تعريف الفقه الإسلامي
يُعَدُّ الفقه الإسلامي أحد أهمِّ ركائز الحضارة الإسلاميَّة، وتمثِّل قصته مراحل تكوين الأحكام الشرعية وكيفية استخراجها، ومن خلالها نعرف كيف كانت نشأة الفقه، وكيف نشأت المدارس الفقهية بقيادة الأئمة الأربعة، وكذلك الأسباب التي جعلت أئمة الفقه يتَّفقون في الحكم على بعض المسائل ويختلفون في البعض الآخر.
والفقه الإسلامي عمومًا هو العلم الذي يبحث لكل عملٍ عن حكمه الشرعي، ومعنى الفقه في اللَّغة: العلم بالشَّيء والفهم له[1]، وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة المكتسب من أدلَّتها التَّفصيليَّة، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية[2].
وهناك صلة بين الفقه وأصوله تكمن في أنَّ الفقه يُعنى بالأدلَّة التَّفصيليَّة لاستنباط الأحكام العمليَّة منها، أمَّا أصول الفقه فموضوعه الأدلَّة الإجماليَّة من حيث وجوه دلالتها على الأحكام الشَّرعيَّة.
وفضل الفقه عظيم؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"[3]. أمَّا موضوعه فهو أفعال المكلَّفين من العباد؛ فيبحث فيه عمَّا يَعْرِض لأفعالهم من حِلٍّ وحُرْمَة، ووجوب وندب وكراهة.
الرسول الأكرم .. الفقيه الأول
والحقيقة أن قصة الفقه بدأت مع بداية الدَّعوة وبدء الرِّسالة؛ فقد نشأ الفقه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يجيب الصحابة عمَّا يَعْرِض لهم من أسئلة؛ إذ كان هو المرجع الأوَّل للفتاوى في أحكام الفقه الإسلامي، وكان يعتمد فيما يُفتي فيه على ما يُوحَى إليه به، وعلى ما يفهمه من كتاب الله عز وجل، وعلى ما أذن الله له به من تشريع، أو اجتهاد يجتهده، فإذا كان اجتهاده مطابقًا لما هو الأكمل والأحسن في علم الله أقرَّه الله سبحانه وتعالى عليه، ولم يتابِعْه فيه معدِّلاً ولا معاتبًا، وإن كان اجتهاده في القضية دون ذلك أرشده الله إلى ما هو الأهدى والأقوم والأكثر صوابًا، وربما عاتبه إذ لم يأخذ بما هو الأكمل والأحسن[4].
وقد أقرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على بعض ما فهموا من كتاب الله من أحكام، وهذا يتضمَّن الإذن للمؤهَّلين منهم بفَهم الأحكام من القرآن واستنباطها، والإذن لهم باستنباط الأحكام من أقوال الرسول التي حفظوها منه، مع العمل بما جاء فيها صريحًا واضحًا لا يحتاج إلى استخراج واستنباط. وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤهَّلين من أصحابه بأن يجتهدوا لاستنباط الأحكام الشرعية برأيهم، قياسًا على الأشباه والنظائر، أو استبصارًا بمقاصد الشريعة وأحكامها كلما اضطرهم الأمر إلى الاجتهاد؛ إذ قد يكونون بعيدين عنه ولا يستطيعون التريُّث لمعرفة الحكم منه مباشرة، ويضاف إلى هذا تدريبهم على الاجتهاد، واستعمال ما لديهم من قدرات الفهم واستنباط الإحكام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوِّب من أصاب باجتهاده من أصحابه، ويردُّ مَن أخطأ إلى وجه الصواب، إذ كانوا يعرضون عليه فتاواهم أو تصرفاتهم التي اعتمدوا فيها على اجتهاداتهم الخاصَّة بعد مرور الحوادث التي اجتهدوا فيها، وقد برزت طائفة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في علوم الدين وحفظ مسائله، وفي فهم نصوص القرآن والسُّنَّة، وفي معرفة مقاصد الشريعة، وفي استنباط الأحكام الفقهية، وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على بعضهم في حياته[5].
وقد بات التشريع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل الذي غدا كل فقيهٍ أتى بعد زمنه صلى الله عليه وسلم يُصرِّح بأنه مستندٌ إليه؛ حيث يعتمد الفقه على الوحي النازل من عند الله تعالى[6].
مصادر الشريعة الإسلامية
والملاحَظ أن الشريعة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تعتمد اعتمادًا فعليًّا على مصدرين فقط هما: القرآن والسُّنَّة، أما الإجماع والقياس فلم يكن لهما وجود في ذاك العصر؛ لأن القياس يُلجَأ إليه عند وجود مسألة لا نصَّ فيها، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا فالنصُّ مستمرٌّ ولا إشكال، وحتى لو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاس أو اجتهد فلا بُدَّ أن يتحوَّل هذا الاجتهاد إلى نصٍّ، وتفصيل ذلك أنه إذا اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة فإمَّا أن يُقِرَّه الله تعالى عليها فتصبح نصًّا حينئذ، أو أن يصوِّب الله تعالى له فيكون نصًّا أيضًا[7].
وتُعَدُّ المرحلة الثانية من مراحل نشأة وتطوُّر الفقه الإسلامي، تلك التي جاءت بعد انقطاع الوحي ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عصر الصحابة رضوان الله عليهم (من سنة 11 إلى سنة 40هـ).
فقد استجاب الصحابة رضوان الله عليهم للرسول صلى الله عليه وسلموهو يدعوهم إلى نقل كلامه حين قال: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ"[8].
الصحابة حفظة الفقه وناقلوه
وعليه فلم ينتهِ عهد الصحابة حتى نقلوا كلام الرسول r كاملاً غير منقوص، وإذا كان قد غاب عن بعضهم أحاديث فإنه لا يغيب عن جميعهم، فأولئك هم أصحاب رسول الله r الذين شاهدوا وعاينوا ورأوا منازل الوحي، واستطاعوا بأمانة الله أن ينقلوه إلى الأخلاف، وكما يقول الإمام الشافعي: إن كل الصحابة قد رَوَوْا أخبار الرسول، وأحاديثه، وفتاويه. فإذا كان عصر النبي -عليه الصلاة والسلام- هو عصر تبليغ الشريعة فعصر الصحابة هو عصر حفظها، ونقلها للأخلاف غضَّة خصبة كما بيَّنها النبي الأمين[9].
وبالنسبة إلى الفقه ومعرفة مسائله، واستنباط أحكامه؛ فقد برز بعض الصحابة في هذا المجال واشتهروا به، وكانوا هم الذين يُرجَع إليهم في الفتاوى التي تختلف فيها وجهات النظر، مما لم يكن معلومًا عند جمهور الصحابة حُكْمُهُ.
وهؤلاء الصحابة البارزين كانوا يَرْجِعون في سبيل ذلك إلى نصوص القرآن الصريحة، أو إلى الفَهم منه استنباطًا، وإلى نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة، أو الفَهم منه استنباطًا كذلك، أو إلى اجتهادهم؛ وقد وضح ذلك من خلال حديث معاذ رضى الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقال له: "كَيْفَ تَقْضِي؟ فقال: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لا آلُو. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ"[10].
فلم يكن عمل الصحابة رضوان الله عليهم إذن مجرد النقل، بل كان واجبًا عليهم أن يستنبطوا، وأن يجتهدوا آرائهم، وذلك فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ، ولم يعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمرًا، وقد وجَّههم عليه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حين حثَّ على الاجتهاد وجعل له ثوابًا فقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"[11]. فالمجتهد في كلا الحالين مُثَاب.
فقهاء الصحابة
هذا وقد بَلَغ الذين حُفِظَت عنهم الفتوى من الصحابة والصحابيَّات ما يزيد على ثلاثين ومائة، وكان منهم المكثرون في الفتوى، والمتوسِّطون فيها، والمقلِّون؛ فالمكثرون سبعة هم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر. ومن المتوسطين في الفتاوى: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقَّاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل. أمَّا المقلُّون من الصحابة في الفتاوى فهم الباقون؛ إذ لم يَرِدْ عن الواحد منهم إلا الفُتيا في بعض المسائل، وقد لا تتجاوز مسألة أو مسألتين[12].
فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه -على سبيل المثال- أحد عمالقة الفقه في عصر الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، وفي ذلك يقول الشعبي: "إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر". وقال عنه ابن مسعود أيضًا: "إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم". وكذا قال: "لو أن عِلْمَ عُمَرَ وُضِعَ في كفَّة الميزان وَوُضِعَ عِلْمُ أهل الأرض في كفَّة لرجح علم عمر". كما قال حذيفة: "كأن علم الناس مع علم عمر دس في جحر"[13].
ولا ريبَ أن المقصود بعلم عمر هذا هو الفقه في الدين ومعرفة استنباط الأحكام، ودليل ذلك ما جاء واضحًا في قول مسروق: "كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وأُبَيُّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري". وقال عامر: "قضاة هذه الأمة أربعة: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى الأشعري"[14].
وهؤلاء الصحابة المذكورون كانوا هم أكثر من اشتهر بالفتوى والفقه في زمنهم، وقد قال سعيد بن المسيِّب عن فقه علي بن أبي طالب وفقه ابن مسعود رضي الله عنهما: "كان عمر يتعوَّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلملعبد الله بن مسعود بأنه عليم معلم"[15]. وقال ابن سيرين عن علم عثمان رضى الله عنه بالفقه: "كانوا يرون أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان، ثم ابن عمر بعده"[16].
ويضاف إلى هؤلاء الصحابة عائشة رضي الله عنها، والتي قال أبو موسى عنها: "ما أشكل علينا -أصحاب محمد r- حديث قطُّ فسألناه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا"[17].
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يجتهدون حين لم يكن نصٌّ، وما كان اجتهادهم إلا قَبَسَةً من نور النبوة؛ لأنهم أعرف الناس بمقاصد الشريعة وغاياتها، فليس رأيهم الرأي، ولكنه الاتِّباع والاهتداء، حتى قال فيه الإمام مالك: "هو رأي وما هو بالرأي". وذلك لأنه ليس تهجمًا على الحقائق، ولكنه مقيَّد بما علموا من أمر الرسالة والشريعة، وما أدركوا من أقوالٍ، وشاهدوا من أعمال. ولقد ذكر الإمام ابن قيِّم الجوزية أن آراء الصحابة كثير منها سُنَّة؛ لأن كثيرين منهم كانوا يُؤْثِرُون أن يُفْتُوا ناسبين القول لأنفسهم على أن ينسبوه للنبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يُشَبَّهَ عليهم، ويقعوا في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"[18]. ولقد ألحق جمهور المسلمين فتاوى الصحابة وأقوالهم بالسُّنَّة؛ لأن أقوالهم إما سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما مستلهمة من وحيها، أو نابعة من نبعها، وهي في كل الأحوال نور من نورها[19].
وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء؛ قال الليث عن مجاهد: "العلماء: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم". وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] قال: "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" [20].
فهم أفقه الناس لرُّوح الإسلام وأعلمهم بمقاصده؛ لأنهم تخرَّجوا في مدرسة النبوة، وشاهدوا أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، مع سلامة فطرة، ونور بصيرة، وتوجَّه للحقِّ، وجودة في الفَهم، وتمكُّن من اللغة، ولهذا اجتمعوا على رأي، أو نقل عن عدد منهم، ولم يُعْرَف لهم مخالف، فكان أقرب ما يكون تعبيرًا عن صلب الشريعة ولبُّ الإسلام[21].
فقهاء التابعين
وبعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم جاء دور فقهاء التابعين؛ فهم تلاميذهم وخرِّيجوهم الآخذون عنهم، والواردون مناهلهم، والسالكون طريقهم، من أمثال الفقهاء السبعة في المدينة، وعطاء ومجاهد وابن جُبَيْر في مكَّة، والحسن وابن سيرين في البصرة، وعلقمة والنَّخَعي والشَّعْبي في الكوفة، وطاوس في اليمن، ومكحول في الشام، ويزيد بن أبي حبيب في مصر، وغيرهم من الأعلام[22].
لقد ترك الصحابة رضوان الله عليهم ثروة من الفقه النبوي بالنصِّ عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو بالتخريج عليه، أو بالتطبيق على ما عرفوا من مقاصد الإسلام، وحمل ذلك من بعدهم تلاميذُهم من التابعين، فقد كان لكل صحابي تابعون يلازمونه، ومنهم مَن يختصُّ واحدًا منهم بالملازمة أو يغلب عليه ذلك، فناقل علم ابن عباس رضي الله عنهما: عكرمة مولاه، وناقل تفسيره: مجاهد، وناقل علم عمر رضى الله عنه: سعيد بن المسيب مع غيره ممن عاصروه، وناقل علم ابن عمر: مولاه نافع، وفي العراق ناقل علم عبد الله بن مسعود: علقمة وإبراهيم النخعي، وهكذا.
وكان هؤلاء التابعون ينقلون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام والآثار المرويَّة عنه من أعمال وتقريرات، وينقلون علم الصحابة الذين تخرجوا عليه، ويَعتبرون ما أجمع عليه الصحابة حُجَّة قَطْعِيَّة لا مناصَ من اتِّباعها، وإن اختلفوا كان لهم أن يختاروا من بينها، ولا يَخْرُجُوا عن كُلِّها، وفي الغالب كان كل تلميذ يَتْبَع شيخه من الصحابة[23].
يقول ابن القيم: "والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس؛ فعِلْم الناس عامَّته عن أصحاب هؤلاء الأربعة، فأمَّا أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأمَّا أهل مكة فعِلْمُهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأمَّا أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود"[24].
على أن التابعين كان لهم مع ذلك اجتهادٌ فيما لا يُعْرَف فيه رأي من قبلهم في أمر من الأمور؛ فإنهم حينئذ يجتهدون آراءهم كما سلك شيوخهم من الصحابة، وقد أَخَذت مناهج الاجتهاد تتميَّز في عهد التابعين من غير انحراف ولا خروج عن المبادئ العامَّة للإسلام، بل الجميع متعلِّقون بالكتاب والسنة وعلم الصحابة، يَعْتبرونها المنجاة من هاوية الباطل؛ فكان لفقهاء العراق نهجٌ في الاجتهاد بعد النصوص وأقوال الصحابة، وغلب عليهم الاجتهاد بالقياس، وكان لفقهاء الحجاز نهجٌ، ويغلب فيه الأخذ بالمصلحة، وكان لكلِّ منهاج مدرسة قائمة بذاتها، ابتدأت تتكوَّن في عهد التابعين، ثم نَمَتْ من بعدهم حتى تكاملت[25].
نشأة المذاهب الإسلامية
ولا شكَّ أن التابعين تفرَّقوا في الأمصار بعد اتساع الرقعة الإسلامية، وقد لاقَوْا أوضاعًا وأحداثًا وأمورًا لم تَعْرِض للصحابة من قبلُ، وكان عليهم أن يبحثوها ويُفْتُوا فيها، وبذلك ازداد نطاق الفقه اتِّساعًا؛ الأمر الذي اختلفت بسببه أقوال التابعين، وكان من وراء ذلك أن صار لكل فقيه من التابعين جملة آراء مستقلَّة نستطيع أن نسميها مذهبًا، واشتهر من هؤلاء: سعيد بن المسيب وعبد الله بن عمر في المدينة، ويحيى بن سعيد، وربيعة بن عبد الرحمن، وعطاء بن أبي رباح في مكة، وإبراهيم النخعي، والشعبي في الكوفة، والحسن البصري في البصرة، وطاوس بن كيسان في اليمن، ومكحول في الشام... إلخ[26].
والذي ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الصحابة اختلفوا، وفي زمن الرسول r نفسه، وأن التابعين كذلك اختلفوا على نحو ما أشرنا، وأن هذا الاختلاف الذي هو في الفروع الفقهية -كما يقول الإمام أبو زهرة- لا ضرر فيه على المسلمين، ولا على الحقائق الإسلامية ما دام القصد الوصول إلى الحقِّ، وليس في واحدٍ من الآراء هدم لنصٍّ، أو نقض لأصل، أو مصادمة لمقصد من المقاصد الشرعية، ويُروى في ذلك أن عمر بن عبد العزيز قال: "ما يسرني باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمْرُ النَّعَمِ، ولو كان رأيًا واحدًا لكان الناس في ضيق"[27].
أسباب الاختلاف الفقهي
وإذا ما جئنا إلى موضوع الاختلاف الفقهي؛ فإن له أسبابًا متعددة ما بين مُجْمَل ومفصَّل، لكنها تعود في حقيقة الأمر إلى أربعة أسباب إجماليَّة هي[28]:
الأوَّل: الاختلاف في ثبوت النصِّ وعدم ثبوته: فالنصُّ الشرعيُّ هو المرجع الأوَّل للمجتهدين جميعًا، وعليه يدور استنباط الأحكام الشرعية، فإذا صحَّ ثبوته وكانت دلالته صريحة، وكان سالمًا من المعارض، كان عليه الاعتماد في الحكم، وهذا معنى قول الأئمة المجتهدين: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي".
الثاني: اختلاف العلماء في فَهم النصوص الشرعية: فالعلماء يختلفون في فَهم النصِّ الثابت والاستنباط منه، وهذا يرجع إلى جانبين: جانب يعود إلى النصِّ نفسه، وجانب يعود إلى المجتهد في فَهم ذلك النصِّ؛ فمن أمثلة الجانب الأول، ما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال عنه: رجاله موثوقون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ"[29]، قال الصنعاني: "فإن لفظة طاهر لفظ مشتَرَك يُطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويُطلق على المؤمن وعلى مَن ليس على بدنه نجاسة، ولا بُدَّ لحمله على مُعَيَّن من قرينة"[30]، فالاختلاف في معنى "طاهر" أدَّى إلى اختلاف الحكم الفقهي. ومن الأمثلة على الجانب الثاني اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في صلاة العصر في بني قريظة.
الثالث: الاختلاف في الجمع والترجيح بين النصوص: فقد تتعارض ظواهر بعض النصوص الشرعية؛ فيختلف العلماء في الجمع بين ظواهرها والتوفيق بين معانيها، أو في توضيح بعضها على بعض؛ مما ينتج عنه اختلاف في الأحكام الشرعية، ومن أمثلة التعارض بين النصوص الشرعية التي استتبعت اختلاف العلماء في الأحكام: اختلافهم في صفة صلاة الكسوف والقراءة فيها، واختلافهم في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
الرابع: الاختلاف في القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط: فمن المعروف عن أهل العلم أن العلماء المجتهدين اختلفوا فيما بينهم في حجية بعض المصادر والأصول الاجتهادية؛ كاعتماد الإمام مالك -رحمه الله تعالى- على حجية عمل أهل المدينة دون غيره من الأئمة، وكَتَرْكِ الحنفية العمل بمفهوم المخالفة، وعمل الجمهور به؛ ومخالفة الحنفية في إمكان حمل العامِّ على الخاصِّ، وحمل المُطْلَق على المقَيَّد، وقولهم بالأخذ بعمل الراوي إذا عمل خلاف ما رواه[31].
والواقع أن مسألة اختلاف الفقهاء رحمة وتوسعة على الأُمَّة الإسلامية، وهي خصيصة لهذه الأُمَّة, وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة، فوق أنها تثبت صلاح الشريعة الإسلاميَّة لكلِّ عصرٍ وأوان، واستيعابها لكلِّ أصناف البشر واختلافاتهم.
عصر الأئمة الأربعة
هذا وقد ظهر في العالم الإسلامي بعد عصر فقهاء التابعين تلاميذُهم، وهم فقهاء تابعي التابعين، وقد بدأ في هذا العصر ظهور الأئمة المجتهدين الكبار، وتكوُّنُ المذاهب الفقهية المؤيَّدة بالأتباع من تلاميذهم الفقهاء، والمصحوبة بتدوين فقه هذه المذاهب[32]؛ الأمر الذي يمكننا أن نطلق على ذلك العصر بـ "عصر الأئمة الأربعة".
ففي هذا العهد تألَّق الأئمة الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد)، فكانوا كالبدور تحيط بهم هالات من النجوم والكواكب، وظهرت مدرسة الرأي والعقل بجوار مدرسة الحديث والنقل، وازدادت كل منهما وضوحًا وتميُّزًا، وكان من الطبيعي أن تنمو مدرسة الحديث في الحجاز عامَّة وفي المدينة خاصَّة؛ لأن الحجاز مهد السنة، وموطن الصحابة الذين تلقَّوها وحملوها، كما كان من الطبيعي أن تزدهر مدرسة الرأي والعقل في العراق؛ لأن العراق بلد جديد في الإسلام بالنسبة إلى الحجاز، وهو بعيد عن موطن السُّنَّة، وله تراث قانوني وحضاري، فأهله محتاجون إلى ما يقنعهم، ولا بدَّ في إقناعهم من الدليل والبرهان، ومن هنا انفسح المجال أمام العقل والتفكير[33].
وبعد أئمة الفقه الأربعة -وهم الرواد- الذين تطوَّر الفقه على أيديهم، وبلغ غاية في النضج والإحكام، واعترف لهم الجمهور بالإمامة والاجتهاد المطلق.
النعمان بن ثابت .. إمام أهل الرأي
وأوَّلهم هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، الذي ولد في الكوفة سنة 80هـ، وتُوُفِّيَ سنة 150هـ.
فأبو حنيفة يُعَدُّ واضعَ علم الفقه، أو هو مؤسِّس مدرسة الفقه في الإسلام، ومثبِّت أركانها، وواضع منهجها، وقد قال عنه الإمام الشافعي: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه". وقال عنه أيضًا: "كان أبو حنيفة ممن وُفِّق له الفقه".
وأبو حنيفة -رحمه الله- لم يضع أُسُسَ الفقه من فراغ، وإنما هو عالم بكتاب الله وسنة رسوله، واسع الاطلاع في شئون الدين والدنيا، فقد تتلمذ على كبار أئمة التابعين، فهضم علمهم، واستوعب فقههم، ومن ثَمَّ كانت مصادر فقهه هي المصادر التي لا مناص لمسلم من أن يجعلها مصدره ومعينه، وهو بعد ذلك يُعْمِلُ فكره، ويحكم رأيه دون خروج على نصٍّ، أو تصادم مع أَثَرٍ، ومن ثَمَّ اضطلع بتدوين الفقه الإسلامي على منهج وَضَعَه، وسبيل عَبَّدَه، وطريق يَسَّرَه.
وقد حدَّد الإمام أبو حنيفة بنفسه مصادر فقهه ومنهجه في الإفتاء بقوله: "آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول مَن شئتُ منهم، وأَدَعُ مَن شئتُ منهم، ولا أَخْرُج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا ما انتهى الأمر، أو جاء إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب.. فقومٌ اجتهدوا، فأَجْتَهِدُ كما اجتهدوا"[34].
وهذا القدر من أصول التشريع لا يختلف فيه أبو حنيفة عن غيره من الأئمة، فهم يتَّفقون جميعًا على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما، غير أن أبا حنيفة تميَّز بمنهج مستقلٍّ في الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص، بل تغوص إلى المعاني التي تُشير إليها، وتتعمَّق في مقاصدها وغاياتها.
ولا يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه يُهْمِل الأخذ بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، بل كان يشترط في قَبُول الحديث شروطًا متشدِّدة، مُبَالَغَة في التحرِّي والضبط، والتأكُّد من صحَّة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدُّد في قَبول الحديث هو ما حمله على التوسُّع في تفسير ما صحَّ عنده منها، والإكثار من القياس عليها، حتى يُوَاجه النوازل والمشكلات المتجدِّدة.
مالك بن أنس .. إمام أهل الحديث
وثاني هؤلاء الأئمة هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، الذي ولد سنة 93هـ، وتُوُفِّيَ سنة 179هـ، وعاش في المدينة المنورة، واشتهر بكتابه (الموطَّأ).
وإذا ذُكر الموطَّأ[35] ذُكِرَ به الإمام مالك، وعَظُم به، وإذا ذُكر الإمام مالك ذُكر به الموطأ وعَظُم به، فهما متلازمان كالشيء وظلِّه، وقد يكون الموطأ أوَّل كتاب وأشهره في ترتيبه وتركيبه، وفي اجتهاده ونقله، وفي حديثه وفقهه، وهو أعظم مرجع في عصره وأقدمه، ولم يُعتنَ بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ، فإن الموافِق والمخالِف اجتمع على تقديره، وتفضيله وروايته، وتقدُّم حديثه وتصحيحه، فأمَّا من اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك فعدد كثير من المالكيين، وغيرهم من أصحاب الحديث والعربية[36].
وروى أبو الحسن بن فهر عن علي بن أحمد الخلنجي: سمعت بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه؛ فسمَّيْتُه "الموطَّأ" وهذا ما جعل تسمية الموطَّأ من المواطأة أي الموافقة، وهذا مما لم يُرْوَ عن أحدٍ غيره. ورُوي أن مالكًا لمَّا أراد أن يؤلِّف بقي متفكِّرًا في أي اسم يُسَمِّي تأليفه، قال: فنِمْتُ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: "وَطِّئ للناس هذا العلم". فسمَّى كتابه الموطأ[37].