الأوضاع الحضارية في الأندلس الأموية
هذا موجز لمجمل الأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية للأندلس في العصر الأموي [1] لنعرف إلى أي مدى استطاع الأمويون أن يحققوا لدولتهم الاستقرار والازدهار في شتى الميادين، وأن يهيؤوها للقيام بالدور الحضاري العظيم الذي قيامت به في عالم العصور الوسطى.
النظام السياسي والإداري في الحكومة الأندلسية
منصب الحاجب
قامت حكومة عبد الرحمن الداخل من البداية على غرار حكومة أسلافه في دمشق، حيث كان هو الرئيس الأعلى للدولة، يحكم من خلال مجلس استشاري ضم إليه خيرة الرجال المخلصين له ولدولتهم، لكن بمرور الزمن بدأت حكومة قرطبة -التي اتخذها عبد الرحمن عاصمة- تتميز عن حكومة المشرق في نظامها السياسي والإداري من ناحية الأسلوب والوظائف السياسية والإدارية.
فعلى سبيل المثال كان لدى الأمويين في المشرق وظيفة الحاجب، ولم يكن دوره يتعدى تنظيم دخول الناس على الخليفة أو الأمير، حسب أهميتهم، فهو بمثابة السكرتير الخاص للخليفة، أما في الأندلس فكانت وظيفة الحاجب منذ إنشائها ذات أهمية كبيرة، وأصبح الحاجب هو الرجل الثاني في الدولة بعد الأمير أو الخليفة، فهو بمثابة رئيس الوزراء.
ولأهمية منصب الحاجب فقد كان الأمويون يختارون له أبناء البيوتات من ذوي الشرف، وظهرت أسماء كثيرة تنتمي إلى أسر مثل أسرة شهيرة بني مغيث وبني أبي عبدة وبني شهيد والمصحفي ... إلخ.
الوزارة والوزراء
والوزارة أيضا اختلف مضمونها ومؤداها عن سميتها في المشرق، حيث لم يكن سوى وزير واحد، يتلقى أوامره من الخليفة وينفذها، إذا كانت شخصية الخليفة قوية وكان يسمى وزير تنفيذ، وإذا كانت شخصية خليفة ضعيفة كان الوزير يستبد بمعظم الأمور، فهو الذي ينفذ وعندئذ كان يسمى وزير تفويض [2].
أما في الأندلس فقد تعددت الوزارات- وكانت تسمى خطط- وأصبح لكل ناحية من نواحي الإدارة العامة وزير مختص، مثل وزارة المالية والترسيل والمظالم والثغور [3] ... إلخ.
القضاء والقضاة
ولقد اهتم الأمويون اهتماما كبيرا بالقضاء، وكانوا يختارون له -بعد مشاورة كبار العلماء والوزراء- أصلح الناس من المشهورين بالنزاهة وتحري العدل، وكان القضاء مستقلّا ولم يكن القضاة يسمحون لأحد من الأمراء أو الخلفاء أن يتدخل في عملهم، وكانوا يحكمون طبقا لمبادئ الحق والعدل كما تقضي بذلك الشريعة الإسلامية حتى لو كان ذلك ضد رغبة صاحب السلطان.
بل كان القضاة أحيانا يتعرضون بالنقد اللاذع للخلفاء في بعض التصرفات التي لا يرضون عنها، مع أنها كانت تخرج عن دائرة عملهم، كما حدث من القاضي منذر بن سعيد البلوطي، فقد انتقد الخليفة عبد الرحمن الناصر علنا في خطبة الجمعة -والخليفة يسمع- على إسرافه في النفقات التي أنفقها في بناء مدينة الزهراء بالقرب من العاصمة قرطبة، ومع أن الخليفة الناصر-وهو من هو- قد غضب غضبا شديدا من القاضي إلا إنه لم يتخذ ضده أي إجراء عقابي، وكل ما فعله أنه امتنع عن أن يصلي خلفه.
وقبل ذلك وفي بداية الدولة قضى القاضي عبد الرحمن بن طريف اليحصبي ضد رغبة وإرادة عبد الرحمن الداخل في قضية كانت موضع اهتمام الأمير، ومع ذلك قضى القاضي طبقا للحق والعدل لا طبقا لرغبة الأمير، ولم يتعرض لأي أذى [4].
ولقد اختلف القضاء الأندلسي في تنظيمه عن القضاء في المشرق الإسلامي، ففي الشرق استحدث العباسيون في عهد هارون الرشيد (170- 193 هـ/ 786- 808م) منصب قاضي القضاة، الذي أصبح له حق اختيار قضاة الولايات والإشراف عليهم.
أما الأندلس فلم تعرف هذا المنصب بهذا المعنى، وإنما عرفت ما سمي بقاضي الجماعة أو قاضي الحضرة، والمقصود به قاضي العاصمة قرطبة وحدها، ولم يكن له حق تعيين القضاة في الأقاليم الآخرى أو الإشراف عليهم، وكان هؤلاء يعينهم الأمير أو الخليفة، وهم مستقلون في عملهم تماما مثل قاضي الجماعة، ومن الخطط التي اهتم بها الأمويون خطة الحسبة لمراقبة الأسواق والمرافق العامة، كما اهتموا بالشرطة لضبط الأمن في بلد متعدد الأعراق والأهواء.
ولقد استحدث الأمويون خطة سموها خطة الشورى وكانوا يسندونها إلى كبار العلماء من ذوي الشرف والهيبة [5].
وهكذا أصبح للنظام السياسي والإداري في الأندلس طابع مميز، في الوقت الذي لم يتوقف فيه عن التأثر بما يحدث في المشرق، فقد أدخل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206- 238 هـ/ 822- 852م) كثيرا من نظم العباسيين وطقوسهم وبصفة خاصة في قصر الحكم [6] وأبهة البلاط.
وباختصار يمكن القول: إن الأندلس في العصر الأموي قد تمتعت في أغلب الأوقات بإدارة حسنة وشرطة فعالة ونظام قضائي محكم.
التسامح مع أهل الذمة
ويجدر بنا ونحن بصدد الحديث عن السياسة والإدارة الأموية في الأندلس أن ننوه بسياسة التسامح التي اتبعوها مع أهل الذمة من النصارى واليهود فقد كفلوا لهم الحرية الدينية والاجتماعية، وأنشؤوا منصبا خاصّا لإدارة شؤون أهل الذمة عرف صاحبه بالقومس، كما كان للنصارى المعاهدين قاض خاص، كما عين لهم مطران خاص، كان مركزه مدينة إشبيلية، وقد استمر هذا التسامح مع النصارى المعاهدين على الرغم مما كانوا يدبرونه في بعض الأحيان ضد الحكومة المسلمة من الدسائس والمؤامرات، ويعقدون من الصلات المريبة مع نصارى الشمال [7].
الجيش والأسطول في الحكومة الأندلسية
كان من الطبيعي أن يكون الجيش وتنظيمه وتسليحه أول ما يهتم به مؤسس الدولة الأموية في الأندلس؛ لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، وهي كثيرة، ولقد بلغ عدد الجيش في عهد عبد الرحمن الداخل أكثر من مائه ألف رجل، عدا حرسه الخاص الذي قدر بأربعين ألفا.
كذلك انتبه عبد الرحمن الداخل منذ وقت مبكر لأهمية الأسطول، وكان هذا أيضا أمرا طبيعيّا من أمير يحكم بلدا تحيط به المياه من ثلاث جهات، ويحيط به الأعداء من كل جانب.
ولقد بدأت أهمية الأسطول تزداد منذ ظهر الخطر النورماني على سواحل الأندلس الغربية، حيث غزوا إشبيلية في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230 هـ/ 843م). وفتكوا بأهلها، فتصدى الأسطول الأموي لهذه الغزوات، بل أصبح للأمويين أسطولان، واحد في المحيط الأطلسي في الغرب لمواجهة الخطر النورماني، والآخر في البحر الأبيض المتوسط في الجنوب والشرق، لمواجهة أي خطر يأتي من هناك، وقد بلغ عدد سفن الأسطول، زهاء مائتي سفينة في عهد عبد الرحمن الناصر، وواصل العامريون سياسة الأمويين في الاعتناء بالجيش والأسطول.
الأوضاع الاقتصادية في الأندلس الأموية
تجمع المصادر القديمة والبحوث الحديثة على السواء على أن الأندلس شهدت ازدهارا اقتصاديّا خلال الحكم الأموي لم يسبق له مثيل في تاريخها.
ازدهار الزراعة
حيث أقبل العرب منذ البداية على الأرض وعمروها وأنتجوا منها أطيب الثمار فقد أقاموا مشاريع الري اللازمة لارتقاء الزراعة، وقد ظلت هذه المشاريع صالحة إلى ما بعد إخراج المسلمين من الأندلس بعدة قرون، حيث يقول جوستاف لوبون [8]: "ولا يوجد في أسبانيا الحاضرة -في القرن التاسع عشر الميلادي- من أعمال الري خلا ما أتمه العرب" ا. هـ.
فبالإضافة إلى الارتقاء بالمحاصيل التقليدية التي كانت موجودة في الأندلس قبل الفتح الإسلامي؛ مثل الحبوب كالقمح والشعير وبعض أنواع الفواكه وغابات الأخشاب إضافة إلى هذا كله أدخل العرب معهم محاصيل كثيرة لم تكن معروفة في البلاد من قبل؛ مثل القطن وقصب السكر والأرز والتفاح والبطيخ والرمان الذي جلبه الأمويون من الشام، وخاصة رمان الرصافة الذي أحضره عبد الرحمن الداخل، ويروى أن الرجل الذي أحضره كان اسمه سفر بن عبيد التلاعي، فنسب إليه فقيل الرمان السفري [9].
وبهذا التنوع في المحاصيل الزراعية أصبحت الأندلس جنة واسعة، بفضل أساليب العرب الزراعية الفنية حسب تعبير جوستاف لوبون [10] ولذلك تعد الأندلس في الأدبيات الإسلامية الفردوس المفقود.
ازدهار الصناعة
وكما ازدهرت الزراعة ازدهرت الصناعة بمختلف أنواعها؛ فظهرت صناعات النسيج الصوفية والقطنية والكتانية والحريرية وازدهرت صناعة الأسلحة، والسفن الحربية والتجارية، وصناعة السكر والورق والزجاج وحتى صناعة التماثيل والتحف المعدنية [11].
والذي أدى إلى ازدهار الصناعة بهذا الشكل كثرة المعادن في باطن الأرض الأندلسية والتي بذل الأمويون جهودا كبيرة في استخراجها، مثل الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والزئبق ... إلخ.
ازدهار التجارة
وكانت النتيجة الطبيعية لازدهار الزراعة والصناعة أن تزدهر التجارة، وأصبح للأندلس أسطول تجاري بحري كبير يجوب المدن القريبة والبعيدة حاملا المنتجات الزراعية والصناعية الأندلسية، منطلقا من موانئ إشبيلية ومالقة ودانية وبلنسية والمرية، وقد اشتهرت العديد من المدن الأندلسية بنوع أو أكثر من المنتجات الصناعية، فقد اختصت جنجله Chinchila بالأغطية، وباسه Baza وكالسينه Calsena بالسجاد، وسرقسطة zaragoza بفراء السمور، ومالقه Malga بالخزف المذهب، وطليطلة Toledo بالمجوهرات المرصعة والجلود المنقوشة، وكذلك السلاح، واختصت شاطبة jativa بصناعة الورق.
وخلاصة القول
أن الأندلس في العصر الأموي (138- 442 هـ/ 756- 1031م) قد اجتمع لها من أسباب القوة ما بوأها مكان الصدارة بين الدول الإسلامية، وأصبحت قرطبة مركز الجاذبية السياسية في غرب أوربا، إليها تتجه الأنظار في طلب المودة ونشدان العلاقات الدبلوماسية [12].
إلى قرطبة جاءت وفود الدول الكبرى من أوربا، من القسطنطينية وفرنسا وألمانيا، أما نصارى شمال أسبانيا فكانوا يعتبرون عبد الرحمن الناصر (300- 350 هـ/ 912- 961م) مرجعهم وحكمهم في خلافاتهم.
وخير ما نختم به هذه السطور قول العلامة أميلوجارثيا جومث: "لقد كانت الخلافة القرطبية بناء هائلا، لم يولد صدفة؛ لأنه أتى ليتوج فترة طويلة من التشكل ومن السعي لتحقيق التوازن والتالف بين السلالات والعناصر المختلفة للمجتمع، فقد قامت على هدف وغاية سامية، وتشبعت بالتراث، وكان لها فن مميز، وكان لديها نظم إدارية فعالة، وفي خدمتها عائلات متمرسة لعدة أجيال على السياسة، واقتصادها -حسبما نعلم- كان ينعم بالازدهار والصحة؛ والدليل على ذلك أن الحكم الثاني (350- 366 هـ/ 961- 976م) قام قبل موته بقليل بتخفيض الأعباء الضريبية على رعاياه، لقد كانت باختصار دولة قوية متحضرة، لا منافس لها على الإطلاق في عالم الغرب" [13] ا. هـ.
يروي المقري أن عبد الرحمن الناصر ترك في خزائنه عند وفاته ما يقرب من عشرين مليون دينار ذهبا [14].
إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا الذي تركه عبد الرحمن الناصر، وهو مبلغ هائل بحساب تلك الأيام- كان فائضا بعد سلسلة المشاريع العمرانية الكثيرة التي قام بها مثل مدينة الزهراء والإنفاق العسكري والمدني الهائل- إذا أخذا ذلك في الاعتبار أدركنا درجة الثراء والرخاء الاقتصادي الذي كانت تتمتع به الأندلس في العصر الأموي، والذي انعكس بدوره على الحياة الاجتماعية.