{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}
قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود: {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي: وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية الصحيح فطلقوهن لقبل عدتهن وهو تفسير، فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف. قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} يعني اليهود والنصارى. {وَالْمُشْرِكِينَ} في موضع جر عطفا على أَهْلِ الْكِتابِ. قال ابن عباس أَهْلِ الْكِتابِ: اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها، وهم مشركو قريش. {مُنْفَكِّينَ} أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ} أي أتتهم البينة، أي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء.
وقيل: مُنْفَكِّينَ زائلين، أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. واصل الفك: الفتح، ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة:
فآليت لا ينفك كشحي بطانة *** لعضب رقيق الشفرتين مهند
وقال ذو الرمة:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة *** على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا
يريد: ما تنفك مناخة، فزاد {إلا}.
وقيل: مُنْفَكِّينَ: بارحين، أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابهم، حتى بعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]. ولهذا قال: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} [البينة: 4] الآية. وعلى هذا فقوله: {وَالْمُشْرِكِينَ} أي ما كانوا يسيئون القول في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين: مُنْفَكِّينَ هالكين من قولهم: أنفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزير ابن الله. ومن النصارى من قال: عيسى هو الله. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة.
وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: وَالْمُشْرِكِينَ.
وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضا، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك. وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواما بأعيانهم، تصفهم بالأمرين. فالمعنى: من أهل الكتاب المشركين.
وقيل: إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون، الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم- وهم الذين ليس لهم كتاب- منفكين. قال القشيري: وفية بعد، لان الظاهر من قوله حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أن هذا الرسول هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منفكين حتى يأتيهم محمد، إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد- وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث الله محمدا إليهم ويبين لهم الآيات، فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم والمشركون رفعا، عطفا على الَّذِينَ. والقراءة الأولى أبين، لان الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب.
وفي حرف أبي: فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين.
وفي مصحف ابن مسعود: لم يكن المشركون واهل الكتاب منفكين. وقد تقدم. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} قيل حتى أتتهم. والبينة: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي بعيث من الله جل ثناؤه. قال الزجاج: رَسُولٌ رفع على البدل من الْبَيِّنَةُ.
وقال الفراء: أي هي رسول من الله، أو هو رسول من الله، لان البينة قد تذكر فيقال: بينتي فلان.
وفي حرف أبي وابن مسعود {رسولا} بالنصب على القطع. {يَتْلُوا} أي يقرأ. يقال: تلا يتلو تلاوة. {صُحُفاً} جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. {مُطَهَّرَةً} قال ابن عباس: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة.
وقال قتادة: من الباطل.
وقيل: من الكذب، والشبهات. والكفر، والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب، ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب، لأنه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. ومُطَهَّرَةً: من نعت الصحف، وهو كقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14- 13]، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن.
وقيل: مُطَهَّرَةً أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون، كما قال في سورة {الواقعة} حسب ما تقدم بيانه.
وقيل: الصحف المطهرة: هي التي عند الله في أم الكتاب، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء من الكتب، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22- 21]. قال الحسن: يعني الصحف المطهرة في السماء. {فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي مستقيمة مستوية محكمة، من قول العرب: قام يقوم: إذا استوى وصح.
وقال بعض أهل العلم: الصحف هي الكتب، فكيف قال في صحف فيها كتب؟ فالجواب: أن الكتب هنا: بمعنى الأحكام، قال الله عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] بمعنى حكم.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله لأقضين بينكما بكتاب الله» ثم قضى بالرجم، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب، فالمعنى: لأقضين بينكما بحكم الله تعالى.
وقال الشاعر:
وما الولاء بالبلاء فملتم *** وما ذاك قال الله إذ هو يكتب
وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان.
{وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)}
قوله تعالى: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم مظنون بهم علم فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر: بغيا وحسدا، ومنهم من آمن، كقوله تعالى: {وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14].
وقيل: الْبَيِّنَةُ: البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: {قَيِّمَةٌ} [البينة: 5]: حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله: وَما تَفَرَّقَ: حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.
{وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَما أُمِرُوا} أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} أي ليوحدوه. واللام في لِيَعْبُدُوا بمعنى {أن}، كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] أي أن يبين. و{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8]. {وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} [الأنعام: 71].
وفي حرف عبد الله: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي العبادة، ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11].
وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره.
الثانية: قوله تعالى: {حُنَفاءَ} أي مائلين عن الأديان كلها، إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السلام.
وقيل: الحنيف: من اختتن وحج، قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام، أي مال إليه.
الثالثة: قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ} أي يعطوها عند محلها. {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي الدين المستقيم.
وقال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة. والْقَيِّمَةِ: نعت لموصوف محذوف. أو يقال: دين الامة القيمة بالحق، أي القائمة بالحق.
وفي حرف عبد الله وذلك الدين القيم. قال الخليل: الْقَيِّمَةِ جمع القيم، والقيم والقائم: واحد.
وقال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة.
وقيل: الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة.
وقال محمد بن الأشعث، الطالقاني الْقَيِّمَةِ ها هنا: الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ} الْمُشْرِكِينَ: معطوف على الَّذِينَ، أو يكون مجرورا معطوفا على أَهْلِ. {فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين، من قولهم: برأ الله الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} [الحديد: 22]. الباقون بغير همز، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء: إن أخذت البرية من البرى، وهو التراب، فأصله غير الهمز، تقول منه: براه الله يبرؤه بروا، أي خلقه. قال القشيري: ومن قال البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة.
وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته، فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف، لأنه يجب منه تخطئة من همز. وقوله شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم.
وقال قوم: أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} [البقرة: 47] أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شر منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ: إما على التعميم، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة، وقد مضى في سورة البقرة القول فيه.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: المؤمن أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده.
{جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (
}
قوله تعالى: {جَزاؤُهُمْ} أي ثوابهم. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي خالقهم ومالكهم. {جَنَّاتُ} أي بساتين. {عَدْنٍ} أي إقامة. والمفسرون يقولون: جَنَّاتُ عَدْنٍ بطنان الجنة، أي وسطها، تقول: عدن بالمكان يعدن عدنا وعدونا: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره. قال الأعشى:
وإن يستضافوا إلى حكمه *** يضافوا إلى راجح قد عدن
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} لا يظعنون ولا يموتون. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي رضي أعمالهم، كذا قال ابن عباس. {وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضوا هم بثواب الله عز وجل. {ذلِكَ} أي الجنة. {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي خاف ربه، فتناهي عن المعاصي.