من جهة النساء جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك، وهو مقتضى قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ}. وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات. ومعنى النهى عن الكتمان النهى عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حضت، وهى لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهى قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفى الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل، لتقطع حقه من الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية. وحكى أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنى طلقت امرأتي وهى حبلى، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري، فأنزل الله الآية، وردت امرأة الأشجعي عليه. الثانية: قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم: إذ قالت المرأة في عشرة أيام: قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لا تصدق ولا يقبل ذلك منها، إلا أن تقول: قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه. واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة، فقال مالك: إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان. قال في المدونة: إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء، وبه قال شريح و، وقال له علي بن أبى طالب: قالون! أي أصبت وأحسنت. وقال في كتاب محمد: لا تصدق إلا في شهر ونصف. ونحوه قول أبى ثور، قال أبو ثور: أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما، وأقل الحيض يوم. وقال النعمان: لا تصدق في أقل من ستين يوما، وقال به الشافعي. قوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الاخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه. أي فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق، وليس قوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ} على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم، لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن، وإنما هو كقولك: إن كنت أخى فلا تظلمني، أي فينبغي أن يحجزك الايمان عنه، لأن هذا ليس من فعل أهل الايمان. قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} البعولة جمع البعل، وهو الزوج، سمى بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي ربا، لعلوه في الربوبية، يقال: بعل وبعولة، كما يقال في جمع الذكر: ذكر وذكورة، وفى جمع الفحل: فحل وفحولة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، وهو شاذ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها السماع، فلا يقال في لعب: لعوبة. وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على فعول. والبعولة أيضا مصدر البعل. وبعل الرجل يبعل مثل منع يمنع بعولة، أي صار بعلا. والمباعلة والبعال: الجماع، ومنه قوله عليه السلام لأيام التشريق: «إنها أيام أكل وشرب وبعال» وقد تقدم. فالرجل بعل المرأة، والمرأة بعلته. وباعل مباعلة إذا باشرها. وفلان بعل هذا، أي مالكه وربه. وله محامل كثيرة تأتى إن شاء الله تعالى. الثانية: قوله تعالى: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العدة على حديث ابن عمر. ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وإذا كان هذا فيكون في الآية دليل على تخصيص ما شمله العموم في المسميات، لأن قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} عام في المطلقات ثلاثا، وفيما دونها لا خلاف فيه. ثم قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث. وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء. قال المهلب: وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الاشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، لقوله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فذكر الاشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق. قال ابن المنذر: وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روى عن الأوائل في هذا الباب، والله تعالى أعلم. الثالثة: واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة، فقال مالك: إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة. وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطي حتى يشهد، وبه قال إسحاق، لقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». فإن وطئ في العدة لا ينوي الرجعة فقال مالك: يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد. قال ابن القاسم: فإن أنقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في بقية مدة الاستبراء، فإن فعل فسخ نكاحه، ولا يتأبد تحريمها عليه لان الماء ماؤه. وقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، وهكذا قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سرين والزهري وعطاء وطاوس والثوري. قال: ويشهد، وبه قال أصحاب الرأى والأوزاعي وابن أبى ليلى، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عمر: وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها، ويروى ذلك عن طائفة من أصحاب مالك، وإليه ذهب الليث. ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخيار أن له وطأها في مدة الخيار، وأنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه، واختار نقض البيع بفعله ذلك. وللمطلقة الرجعية حكم من هذا. والله أعلم. الرابعة: من قبل أو باشر ينوي بذلك الرجعة كانت رجعة، وإن لم ينو بالقبلة والمباشرة الرجعة كان آثما، وليس بمراجع. والسنة أن يشهد قبل أن يطأ أو قبل أن يقبل أو يباشر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهي رجعة، وهو قول الثوري وينبغي أن يشهد. وفى قول مالك والشافعي وإسحاق وأبى عبيد وأبى ثور لا يكون رجعة، قاله ابن المنذر. وفى المنتقى قال: ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول، فأما بالفعل نحو الجماع والقبلة فقال القاضي أبو محمد: يصح بها وبسائر الاستمتاع للذة. قال ابن المواز: ومثل الجسة للذة، أو أن ينظر إلى فرجها أو ما قارب ذلك من محاسنها إذا أراد بذلك الرجعة، خلافا للشافعي في قوله: لا تصح الرجعة إلا بالقول، وحكاه ابن المنذر عن أبى ثور وجابر بن زيد وأبى قلابة. الخامسة: قال الشافعي: إن جامعها ينوي الرجعة، أو لا ينويها فليس برجعة، ولها عليه مهر مثلها. وقال مالك: لا شيء لها، لأنه لو ارتجعها لم يكن عليه مهر، فلا يكون الوطي دون الرجعة أولى بالمهر من الرجعة. وقال أبو عمر: ولا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي، وليس قوله بالقوى، لأنها في حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر المثل في وطئ امرأة حكمها في أكثر أحكامها حكم الزوجة! إلا أن الشبهة في قول الشافعي قوية، لأنها عليه محرمة إلا برجعة لها. وقد أجمعوا على أن الموطوءة بشبهة يجب لها المهر، وحسبك بهذا! السادسة: واختلفوا هل يسافر بها قبل أن يرتجعها، فقال مالك والشافعي: لا يسافر بها حتى يراجعها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه روى عنه الحسن ابن زياد أن له أن يسافر بها قبل الرجعة، وروى عنه عمرو بن خالد، لا يسافر بها حتى يراجع. السابعة: واختلفوا هل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها، وهل تتزين له وتتشرف، فقال مالك. لا يخلو معها، ولا يدخل عليها إلا بإذن، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها. وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك فقال: لا يدخل عليها ولا يرى شعرها. ولم يختلف أبو حنيفة وأصحابه في أنها تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وعن سعيد بن المسيب قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا، ويسلم إذا دخل، ونحوه عن قتادة، ويشعرها إذا دخل بالتنخم والتنحنح. وقال الشافعي: المطلقة طلاقا يملك رجعتها محرمة على مطلقها تحريم المبتوتة حتى يراجع، ولا يراجع إلا بالكلام، على ما تقدم. الثامنة: أجمع العلماء على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة: إنى كنت راجعتك في العدة وأنكرت أن القول قولها مع يمينها، ولا سبيل له إليها، غير أن النعمان كان لا يرى يمينا في النكاح ولا في الرجمة، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم. وكذلك إذا كانت الزوجة أمة واختلف المولى والجارية، والزوج يدعى الرجعة في العدة بعد انقضاء العدة وأنكرت فالقول قول الزوجة الامة وإن كذبها مولاها، هذا قول الشافعي وأبى ثور والنعمان. وقال يعقوب ومحمد: القول قول المولى وهو أحق بها. التاسعة: لفظ الرد يقتضى زوال العصمة، إلا أن علماءنا قالوا: إن الرجعية محرمة الوطي، فيكون الرد عائدا إلى الحل. وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن قال بقولهما- في أن الرجعة محللة الوطي: أن الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له خاصة، وأن أحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شي- قالوا: وأحكام الزوجية وإن كانت باقية فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة، فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت المرأة في سلوكها، وهذا رد مجازى، والرد الذي حكمنا به رد حقيقي، فإن هناك زوال مستنجز وهو تحريم الوطي، فوقع الرد عنه حقيقة، والله أعلم. العاشرة: لفظ {أَحَقُّ} يطلق عند تعارض حقين، ويترجح أحدهما، فالمعنى حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، ومثل هذا قوله عليه السلام: «الأيم أحق بنفسها من وليها». وقد تقدم. الحادية عشرة: الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم، لقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا} ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهى وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه. قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ} أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إنى لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن استنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها على، لأن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي زينة من غير مأثم. وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن. وقبل: إن لهن على أزواجهن ترك. مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن. قال الطبري: وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب. والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية. الثانية: قول ابن عباس: إنى لأتزين لامرأتي. قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت. لان اللحية لم توفر بعد، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك. وروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال، «أمرني ربى أن أعفى لحيتي وأحفى شاربي». وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال. وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به. فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الاظفار فهو بين موافق للجميع. والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلى الرجال على ما يأتي بيانه في سورة النحل. ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره. وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوى شهوته حتى يعفها. الثالثة: قوله تعالى: {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي منزلة. ومدرجة الطريق: قارعته، والأصل فيه الطي، يقال: درجوا، أي طووا عمرهم، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها. ويقال: رجل بين الرجلة، أي القوة. وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما. وفرس رجيل، أي قوى، ومنه الرجل، لقوتها على المشي. فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد. وقال حميد: الدرجة اللحية، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها. قال ابن العربي: فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه. وقيل: الدرجة الصداق، قاله الشعبي. وقيل: جواز الأدب. وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه السلام: «ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». وقال ابن عباس: الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع. قال الماوردي، يحتمل أنها في حقوق النكاح، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها. قلت: ومن هذا قوله عليه السلام: «أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح». {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي منيع السلطان لا معترض عليه. {حَكِيمٌ} أي عالم مصيب فيما يفعل.
{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاق�
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:57 am | |
| {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى: احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} لان الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله: {فَإِنْ طَلَّقَها} على قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء. وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة: إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهى في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأى. وفيه قول ثان وهو أن الطلاق لا يلزمها، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال: إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لان نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل. الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام. الثانية: المراد بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها} الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه. واختلفوا فيما يكفى من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كاف. وقال الحسن بن أبى الحسن: لا يكفى مجرد الوطي حتى يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطي كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي: ما مرت بى في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الانزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطي، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد ابن المسيب قال: أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها. قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب معاني القرآن له. قال: واهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع، لأنه قال: {زَوْجاً غَيْرَهُ} فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح هاهنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها. قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه». قال بعض علماء الحنفية: من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا: ويفهم من قوله عليه السلام: «حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه» استواؤهما في إدراك لذة الجماع، وهو حجة لاحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها. الثالثة: روى النسائي عن عبد الله قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا ومؤكله والمحلل والمحلل له. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المحلل والمحلل له. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأى. وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يزوجها بنكاح جديد. قال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا، فإن أصابها فلها مهر مثلها، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها، ولا يقر على نكاحه ويفسخ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وفيه قول ثان روى عن الثوري في نكاح الخيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل، وهو قول ابن أبى ليلى في ذلك وفى نكاح المتعة. وروى عن الأوزاعي في نكاح المحلل: بئس ما صنع والنكاح جائز. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء. وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه: لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها، ومرة قالوا: تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث- قال الشافعي: إذا قال أتزوجك لاحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا. فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا أشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم: أحدهما مثل قول مالك، والآخر مثل قول أبى حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط، وهو قول داود. قلت: وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول، قال: وهو قول الشافعي. وقال الحسن وإبراهيم: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهذا تشديد. وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله داود بن على إذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد. الرابعة: مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح، وسواء شرط ذلك أو نواه، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها. وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء. وقد قيل: إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها، ولا يقصد به التحليل، ويكون وطؤه لها وطأ مباحا: لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا مسلما. وقال الشافعي: إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة، وسواء في ذلك قوى النكاح وضعيفه، وسواء أدخله بيده أم بيدها، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصى، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة، وهذا كله- على ما وصف الشافعي- قول أبى حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح، وقول بعض أصحاب مالك. الخامسة: قال ابن حبيب: وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان قد أحتسب في تحليلها الأجر لم يجز، لما خالط نكاحه من نية التحليل، ولا تحل بذلك للأول. السادسة: وطئ السيد لامته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها، إذ ليس بزوج، روى عن علي بن أبى طالب، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبى سليمان وأبى الزناد، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق. والقول الأول أصح، لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح. السابعة: في موطإ مالك أنه بلغه أن سعيد بن السيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبد اله جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين؟ فقالا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. الثامنة: روى عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة، فقال: تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره. قال أبو عمر: وعلى هذا جماعة العلماء وائمة الفتوى: مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون: إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين، على عموم قوله عز وجل: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. قال أبو عمر: وهذا خطأ من القول، لأن قوله عز وجل: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} لا يبيح الأمهات ولا الأخوات، فكذلك سائر المحرمات. التاسعة: إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها، فقالت طائفة: الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأى. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الله تعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والنصراني زوج. وقال مالك وربيعة: لا يحلها. العاشرة: النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور. مالك والثوري والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأى وأحمد وإسحاق وأبى عبيد، كلهم يقولون: لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح، وكان الحكم يقول: هو زوج. قال ابن المنذر: ليس بزوج، لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت ودخل على زوجي وصدقها أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته. الحادية عشرة: جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقال ابن عمر: التحليل سفاح، ولا يزالان زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر: لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك، ولا خلاف أنه لا رجم عليه. قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها} يريد الزوج الثاني. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} أي المرأة والزوج الأول، قال ابن عباس، ولا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وأى بن كعب وعمران ابن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبى ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو أن النكاح جديد والطلاق جديد، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب. وذكر أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال، وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي. الثانية: قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ} شرط. قال طاوس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه. وقيل: حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أوكان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج واخذ ما كان أعطاها من الصداق، وقد روى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج امرأة من بنى بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال: «دلستم على». واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة، فقال مرة: لها جميع الصداق، وقال مرة: لها نصف الصداق، وهذا ينبني على اختلاف قوله: بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول؟ قولان. الثالثة: قال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس على الزوجة خدمة، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}. وقال بعض أصحابنا: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبو ة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل. وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم، وذلك أن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وقر جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الامر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك. الرابعة: قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حدود الله: ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة: امتنعت من الزينة، ورجل محدود: ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع. وقد تقدم هذا مستوفى. وإنما قال: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لان الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.
| |
|
| |
ابو شنب المدير العام
عدد المساهمات : 10023 نقاط : 26544 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 08/12/2015
| موضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) الخميس ديسمبر 31, 2015 12:59 am | |
| {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} معنى بلغن قاربن، بإجماع من العلماء، ولان المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهى، لأن المعنى يقتضى ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى. الثانية: قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبد الرحمن بنمهدى، وقاله من الصحابة عمر وعلى وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال: إن ذلك سنة. ورواه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، وهذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} وقال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} الآية، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله، أو بسنة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا معارض لها. والحجة للأول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح البخاري: «تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني» فهذا نص في موضع الخلاف. والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله: إنها طلقة بائنة، لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية، أصله طلاق المولى. الثالثة: قوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني فطلقوهن، وقد تقدم. {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا} روى مالك عن ثور بن زيد الديلي: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعظهم الله به. وقال الزجاج: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله. وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ}. فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها، وهذا ظاهر. الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً} معناه لا تأخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته. قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول: كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال عليه السلام: «من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد». رواه معمر قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبى الدرداء فذكره بمعناه. وفى موطإ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس: إنى طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى على؟ فقال ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا. وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن على قال: سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا طلق البتة فغضب وقال: «تتخذون آيات الله هزوا- أو دين الله هزوا ولعبا من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ». إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث. وروى عن عائشة: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك. قالت: وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت تقضين عدتك راجعتك، فنزلت: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً}. قال علماؤنا: والأقوال كلها داخلة في معنى الآية، لأنه يقال لمن سخر من آيات الله: اتخذها هزوا. ويقال ذلك لمن كفر بها، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية. وآيات الله: دلائله وأمره ونهيه. الخامسة: ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى. وخرج أبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة». وروى عن علي بن أبى طالب وابن مسعود وأبى الدرداء كلهم قالوا: «ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد: النكاح والطلاق والعتاق». وقيل: المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين. ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه. السادسة: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بالإسلام وبيان الأحكام. {وَالْحِكْمَةِ}: هي السنة المبينة على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب. {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي يخوفكم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقدم.
{وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} روى أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبى البداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال: وجهى من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت الآية. قال مقاتل: فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معقلا فقال: «إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبى البداح» فقال: آمنت بالله، وزوجها منه. وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ}. وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فخطبت إلى فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت: منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلى أتيتني تخطبها مع الخطاب! لا أزوجك أبدا! فأنزل الله، أو قال أنزلت: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ} فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. في رواية للبخاري: فحمى معقل من ذلك أنفا، وقال: خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها! فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى. وقيل: هو معقل بن سنان بالنون. قال النحاس: رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان. وقال الطحاوي: هو معقل بن سنان. الثانية: إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولى لان أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الامر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} للأولياء، وأن الامر إليهم في التزويج مع رضاهن. وقد قيل: إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها. واحتج بها أصحاب أبى حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا: لان الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ولم يذكر الولي. وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى. والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول. والله أعلم. الثالثة: قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} بلوغ الأجل في هذا الموضع: تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة. و{تَعْضُلُوهُنَّ} معناه تحبسوهن. وحكى الخليل: دجاجة معضل: قد أحتبس بيضها. وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت على. وأعضل الامر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم: إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه. وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها. وفي حديث معاوية:- معضلة ولا أبا حسن، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج. وقال طاوس: لقد وردت عضل أقضيه ما قام بها إلا ابن عباس. وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي: إذا المعضلات تصديننى *** كشفت حقائقها بالنظر ويقال: أعضل الامر إذا اشتد. وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء. وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضلها بالضم والكسر لغتان. الرابعة: قوله تعالى: {ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ} ولم يقل ذلكم لأنه محمول على معنى الجمع. ولو كان ذلكم لجاز، مثل: {ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي ما لكم فيه من الصلاح. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك.
| |
|
| |
| تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة البقرة}رقم(2) | |
|