{تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)}
قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ} {تَبارَكَ} اختلف في معناه، فقال الفراء: هو في العربية و{تقدس} واحد، وهما للعظمة.
وقال الزجاج: {تَبارَكَ} تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذى خير.
وقيل: {تَبارَكَ} تعالى.
وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر.
وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق، من برك الشيء إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت. فأما القول الأول فمخلط، لان التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شي. قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك، لأنه ينتهى في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف.
وقال الطرماح:
تباركت لا معط لشيء منعته *** وليس لما أعطيت يا رب مانع
وقال آخر:
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر ***
قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى {المبارك} وذكرناه أيضا في كتابنا. فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع. وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء أختلف في عده، كالدهر وغيره. وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله. و{الْفُرْقانَ} القرآن.
وقيل: إنه اسم لكل منزل، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ}.
وفي تسميته فرقانا وجهان: أحدهما- لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر.
الثاني- لان فيه بيان ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش. {عَلى عَبْدِهِ} يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} اسم {يكون} مضمر يعود على {عَبْدِهِ} وهو أولى لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون يعود على {الْفُرْقانَ}. وقرأ عبد الله بن الزبير {على عباده}. ويقال: أنذر إذا خوف، وقد تقدم في أول البقرة. والنذير: المحذر من الهلاك. الجوهري: والنذير المنذر، والنذير الإنذار. والمراد ب {العالمين} هنا الانس والجن، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الانس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق. قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} عظم تعالى نفسه. {ولم يتخذ ولدا} نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله، يعني بنات الله سبحانه وتعالى. وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، جل الله تعالى. وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك. {ولم يكن له شريك في الملك} كما قال عبدة الأوثان.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد. فالآية رد على هؤلاء. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر، فإياه فاعبدوه. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. {لا يَخْلُقُ شَيْئاً} يعني الآلهة. {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل. {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف.
وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات. {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً} أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الأحياء بعد الموت، أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم.
وقال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجبا للميت الناشر
{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي قريش.
وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحرث، وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن إسحاق: وكان مؤذيا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {إِنْ هَذا} يعني القرآن. {إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ} أي كذب اختلقه. {وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني اليهود، قاله مجاهد.
وقال ابن عباس:
المراد بقوله: {قَوْمٌ آخَرُونَ} أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. وقد مضى في النحل ذكرهم. {فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً} أي بظلم.
وقيل: المعنى فقد أتوا ظلما. {وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث.
وقال غيره: أساطير جمع أسطار، مثل أقوال وأقاويل. {اكْتَتَبَها} يعني محمدا. {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ} أي تلقى عليه وتقرأ. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} حتى تحفظ. و{تُمْلى} أصله تملل، فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف: كقولهم: تقضى البازي، وشبهه. قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم. وذكر {السِّرَّ} دون الجهر، لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم. ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه. {إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم.
{وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (
}
قوله تعالى: {وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَقالُوا} ذكر شيئا آخر من مطاعنهم. والضمير في {قالُوا} لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلس مشهور، وقد تقدم في {سبحان}. ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنة- أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام، لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الاكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك، فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها.
الثانية: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفى البخاري في صفته عليه السلام: «ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق». وقد تقدم في الأعراف
. وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين، كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، خرجه البخاري. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله. قوله تعالى: {لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي هلا. {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} جواب الاستفهام. {أَوْ يُلْقى} في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى {إِلَيْهِ كَنْزٌ} {أَوْ} هلا {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} {يَأْكُلُ} بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فأن يعود الضمير عليه أبين، ذكره النحاس. {وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} تقدم في سبحان والقائل عبد الله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي.
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)}
قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ} أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ} شرط ومجازاة، ولم يدغم {جَعَلَ لَكَ} لان الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. {وَيَجْعَلْ لَكَ} في موضوع جزم عطفا على موضع {جَعَلَ}. ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا: {ويجعل لك} بالرفع، أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لان من فيه مقصور عن أن يوصل إليه.
وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيري.
وروى سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة، فقال: {يجمع ذلك لي في الآخرة} فأنزل الله عز وجل: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}. ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام، وهذا سفط- فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع، فقال: «يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلى وأن أكون عبدا صابرا شكورا». فقال رضوان: أصبت! الله لك. وذكر الحديث.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)}
قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} يريد يوم القيامة. {وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} يريد جهنم تتلظى عليهم. {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أي من مسيرة خمسمائة عام. {سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم.
وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح، لما روى مرفوعا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من كذب على متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا. قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟ قال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه» في رواية«فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب
السمسم» ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إنى وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين».
وفي الباب عن أبى سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال الكلبي: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بنى آدم وصوتا كصوت الحمار.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا.
وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا، كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الورى *** متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا.
وقيل: {سَمِعُوا لَها} أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} و{في واللام} يتقاربان، تقول: أفعل هذا في الله ولله. قوله تعالى: {وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح، ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبد الله بن عمرو. ومعنى {مُقَرَّنِينَ} مكتفين، قاله أبو صالح.
وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الاغلال.
وقيل: قرنوا مع الشياطين، أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في إبراهيم وقال عمرو بن كلثوم:
فأبوا بالنهاب وبالسبايا *** وأبنا بالملوك مقرنينا
{دعوا هنالك ثبورا} أي هلاكا، قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أول من يقوله إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول وا ثبوراه». وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا، قاله الزجاج.
وقال غيره: هو مفعول به. قوله تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.
{قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)}
قوله تعالى: {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. إن قيل: كيف قال: {أَذلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار، فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه.
وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال:
فشركما لخير كما الفداء ***
قيل: إنما قال ذلك لان الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين.
وقيل: هو مردود على قوله: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ} الآية.
وقيل: هو مردود على قوله: {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها}.
وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا. قوله تعالى: {لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ} أي من النعيم. {خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا} قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم فسألوه ذلك الوعد فقالوا: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ}. وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة، دليله قوله تعالى: {رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} الآية. وهذا قول محمد ابن كعب القرظي.
وقيل: معنى {وَعْداً مَسْؤُلًا} أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين، حكى عن العرب: لأعطينك ألفا.
وقيل: {وَعْداً مَسْؤُلًا} يعني أنه واجب لك فتسأله.
وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الأول.