حضارة الأندلس في عهد المرابطين
أصبحت الأندلس ولاية مرابطية (484هـ - 540هـ)، فنتج عن ذلك الانفتاح الفكري الأندلسي على المغرب، حيث انتقلت الثقافات الأندلسية المتنوعة إلى المغرب، كما انتقل أبناء المغرب من قادة ورعية لينهلوا من علوم الأندلس والتزود من معارفها [1].
أعلام الكتاب وأئمة البلاغة
وعلى الرغم من إشارة بعض الروايات إلى ضمور الحركة الفكرية الأندلسية في ظل دولة المرابطين عما كانت عليه أيام ملوك الطوائف، إلا أن الحركة العلمية والأدبية في الأندلس لبثت خلال عهد المرابطين تحتفظ بكثير مما كان لها أيام الطوائف من قوة وحيوية، كما درس أكثر عمال المرابطين في الأندلس على أيدي أشهر العلماء [2].
واعتمد أمراء المرابطين وولاتهم قادة الفكر الأندلسي في تسيير أعمالهم، فنرى اعتماد يوسف بن تاشفين على الأديب الأندلسي عبد الرحمن بن أسباط، ولما توفي عام 487هـ، استعان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بالعالم محمد بن سليمان الكلاعي الإشبيلي المعروف بابن القصيرة، الذي كان استخدامه في البلاط المرابطي بداية لاحتشاد أعلام الكتابة الأندلسيين للخدمة فيه [3].
واحتشد في البلاط المرابطي إلى جانب ابن القصيرة عدد من أعلام الكتاب وأئمة البلاغة، منهم وزير بني الأفطس وصاحب المرثية المشهورة عبد المجيد بن عبدون الذي كتب ليوسف بن تاشفين وقيل لابنه علي وتوفي عام 520هـ، إضافة إلى الكاتب أبي عبد الله محمد بن مسعود بن أبي الخصال الذي كتب للأمير علي بن يوسف بن تاشفين ثم عزله فيما بعد وتوفي عام 540هـ، ولا ننسى خدمات الفتح بن خاقان الإشبيلي الذي خدم في قصور أمراء الطوائف، ثم التحق بخدمة أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي قتل عام 529هـ بمراكش.
ونرى من خلال دراسة ترجمة هؤلاء الكتاب وغيرهم، أنهم كانوا يتمتعون بمكانة مرموقة في بلاط المرابطين ويحملون لقب (ذو الوزارتين) أمثال أبي بكر بن القصيرة، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال الغافقي [4].
من أعلام المحدثين والفقهاء واللغويين
وخلال العصر المرابطي ظهر في الأندلس الكثير من أعلام المحدثين والفقهاء، فقسم منهم تعاون مع ولاة المرابطين في الأندلس، وقسم آخر ذهب إلى مراكش ودخل في خدمة المرابطين هناك، ومن أشهرهم الفقيه أبو محمد عبد الحق بن غالب المحاربي (توفي سنة 542هـ) من أهل غرناطة، ويبدو أنه تعاون مع المرابطين في الأندلس ومدحهم بأشعاره.
والفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري من أهل المرية، ودخل في خدمة المرابطين في أواخر أيامهم، ثم انحاز إلى دولة الموحدين إلى أن توفي بمراكش عام 559هـ. ومنهم الفقيه عبد الله بن محمد بن عبد الله النفري المعروف بالمرسي (453 - 538 هـ) ولد ودرس بمرسية، ثم انتقل إلى مدينة سبتة وتولى الخطابة بجامعها، ورجع إلى الأندلس وتوفي في قرطبة.
كما نبغ في العصر المرابطي بعض أئمة اللغة في الأندلس، ومنهم أحمد بن عبد الجليل المعروف بالتدميري، نشأ في المرية، وسكن بجاية في ظل بني حماد ثم توفي في مدينة فاس عام 555هـ [5].
النهضة العلمية في عهد المرابطين
وأما عن العلوم، فقد حظيت الأندلس بنهضة علمية في هذه الفترة، والتي كانت امتدادًا للنهضة الفكرية التي ظهرت في عصر الطوائف.
ابن باجة
وكان في مقدمة العلماء الذين ظهروا في عصر السيطرة المرابطية أبو بكر محمد بن يحيى بن الضائع التجيبي المعروف بابن باجة (ت: عام 533هـ) وأصله من سرقسطة نشأ فيها في أواخر مملكة بني هود، ونبغ في الرياضيات والفلك والفلسفة.
ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم المسوفي، وهو ابن عم يوسف بن تاشفين وحكم سرقسطة عام 508هـ، استوزر أبا بكر بن باجة وأغدق عليه رعايته وعنايته، بالرغم مما كان ينسب إليه من الآراء الفلسفية. ولما سقطت سرقسطة بيد الإسبان عام 512هـ غادرها ابن باجة إلى إشبيلية ثم إلى شاطبة، ومنها نزح إلى المغرب وتوفي في مدينة فاس عام 533هـ [6].
أسرة بني زهر الطبيَّة
واشتهرت أسرة بني زهر بعلم الطب، وكان عميدها عبد الملك بن محمد بن زهر الإيادي، وخلفه في المهنة ولده زهر بن عبد الملك الذي أصبح عمدة عصره في الطب وتوفي عام 525هـ بقرطبة ودفن في إشبيلية. وجاء من بعده ولده عبد الملك بن زهر الذي ذاع صيته في المغرب والأندلس، واتصل بالمرابطين، وصنف للأمير أبي إسحاق بن يوسف بن تاشفين كتابه المعروف (الاقتصاد في صلاح الأجساد)، كما له كتاب في الطب مشهور باسم (التيسير)، توفي في إشبيلية عام 557هـ، وقد كتب وصفًا دقيقًا لبعض الأمراض وبخاصة التهاب غشاء القلب وأعراض السرطان [7].
من علماء الطب والزراعة
وأشهر أطباء العصر أيضًا علي بن عبد الرحمن الخزرجي، من أهل طليطلة برع بالطب إلى جانب تمكنه في الفقه، ولما استولى الإسبان على طليطلة عام 478هـ، رحل في بلاد الأندلس واستقر أخيرًا في قرطبة وتوفي فيها عام 499هـ . وشاركهُ في الاهتمام بالطب أيضًا أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت (460 - 529 هـ) من أهل دانية، إلا أنه قضى معظم حياته متنقلًا بين مصر وأفريقية.
واشتهر بالزراعة في الأندلس خلال هذه الفترة العلامة الزراعي أبو عبد الله محمد بن مالك التغنري من قرية تغنر من أعمال غرناطة، ودرس العلوم الزراعية على يد ابن البصال الطليطلي، وله كتاب (زهر البستان ونزهة الأذهان) [8].
الشعر في عصر المرابطين
لقد كان قدوم المرابطين إلى الأندلس بداية عهد جديد يؤذن بتواري العاهل الأندلسي وقيام عاهل مرابطي لكل منهما ذوقه الأدبي، وموقفه من الشعر والشعراء، فلا ينكر أن طبقة الشعراء أصبحت في الظل على عهد المرابطين وتقدمت عليها طبقة الفقهاء.
فنرى نتيجة ذلك أن بعض شعراء الأندلس أمثال ابن خفاجة (توفي عام 533هـ) وابن أخته يحيى بن عطية بن الزقاق (توفي عام 529هـ) لم يتأثروا كثيرًا بقدوم المرابطين، كما كان حالهم في عصر الطوائف، وكذلك دفع الأمر بعض أدباء الأندلس إلى جمع تراثهم الأدبي والحفاظ عليه من الضياع فصنف ابن بسام (توفي عام 542هـ) كتابه المشهور (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وصنف الفتح بن خاقان (توفي عام 535هـ) كتابي قلائد العقيان ومطمح الأنفس.
وقد أشار ابن بسام -بصورة خاصة- إلى أن الكساد قد أصاب الشعر في الأندلس بعد انقراض عصر ملوك الطوائف. كما نلاحظ الكثير من شعراء الأندلس في هذا العهد تركوا البلاد وهاجروا إلى الخارج واستقر قسم منهم في الجزائر الشرقية (البليار) وقسم في تونس والجزائر، بعيدًا عن سلطان المرابطين أمثال الشاعر ابن اللبانة، والشاعر ابن حمديس الصقلي.
وعندما وجد فريق من الشعراء نفسه مضطرًا على البقاء في الأندلس، اضطر إلى المداهنة، وإلى توجيه أشعاره إلى الفقهاء والكتاب الأندلسيين الذين تولوا مناصب الوزارة والكتابة للمرابطين. ونظرًا لأن هؤلاء لم يكونوا في ثراء ملوك الطوائف أو هيبتهم الأدبية، فقد هبط الشعر الرسمي عن مستواه، وصار سلسًا إلى درجة تقرب من الضعف، كما كثر فيه الاستعطاف، والترحيب بالسادة الجدد، والتندر بعيوب ملوك الطوائف.
الموشحات الأندلسية والزجل
وإذا كان مقدم بن معافى القبري (توفي عام 299هـ) قد ابتكر الموشحات الأندلسية، فإنها تطورت في عصر الطوائف على يد الشاعر أبي بكر عبادة بن ماء السماء (توفي عام 422هـ)، ثم تبعه الشاعر ابن اللبانة والأعمى التطيلي وغيرهما، في عصر المرابطين مما يدل على غلبة ذوق العوام، وإلى التهاون في استعمال اللغة العربية، فمال هؤلاء الشعراء الفحول إلى نظم هذه الموشحات لأنهم كانوا يعيشون في مجتمع يميل إلى كل ما هو شعبي.
وقد أدى هذا الأمر إلى ظهور شعر الزجل الذي اشتهر به محمد بن عبد الله بن قزمان (توفي عام 554هـ)، وإذا رأينا الموشح يعتمد نظم القوافي، فالزجل يمثل مظهرًا من مظاهر ضعف اللغة العربية وفقدان سلطانها الكامل على الشعراء.
ولكن مع كل هذا فقد رعت دولة المرابطين الحركة الأدبية، وظللت على رجالها وأدخلهم سلاطينها في خدمتهم، فعلي بن يوسف استعان بالوزير أبي القاسم ابن الجد المعروف بابن الأحدب، وبأبي بكر بن محمد المعروف بابن القبطرنة، كما أن الأديب والفيلسوف ابن باجة خدم أمير سرقسطة المرابطي أبا بكر إبراهيم المعروف بابن تافلويت كما أن الدولة المرابطية شجعت الحركة الأدبية، ودل على ذلك المؤلفات العديدة التي ظهرت في هذه الفترة مثل: قلائد ابن خاقان، وذخيرة ابن بسام، وصلة ابن بشكوال، ومسهب الحجاري وغيرها.
هذه الرعاية التي حظي بها أدباء الأندلس من قبل أمراء المرابطين، أثرت في الأدب الأندلسي تأثيرًا محسوسًا، فظهر بمظهر القوة، واختفت منه عناصر الضعف التي كانت سائدة عليه أيام ملوك الطوائف، فانتحى الشعراء في شعرهم مناحي الجد والتوقر بدل ما كانوا منغمسين فيه من المجون والبطالة، وذلك نتيجة ارتفاع معنويات أهل الأندلس عمومًا بما أحرزوه من نصر على أعدائهم بفضل جهود المرابطين، بعدما كانوا أذلة أمام هجمات الإسبان.
فن المقامات
ومن مميزات الحركة الأدبية في الأندلس في عصر المرابطين ظهور فن المقامات، وأول من تأثر بمقامات الحريري الأديب أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي (توفي بقرطبة عام 538هـ) فله كتاب (الخمسين مقامة اللزومية) وهي المعروفة بالمقامات السرقسطية وقد عارض بها مقامات الحريري، كما وضع الأديب محارب بن محمد الوادي آشي مقامة في مدح القاضي عياض بن موسى السبتي (توفي عام 544 هـ)، كما أن الأديب أبا عبد الله محمد بن القرطبي وضع مقامة سماها المقامة العياضية الغزلية [9].
الحركة الفلسفية في عهد المرابطين
ولم تلق الحركة الفلسفية رواجًا وتقدمًا في الأندلس في عهد المرابطين، وذلك لاعتماد المرابطين المذهب المالكي أساسًا لكل أمورها، وبذلك لا تميل إلى الخوض في علوم الفلسفة، ولكن مع هذا وجد من درس هذا العلم خلال هذه الفترة، أمثال العالم أبي بكر بن باجة المعروف، والعالم أبي الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير، من أهل سرقسطة الذي سكن مراكش ومات فيها عام 520هـ.
وتوجت دولة المرابطين موقفها من الفكر الفلسفي بإحراق كتب الإمام الغزالي، وأصدرت أوامرها إلى معظم مدن الأندلس والمغرب في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف بهذا الأمر، لاعتقاد أهل الفقه بأن كتبه مليئة بآراء المتكلمين ومذاهب الصوفية.
كما ذهب ضحية سلوك الفقهاء هذا أبو الحسن علي بن جودي (توفي 530هـ)، وهو تلميذ ابن باجة، حيث اتهم بدينه، فلاحقته السلطات، ففر وتحول إلى قاطع طريق مع عصابة تعمل بين الجزيرة الخضراء وقلعة خولان [10].