حضارة الأندلس في عهد الدولة العامرية وزمن الفتنة
الدولة العامرية وفترة الحجابة في الأندلس
عهد الدولة العامرية في الأندلس يسمى بفترة الحجابة (366 - 399هـ)، وهي فترة حكم الخليفة هـشام الثاني أو هـشام المؤيد بن الحكم المستنصر، ولم يكن له من الأمر شيء، فقد سيطر الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر وأولاده من بعده على أمور الدولة، وهيمنوا على الخلافة الأندلسية، فكان ذلك بداية البوار، ووصف هـذا العصر بأنه: "عصر القوة التي تحمل الضعف، والانتصار الذي ينطوي على الهزيمة .." [1].
وقد سارت الثقافة الأندلسية في فترة الحجابة أو الدولة العامرية بقوة الدفع التي كانت سائدة في عصر الخلافة الأموية أي عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ) وابنه الحكم المستنصر (350 - 366هــ).
الحركة العلمية في فترة الحجابة
ومن أولى الملاحظات على علوم هـذا العصر، أنه لم نر أي تقدم ملحوظ وجد في أي ميدان من ميادين المعرفة، ولا نرى أعلامًا بارزين في أي فرع من فروع الثقافة، باستثناء تلك البقية الباقية من أعلام فترة الخلافة الأموية.
وربما كان من عوامل استمرار الدفع للثقافة الأندلسية في هـذه الفترة،هـو أن الحاجب المنصور كان على صلة قديمة بالثقافة، وقد ارتبط بها منذ نشأته، وأنه كان مصاحبًا للعلماء، ويروى عنه: بأنه كان له مجلس علمي يضم كبار علماء عصره، وأن هـذا المجلس كان يعقد اجتماعات دورية أسبوعية يحضره المنصور طيلة إقامته بقرطبة [2].
العلوم اللسانية النقلية
ولذا نرى نماذج قليلة للعلماء في مجال اختصاصاتهم، ففي العلوم اللسانية (النقلية) نرى استمرار بعض علماء فترة الخلافة إلى فترة الحجابة: ففي علم التفسير نجد محمد بن عبد الله المقري (340 – 420هـ)، وفي علم القراءات نرى عبد الله بن محمد القضاعي (توفي عام 378هــ) الذي كان يقرأ على قراءة الإمام ورش عثمان بن سعيد.
ومن أعلام الحديث في هـذه الفترة عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس (توفي عام 402هــ)، وألَّف العالم يحيى بن شراحيل (توفي عام 372هــ) كتابًا في توجيه حديث الموطأ للإمام مالك، واشتهر كتاب تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي في هـذه الفترة أيضًا [3].
العلوم العقلية
أما في مجال العلوم الصرفة (العقلية) فاشتهر العالم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (توفي عام 404هــ) وهو صاحب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) وهو كبير جراحي الأندلس في هـذه الفترة.
أما إمام العلماء في الرياضيات والفلك في هـذه الفترة فهو أبو القاسم مسلمة المجريطي (توفي عام 398هــ)، وهو الذي عني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي وحوله من السنين الفارسية إلى السنين العربية [4].
خمول الدراسات الفلسفية
وثاني الملاحظات على علوم هـذا العصر هي: خمول الدراسات الفلسفية، ويعود سبب ذلك إلى مقاومة الحاجب المنصور لهذه الدراسات، من أجل إرضاء عامة الناس، وكسب تأييد الفقهاء. ومن أبرز أعماله فيهـذا المجال إحراقه لكتب الفلك والمنطق والفلسفة التي كانت تمتلئ بها مكتبة الحكم المستنصر، وبهذا خمدت روح البحث العلمي، وقيدت الحرية الفكرية، وتهيب الناس من دراسة العلوم العقلية، وقد تخفى بعض العلماء، وهرب القسم الآخر نحو المشرق للتخلص من الاضطهاد [5].
ازدهار الدراسات اللغوية
وثالث الملاحظات على علوم هـذه الفترة، هـي ازدهار الدراسات اللغوية، والتي دفعت بعوامل من المشرق الإسلامي وليس بسبب ذاتي، حيث وَصَل في هـذه الفترة اللغوي المشرقي الأديب صاعد البغدادي (أبو العلاء صاعد بن أبي الحسن بن عيسى) إلى الأندلس عام 380هــ في أيام الحاجب المنصور، فاستقبله المنصور أحسن استقبال.
ولقي صاعد البغدادي الأمرَّين في الأندلس، وتصدى له بعض علمائها ودخلوا معه في محاورات علمية انحدرت أحيانًا إلى درجة المكائد، إلا أن هـذه المحاورات وجهود صاعد اللغوية أدت إلى تنشيط الحركة اللغوية في فترة الحجابة. وكان كتاب الفصوص الذي ألفه صاعد ذا أثر كبير في تغذية الدراسات اللغوية والأدبية في الأندلس [6].
الأدب في الأندلس
وسار الأدب في فترة الحجابة بقوة الدفع التي كانت في فترة الخلافة، فظل على ما كان عليه من أنواع، بل إن بعض الظواهر الأدبية الجيدة التي أينعت في فترة الخلافة، قد اختفت في فترة الحجابة، وكان ذلك بسبب تأثر الأدب بالظروف السياسية الاستبدادية والأوضاع الثقافية المقيدة.
أحوال الشعر
وأهم أنواع الشعر التي نالت حظًا كبيرًا في هـذه الفترة، هـو شعر المجون الذي يعكس حالة المجتمع المتردية، وشعر المديح الذي كان بمثابة أبواق دعاية للحكم الاستبدادي، وشعر الاستعطاف، وشعر النقد السياسي. ومن أشهر شعراء الفترة ابن دراج القسطلي، الذي غلب طابع المدح على أغلب شعره .
أحوال النثر
أما النثر، فقد توقف النوع التأليفي، واستمر النثر الخالص، ولكن أهم ما يلاحظ على أسلوب النثر في هـذه الفترة، ظهور أثر طريقة ابن العميد (وزير عضد الدولة البويهي توفي عام 360هــ)، تلك الطريقة التي تميل إلى الإطناب، وتعتمد على السجع والجناس، مع ذكر بعض الأمثال أو الإشارات التاريخية، مع تدعيم النثر بالشعر.
وليس من شك في أن حياة الترف ومظاهر الفخامة في فترة الحجابة، كانت من أسباب الاستجابة إلى هـذه الطريقة من أسلوب النثر خلال هـذه الفترة. وكذلك آثار ابن العميد ومن نحوا طريقته كالصاحب بن عباد الفارسي، وهو من وزراء البويهيين أيضًا توفي عام 385هــ ولقب بالصاحب لأنه كان يصحب ابن العميد.
وكان إسماعيل بن عباد أديبًا بارعًا في فن الترسل وله رسائل منشورة، قد وصلت إلى الأندلس قبيل فترة الحجابة، فيما وصل من تراث المشرق خلال القرن الرابع الهجري، وبخاصة في فترة الخلافة، ولكن أثر هـذه الطريقة قد ظهر في فترة الحجابة [7].
الحركة العلمية في عهد الفتنة بالأندلس
أما فترة الفتنة (399 - 422هــ)، فهي فترة التفكك والانحلال، والتي أدَّت إلى سقوط الخلافة الأندلسية وقيام عصر الطوائف، وكان من نتائج هـذه الفتنة، أن تعطل النشاط الثقافي وبخاصة في قرطبة، فأغلقت المدارس وانحلت حلقات الدرس، وقتل بعض العلماء وخاصة ابن الفرضي صاحب كتاب (تاريخ علماء الأندلس) عام 403هــ، وهاجر البعض من قرطبة إلى شرقي الأندلس كابن حزم حيث يلتمس شيئًا من الأمن.
وعلى الرغم من كل ذلك لم تخمد أنفاس الحركة العلمية في الأندلس خلال هـذه الفترة، فقد كانت هـناك بقية من العلماء الأندلسيين الذين أدركوا الازدهار في فترة الخلافة، أو انتفعوا بقوة الدفع في فترة الحجابة، فحفظوا للأندلس كثيرًا من علمها وثرائها على الرغم مما كان فيها من فتنة مبيرة كما يقال.
ومن أشهر هـؤلاء العلماء: أبو عمر أحمد بن محمد بن الجسور وكان أحد شيوخ الحديث، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الرهوني وكان مؤدبًا محدثًا مجودًا للقرآن. كما كان هـناك بعض العلماء ممن وفدوا إلى الأندلس من أقطار مشرقية، وكان لهم فيها حينذاك دور علمي كبير، ومن أشهر الوافدين إلى الأندلس في هـذه الفترة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد المصري، وكان أديبًا نسابة، حافظًا للحديث عالمًا بالأخبار.
كذلك كان في بعض الأقاليم الأندلسية البعيدة عن مركز قرطبة، حظ من النشاط العلمي، وقد كان شرقي الأندلس من تلك الأقاليم التي نعمت ببعض الأمن، فعُرفت بعض المدن هـناك في هـذه الفترة بحياة علمية لا بأس بها . وبرز في الأندلس خلال فترة الفتنة عالمان جليلان لهما دور بارز في ثقافة الأندلس هـما: أبو محمد بن حزم (384 - 456هــ) وأبو مروان بن حيان (377 - 469هــ).
فأما ابن حزم انصرف إلى العلم بعد سقوط الخلافة الأندلسية وتجول في ربوع الأندلس وبخاصة في شرقها ناشرًا مذهبهُ الظاهري، ولقي الأمرَّين من علماء المالكية وبالذات من أبي الوليد الباجي داعية الوحدة في الأندلس.
أما ابن حيان فعلى الرغم من توليه بعض المناصب الإدارية في هـذه الفترة، إلا أنه انصرف إلى كتابة الأدب والتاريخ، واشتهر بكتابه المقتبس [8].
وتأثر الأدب بأحداث الفتنة تأثرًا كبيرًا، فنرى أولًا انتشار أدب التلهي والنفاق والتفاهة، أو ما يسمى بأدب الهروب، وثانيًا ظهر أدب التأمل والنقد أو ما يسمى بأدب المراجعة. وقد كان الشعر مجال النوع الأول (أدب الهروب) وكان النثر مجال النوع الثاني (أدب المراجعة)، ومن هـنا خطا النثر خطوات واسعة حتى سبق الشعر، فظهرت أنواع نثرية جديدة وجادة، أتاح لها انطواء بعض الأدباء وعكوفهم جوًا ملائمًا فيه تأمل وفيه مراجعة، مما ساعد على التخيل والنقد والتحليل.
ومن أشهر شعراء هـذه الفترة أبو عامر بن شُهيد (382 - 426هــ)، وأبو محمد بن حزم الذي سيعاصر الطوائف. وفي مجال النثر، فقد اشتهر هـذان العالمان أيضًا، فابن شُهيد له رسالة التوابع والزوابع وهي قصة خيالية يحكي فيها ابن شُهيد رحلة في عالم الجن.
أما أبو محمد بن حزم فأشهر كتاب له في هـذا المجال، هـو طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف، ويتناول فيه دراسة عاطفة الحب بشكل مفصل واعتمد أسس التجربة والتحليل النفسي في منهجه [9].