حضارة الأندلس في فترة الخلافة الأموية
يعد عصر الخلافة الأندلسية (300 - 422 هـ)، عصر النضوج للعلوم والفكر الأندلسي، ونظراً لطول هذه الفترة أولاً، ولتسهيل دراسة الفكر الأندلسي خلال هذا العصر ثانياً، نقسم هذا العصر إلى ثلاثة أقسام:-
1 - فترة الخلافة (300 - 366هـ)، وتولى الحكم فيها الخليفة عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ) وابنه الحكم المستنصر (350 - 366 هـ).
2 - فترة الحجابة (366 - 399هـ)، وهي الفترة التي سيطر فيها الحاجب المنصور وأولاده على الخلافة الأندلسية.
3 - فترة الفتنة (399 - 422هـ)، والتي أدت إلى قيام عصر الطوائف.
الحركة العلمية في فترة الخلافة الأندلسية
نهضت الحركة العلمية في فترة الخلافة الأندلسية (300 - 366هـ) نهضة شاملة، وكان من مظاهرها اتضاح الشخصية العلمية للأندلس واستقلالها. فقد شجع الناصر وابنه الحكم المستنصر العلماء المشارقة القادمين إلى الأندلس وأغدقا عليهم العطاء، وكانوا قد جلبوا الكتب القيمة، وترجموا الكتب الأجنبية المهمة، وحثوا على التأليف والبحث في مختلف المجالات.
فإذا كان الناصر قد أحسن استقبال الوافد أبي علي القالي وجعله مؤدبًا لابنه الحكم، فإن الخليفة الحكم اشتهر بحبه للكتب، فقد كانت له مكتبة تضم 400 ألف مجلد، وكان يحرص على اقتناء الكتب من أي مصدر، فلذلك نهضت الأندلس علميًا في شتى الميادين خلال هذه الفترة.
الترجمة في الأندلس
ففي مجال الترجمة، ترجم إلى العربية خلال هذه الفترة أهم كتابين: الأول كتاب هيروشيش المؤلف باللاتينية، والذي يحوي أخبار الروم في العصور القديمة وسير ملوكهم، وكتاب ديسقوريدس في الطب والصيدلة، وقد استعانت الخلافة الأندلسية بالدولة البيزنطية من أجل ترجمة هذين الكتابين [1].
اللغة في الأندلس
أما في مجال اللغة، فقد تأسست في هذه الفترة مدرسة للدراسات اللغوية في الأندلس، وذلك بعد قدوم أبي علي القالي، الذي وفد على الأندلس عام 330 هـ/941 م، وحمل القالي إلى الأندلس كثيراً من علم المشرق وأدبه، وبالذات دواوين اُمرئ القيس وزهير والنابغة والخنساء والأخطل وجرير والفرزدق وغيرهم [2]. هذا بالإضافة إلى كتب الأخبار واللغة. كما ألف كثيراً في الدراسات اللغوية، وأملى على طلبته الأندلسيين كتابه الأمالي.
وبالعكس رحل علماء أندلسيون في اللغة إلى بلاد المشرق، أمثال محمد بن يحيى بن عبد السلام (ت: 358هـ)، رحل إلى مصر ولقي فيها ابن النحاس، وأخذ عنه كتاب سيبويه، وعاد إلى الأندلس [3].
ويعني هذا تطور الدراسات اللغوية في الأندلس في هذه الفترة، وبرز علماء أفذاذ في هذا المجال أمثال: أبي بكر الزبيدي، وكان مؤدِّباً للأمير هشام المؤيد بن الحكم المستنصر، وأبي بكر بن القوطية المشهور بعلم التاريخ أيضاً.
التاريخ في الأندلس
وفي الحقل التاريخي، أشهر من ظهر في هذه الفترة: أحمد بن محمد بن موسى الرازي (ت: 324هـ) ،ولقب بالتاريخي لكثرة اشتغاله بالتاريخ [4]، وله عدة مؤلفات قد ضاعت.
وإذا كان كتاب تاريخ افتتاح الأندلس لأبي بكر بن القوطية أشهر مؤرخي هذه الفترة يظهر فيه ميل المؤلف إلى القوط أولاً ويكثر الحديث عن المولدين وحركاتهم ثانياً، فإن كتاب أخبار مجموعة لمؤلف مجهول الذي ظهر في هذه الفترة يتعصب للعرب عامة ولقريش خاصة، وإلى الأمويين بصورة أخص [5].
واشتهر كذلك المؤرخ عريب بن سعيد (ت: 369هـ)، وله كتابه المشهور صلة تاريخ الطبري، وعريب هذا اشتهر بالطب أيضاً. وممن عرفوا بكتابة التراجم في هذه الفترة أبو عبد الله الخشني (ت: 361هـ) صاحب كتاب تاريخ قضاة قرطبة.
علم الجغرافيا في الأندلس
ومع تطور علم التاريخ في هذه الفترة تطور علم الجغرافيا أيضاً، فقد كان أحمد بن محمد الرازي مؤرخاً وجغرافياً في آن واحد، وله كتاب باسم (مسالك الأندلس) [6]. ويعاصره الجغرافي محمد بن يوسف الوراق (ت: 363هـ) الذي دخل في خدمة الخليفة الحكم وألف كتاباً عن مسالك إفريقية [7].
واشتهرت هذه الفترة بالرحلات الجغرافية، ويأتي في مقدمتها رحلة إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي (من أهل القرن الرابع الهجري)، قام برحلات إلى بلاد أوروبا وقابل خلالها البابا يوحنا الثاني عشر في عام 350 هـ، وبعدها التقى بإمبراطور ألمانيا أوتو عام 354 هـ[8]، وقدم لنا معلومات قيمة خلال هذه الرحلة.
العلوم الدينية في الأندلس
أما في مجال العلوم الدينية، فبجانب شيوع المذهب المالكي في الأندلس، والذي كان من أقطابه في هذه الفترة، يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي (ت: 367هـ)، وأبو بكر بن القوطية اللغوي والمؤرخ، كما شاع المذهب الشافعي بعد أن أدخله إلى الأندلس قاسم بن محمد بن سيار (ت: 278هـ)، وأصبح من أقطابه في هذه الفترة أسلم بن عبد العزيز بن هاشم، وأحمد بن عبد الوهاب بن يونس الذي عاصر الحكم المستنصر [9].وكذلك انتشر المذهب الظاهري، وكاد من أقطابه المنذر بن سعيد البلوطي خطيب جامع الزهراء المشهور [10].
أما في مجال تفسير القرآن، فاشتهر العالم عثمان بن محمد بن محاسن (ت: 356هـ)، وكان له باع طويل في علم التفسير، وكذلك ابن القوطية اللغوي والمؤرخ، واشتهر ابن الحجام يعيش بن سعيد الوراق الذي ألف مسند حديث بأمر الخليفة الحكم المستنصر[11].
الطب والصيدلة في الأندلس
أما العلوم العقلية فأخذت مكانها في الفكر الأندلسي خلال هذه الفترة، وكان الطب في مقدمة العلوم التي ازدهرت، ومثل هذا الازدهار ترجمة بعض الكتب الطبية الأجنبية إلى العربية، وكذلك شهرة الأطباء ويأتي في مقدمتهم: سعيد بن عبد ربه، الذي كانت له طريقة خاصة في معالجة الحميات، وكذلك أحمد بن يونس وأخوه عمر اللذان اشتهرا بتحضير الأدوية وعلاج أمراض العيون [12].
واشتهر محمد بن عبدون الجبلي برحلته المشرقية عام 347هـ/958م، وتزود من علوم البصرة ومصر ثم رجع إلى الأندلس عام 360هـ/970م، وخدم الخليفة الحكم المستنصر وابنه هشاماً المؤيد بالطب. وقد ذاعت شهرة هؤلاء الأطباء وغيرهم، حتى وفد بعض ملوك الإسبان إلى أطباء الأندلس لعلاج ما استعصى من أمراضهم [13].
ونتيجة ازدهار الطب والصيدلة في هذه الفترة، أسس الخليفة الحكم المستنصر ديوان الأطباء، يسجل فيه اسم كل طبيب يحترف مهنة الطب والصيدلة، وإذا ما ارتكب خطأ يتوجب العقاب أسقط اسمه من هذا الديوان [14].
الرياضيات والفلك في الأندلس
وتقدمت الدراسات الرياضية في هذه الفترة، وكان من روادها عبد الله بن محمد المعروف بالسري أيام الخليفة الحكم، وكذلك أبو بكر بن عيسى الذي كان يعقد مجالس العلم على أيام الخليفة الحكم أيضاً، وكان مشهوراً بالحساب والهندسة والفلك.
وكذلك العالم أبو غالب حباب بن عبادة الفرضي، عاش أيام الخليفة الناصر، الذي اشتهر بالحساب وله تأليف جيد في حساب الفرائض.
واشتهر أبو عبيدة مسلم بن أحمد صاحب القبلة (ت: 304هـ) بالأمور الفلكية، وكان عالماً بالحساب والنجوم وقد عارضه ببعض الأمور ابن عبد ربه الأندلسي [15].
الفلسفة في الأندلس
أما الفلسفة، فقد ورث هذا العلم محمد بن عبد الله بن مسرة (269 - 319هـ / 882 - 931م) عن أبيه عبد الله بن مسرة (ت: 286هـ/899م) حيث ذهب الوالد إلى المشرق، وسار على نهجه الابن الذي رحل أواخر عهد الأمير عبد الله (ت: 300هـ) إلى المشرق أيضاً، ثم عاد إلى الأندلس في مطلع القرن الرابع الهجري، فأظهر الزهد والورع، إلا أنه أخذ يبث تعاليمه بين تلاميذه.
فظهرت المدرسة المسرية التي انتمى لها بعض المفكرين الأندلسيين، أمثال: محمد بن مفرج المعافري، وخليل بن عبد الملك القرطبي، وطريف الروطي وغيرهم، إلا أن الفقهاء شنوا حملة شعواء ضد المدرسة المسرية اعتباراً من عام 340هـ/951م وساعدتهم السلطات الرسمية، إلا أن رعاية هذه المدرسة رجعت في عهد الخليفة الحكم (350 - 366 هـ) نظراً لسياسته المتسامحة مع المفكرين [16].
تطور الأدب الأندلسي
ونهض الأدب الأندلسي في فترة الخلافة الأندلسية نهضة كبيرة، ساعد عليها ما كان من رقي سياسي ونهوض وتفوق اجتماعي. وأخذت هذه النهضة الأدبية عدة مظاهر منها: ظهور بعض الاتجاهات الجديدة في الشعر: وقد مثله ابن عبد ربه أحسن تمثيل، وكذلك أبو الحزم جهور بن عبد الله بن أبي عبدة من الأسرة المشهورة [17].
وكذلك ظهور الأنواع الجديدة في النثر: فإلى جانب الأسلوب القديم للنثر والذي يسمى النثر الخالص، ظهر نوع جديد من النثر يسمى بالنثر التأليفي ويتألف من فرعين: الفرع الأول يسمى التاريخ الأدبي ويمثله كتاب (أخبار الشعراء بالأندلس) لمؤلفه محمد بن هشام المرواني، وكتاب (شعر الخلفاء من بني أمية) لمؤلفه عبد الله بن محمد بن مغيث، ومن المؤسف أن أكثر هذه المؤلفات قد ضاع [18].
أما الفرع الثاني فهو التأليف الأدبي، ويعني ظهور كتب أدبية بمفهوم القرن الثالث والرابع الهجري لكلمة أدب، وأحسن نموذج لكتب هذا الفرع، هو كتاب (العقد الفريد) لمؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي.
ومن مظاهر النهضة الأدبية الأخرى: تطور الاتجاهات الأدبية القديمة المعروفة، وكذلك وفرة النتاج الأدبي وتنوعه، إضافة إلى شيوع الأدب بين الأندلسيين شيوعاً جعله من أبرز سمات الحضارة الأندلسية في هذه الفترة [19]. ومن أشهر شعراء هذه الفترة بعد ابن عبد ربه الأندلسي، الشاعر أبو الحسن محمد بن هانئ الأزدي (326 - 362هـ) [20].