قصص من الحضارة الإسلامية في الصين
المسلمون في تركستان الشرقية:
تفُوق الأرض الإسلامية الخاضعة للنفوذ الشيوعي الصيني مساحة عدة دول أوربية مجتمعة، وتحتضن أرض هذه البلاد الإسلامية ثروات طبيعية متنوعة على رأسها النفط والأورانيوم والنحاس والحديد والذهب وغيرها.
ومعظم البلاد الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال الشيوعي الصيني تنضوي تحت اسم (تركستان الشرقية)، بعد أن اتفق المعسكران الكبيران (روسيا والصين) على تقسيم تركستان الإسلامية بينهما، فسيطر الاحتلال السوفيتي على تركستان الغربية، وسيطر الاحتلال الشيوعي الصيني على تركستان الشرقية، وكان هذا الاتفاق المشئوم سنة 1949م.
تاريخ الإسلام في الصين:
وقد أرسل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه وفدًا إلى الصين، في صفر سنة 31 هـ / 651 م في عهد أسرة نانغ. وقد دخل الإسلام إلى تركستان الشرقية على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وقد بدأ دخول الأتراك للإسلام زرافات وجماعات في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، وكان هذا الامتداد المفاجئ بسبب إسلام السلطان (ستوق بفراخان) سنة 353هـ، فأسلم الشعب التركستاني كله، بعد أن كان انتشار الإسلام يمشي بطيئًا وهادئًا لقيامه عل الدعوات الفردية والجهود المخلصة المحدودة!
وعدد السكان المسلمين في تركستان الشرقية يقترب من عشرين مليونًا كلهم متدينون شديدو التدين، إلا أن عدد المسلمين في الصين قد بلغ أكثر من خمسين مليون مسلم صيني، حسب آخر إحصاء رسمي أجري في الصين عام 1936م.
وقد تعرض هذا العدد لنقصان شديد نتيجة الإبادة الشيوعية الجماعية التي تعرضوا لها [1] على يد حكومة ماوتسي تونج، ولا أحد يستطيع الآن يعرف عددهم الصحيح، لكنه من المحتمل أن يكون المسلمون قد فقدوا قريبًا من نصف عددهم في مجازر الزحف الشيوعي والثورات الثقافية البربرية.
الدولة الأويغورية في الصين:
لقد تمكن العنصر التركي الإسلامي الأصيل أن يقضي على دولة كوك تورك التي عاشت بين سنتي 552، 745م، وقد هزموا الغزاة الصينيين في موقعة مشهورة في التاريخ التركستاني، وتعرف باسم موقعة (تالاس) وكان ذلك في سنة 751م، أي في منتصف القرن الثاني الهجري على وجه التقريب، ومنذ هذا التاريخ، ولعشرة قرون كاملة عاشت تركستان منطقة مستقلة تحكمها دول إسلامية نابعة منها، كالدولة الأويغورية التي كان لها السيطرة الكاملة في تركستان ومنغوليا وولاية كانسو في الصين، وقد فرضت هذه الدولة الأويغورية هيبتها على الصين، فراجت التجارة، وحميت الطرق، وانتشر التراث الإسلامي، وقد استطاعت هذه الدولة أن تعيش قرنًا كاملًا حتى انتهت على يد هجمات القيرغير لمنغوليا، ولجوء كثير من التركستان إلى الغرب المنغولي سنة 225هـ / 840م، ولم يكن من الأويغور التركستان، بعد هجوم القيرغير عليهم، وشدهم الرحال نحو الغرب _ إلا أن استقروا في تورغان، وبسن باليق وإيلي، وشكلوا هناك إمارتي (بسن باليق) و(تورغان)، ثم نهضوا نهضة ثانية، وفرضوا تهديهم على الصينيين، وكونوا _ مع غيرهم من العناصر الإسلامية _ عدة ممالك إسلامية متجاورة، واتحدت هذه الإمارات والمماليك بعيد سنة 308هـ / 920م، أي مع بداية القرن الرابع الهجري حتى ظهر جنكيز خان مع مطلع القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، فضم كل هذه الأقاليم تحت رايته.
من تاريخ الحضارة الإسلامية في الصين:
وخلال هذه القرون كانت تركستان الشرقية مركزًا أساسيًا للوجود التركي، ومحطًا رئيسيًا لنشاط الأتراك في شتى نواحي الثقافة والمدنية، وقد تركوا آثارًا إسلامية كثيرة في المعمار والفنون والآداب والعلوم، وقد بنوا من المساجد، نحو أربعين ألف مسجد، وعلى الرغم من تعرض التركستان لضغوط نصرانية وبوذية ومانوية، فإن الشعب التركستاني المسلم لم تبرز في حضارته أية مؤثرات خارج نطاق الحضارة الإسلامية.
وإن تراث الدول التركستانية التي قامت في تركستان الشرقية، ولا سيما في عهود الأويغور، والقراخانيين، لتدلنا على عمق تأثير الحضارة الإسلامية، وهي -من جانب آخر- شاهد نفي، وحدّ مانع ضد الادعاءات الصينية الشيوعية [2].
دراسة العلوم الإسلامية وإدخالها الصين:
وقد قام المسلمون الصينيون بدراسة العلوم الإسلامية والعربية وإدخالها إلى الصين وخاصة علمالطب والرياضيات والفلك، أما الأدوية والوصفات والمعلومات الطبية الأخرى التي نقلوها إلى الصين فقد ذكرت في صفحات كثيرة من كتاب (أصناف العقاقير الصينية) الذي طبع في القرن الثاني عشر، وكتاب (الموسوعة الطبية الصينية) الذي طبع في القرن السادس عشر، كان المسلمون الصينيون يقومون برصد أحوال الجو بمساعدة علم الفلك العربي والفارسي.
مراقبة الأرصاد الجوية ووضع التقويم الصيني:
وفي القرن الثالث عشر أنشئت إدارة إسلامية خاصة بمراقبة الأرصاد الجوية ووضع التقويم الصيني، وفي سنة 666هـ /1267م اخترع الفلكي المسلم جمال الدين "المنوأة المتعددة الحلقات" و"المنوأة الموجهة" و"الكرة السماوية" و"الكرة الأرضية". إلخ، وكان التقويم الهجري مرجعًا لوضع التقويم الصيني على مدار أربعمائة سنة ابتداء من أواسط القرن الثالث عشر، كما يذكر "كمال الدين باي شيو" نائب رئيس الجمعية الإسلامية للصين.
وفي عام 784هـ / 1382م تكللت جهود أحد مشايخ المسلمين بالنجاح في ترجمة الكتب العربية الخاصة بالتقويم والجغرافياوالفلك مما كسب الإطراء من قبل بلاط الإمبراطور، وحيث إن الرياضيات هي أساس علم الفلك فقد انتقلت الكتب الرياضية العربية هي الأخرى إلى الصين في الوقت بالذات، وقد أثبتت ذلك السجلات التاريخية في عهد أسرة يواه، ومن جراء ذلك انبثقت أعداد كبيرة من الأكفاء في علم الفلك والرياضيات من بين المسلمين الصينيين، في عهد أسرتي يوان ومينغ.
في العمارة الإسلامية:
وقد عرف المسلمون الصينيون بمهارتهم الفائقة في البناء المعماري، ففي الأيام الأولى من قدومهم إلى الصين بنوا مساجد في تشانفآن وقوانفشتو وتشيوانتشو وهانفتشو تيسيرًا لأداء شعائرهم الدينية، من ذلك أن مسجد هانفتشو الذي بناه علاء الدين في القرن الرابع عشر كان قد نال ثناء الرحالة العربي ابن بطوطة وقت زيارته للصين، وقد رمم هذا المسجد مرات عديدة فهو لا يزال باقيًا حتى وقتنا الحاضر، وقد تكفل بختيار علاء الدين البناء المرموق بمهمة تخطيط بناء القصور لأسرة يواه الملكية سنة 664هـ / 1266م مما أرسى أساسًا لبناء قصر الإمبراطور الحالي ببكين"[3].
الدفاع عن الإسلام:
وفي القرنين العاشر والحادي عشر للهجرة برز "وانغ واي يوى" في الدفاع عن الإسلام فألف كتبه "الإجابات الصحيحة عن الحق" و"حقيقة الإسلام" و"شريعة الإسلام" وغيرها، كما ألف الشيخ يوسف ماتشو كتاب "إرشاد المسلمين" في عشرة أجزاء. وألف ليوتشه "حقائق الإسلام" في ستة أجزاء و"سيرة خاتم الأنبياء" في عشرين جزءًا، وأحكام الإسلام في عشرين جزءًا. وقد ألف الشيخ ماده شين "صفوة أصول الدين" و"مقصد الحياة" و"التعريف بروح الإسلام" و"أحكام الدين" وقد طبعت من مؤلفاته نحو ثلاثين جزءًا.
لقد كان وانغ واي يوي (967 – 1030هـ / 1560 – 1620م) أول من كتب عن الدين باللغة الصينية، وقد الف كتابًا تحت عنوان "الجوابات الصحيحة عن الحق" أجاب فيه على التساؤلات عن الدين الإسلامي، وقد طبع هذا الكتاب مرات عديدة في طبعات مختلفة وحظي بالشعبية الواسعة بين المسلمين الصينيين، وبالإضافة إلى ذلك فقد كتب "حقيقة الإسلام" و"شريعة الإسلام" وغيرهما من الكتب الخاصة بالتوحيد والفقه وأحكام الدين.
إن الشيخ يوسف ماتشو (1050 – 1123هـ/ 1640 – 1711م) وهو مؤلف كتاب (إرشاد المسلمين) في عشرة أجزاء، ويفوق لبيوتشه (1065 – 1158هـ / 1655 – 1745م) المألوف في كمية التأليف والترجمة ومن مؤلفاته (حقائق الإسلام) في ستة أجزاء، و(سيرة خاتم الأنبياء) في عشرين جزءًا، وأحكام الإسلام في عشرين جزءًا، إلخ.
أما الشيخ مادة شين (1209 – 1291هـ / 1794 – 1874م) فهو مؤلف مرموق وإمام متعمق في علوم الدين كان يقوم بتدريس الطلاب في المسجد ويمارس في الوقت نفسه الترجمة والتأليف، ومن مؤلفاته وترجماته: (صفوة أصول الدين الأربعة)، و(مقصد الحياة)، و(تعريف روح الإسلام)، و(أحكام الدين)، إلخ، وقد طبعت من مؤلفاته ثلاثون مؤلفًا وهي تتناول شتى المواضيع مثل شرائع الدين وأحكامه والفلك والجغرافيا وقواعد اللغة العربية والبلاغة، وقد كتبت بعضها على يده وبعضها الآخر بتعاونه مع غيره. مع العلم بأن بعضها مكتوبة باللغة الصينية وبعضها الآخر مكتوبة باللغة العربية أو اللغة الفارسية، أو باللغتين معًا، وقد عاجلته المنية مع الأسف بعد ترجمته خمسة أجزاء من القرآن الكريم إلى الصينية فقط.
وبالإضافة على هؤلاء الأربعة المشهورين في عهد أسرة تشينغ فإن هناك العديد من أشباههم نحو جيون شي (975 - 1067هـ / 1567 – 1657م)، وتسون تشي (1007 - 1079هـ/ 1598 – 1668م) وغيرهما. وجدير بالذكر أن سليمان دودن شيو (1244 – 1289هـ/ 1828 – 1872م) هو أول من قام بطيع القرآن الكريم في الصين على طريقة النحت الخشبي في سنة 1279هـ / 1862م [4].
وقد ظهر عدد كبير من المسلمين البارزين في حقول السياسة، ويعتبر السيد شمس الدين (681 – 677هـ / 1211 – 1279م) فذا منهم، وقد عين حاكمًا إداريًا لمقاطعتي شنشي ويوننان على التوالي، وكان قد أقام نظام الزراعة الجماعية وقام بإنشاء المدارس والمساجد وبناء الكباري وشق الطرق الجبلية وإقامة مراكز البريد وبناء مشاريع الري وإدخال البذور الجديدة والدعاية لاستعمال وسائل الإنتاج المتقدمة لتطوير الاقتصاد المحلي.
ويظل هذا السياسي العادل والنزيه موضع الاحترام والتقدير لدى أهالي مقاطعة يوننان حتى يومنا هذا بما قدمه من الخدمات الجليلة، ويعتبر ابنه نصر الدين المتوفى سنة 691هـ / 1292م وابنه الآخر حسن المتوفى سنة 710هـ / 1310م وكذلك قاوكه قونغ والمؤلف الكبير شمس الدين المذكوران آنفًا وكلهم من الساسة المسلمين المشهورين وتبعهم هاي تسوي (920 - 995هـ/ 1514 – 1587م) الحكم المسلم النزيه الفذ في تاريخ الصين.
المواصلات البرية بين العرب والصين:
وقد ازدهرت طرق المواصلات البرية بين العرب والصين، وهي التي عرفت بطريق الحرير، وأما طريق البحر، فيتلخص فيما يلي: في الفترة الممتدة من أواخر القرن السابع إلى أواخر القرن الخامس عشر كانت موانئ الصين والأماكن المجاورة لها مثل قوانفتشو وتشيوانتشو وفوتشو ومينغتشو ويانفتشو مرتادًا لمسلمي مختلف الأقطار والعلماء والرحالة المسلمين الذين كانوا يتقاطرون على الصين بحرًا، وعندما كانت التجارة في أوج ازدهارها بلغ عدد تجار المسلمين الأجانب المقيمين في ميناء صيني واحد عشرة آلاف شخص، أما التجار الصينيون بما فيهم المسلمون فقد كانوا قد سافروا إلى جنوب شرقي آسيا وسواحل المحيط الهندي للتجارة.
وفي القرن الثامن والتاسع الميلادي كان في بغداد سوق مخصص لبيع بضائع الصين مثل الحرير والأواني الصينية بينما كان في مدن تشانفآن وقوانفتشو ويانفتشو أسواق خاصة ببيع منتجات العرب والفرس، وعندما كان الرحالة العربي بن بطوطة يتحدث عن أحوال العرب في قوانفتشو قال: إن قوانفتشو "أكبر مدينة في العالم" ولها "أجمل سوق في الدنيا" وحين زيارته لتشيوانتشو اعتبرها "مركز التجارة العالمي"، ويعرف من تدويناته أن للتجار العرب ولعًا بجمع الأواني الصينية والخزفية والأحجار الكريمة لنقلها إلى الهند واليمن، وطوال الفترة التي تتراوح بين ثمانية وتسعة قرون كان الصينيون يستوردون من الخارج العطريات والسكر والجوخ والعاج وقرون الكركون والمرجان واللؤلؤ والكهرمان بينما يصدرون إلى الخارج الحرير والحرير الرقيق والسندس الدمقس والأواني الخزفية والجماكية والأواني الذهبية والفضية والمسك والأدوية الصينية. إلخ.
وفي هذه الفترة بالذات نقل المسلمون ما اخترعه الصينيون من صناعة الورق الإبرة المغنطيسية والبارود إلى الأقطار الأوربية [5].
الرحالة العرب في الصين:
وفي قديم الزمان كان هناك كثير من الرحالة العرب زاروا الصين بل وخلفوا وراءهم مذكرات سياحية، من ذلك أن سليمان التاجر العربي قد أبحر في القرن التاسع إلى الصين عبر شبه قارة الهند والبنغال وباكستان وبعد عودته إلى بلده دوَّن مذكراته السياحية سنة 236هـ / 851م بعنوان (سلسلة التواريخ)، وبعد وقت قصير من ذلك أضاف أبو حسن بعض المحتويات إلى الكتاب، هذا هو أول كتاب تذكر فيه أحوال الصين استنادًا إلى مشاهدات العرب في الصين، وفي القرن الرابع عشر غادر الرحالة العربي ابن بطوطة شمال إفريقية إلى الصين، وقد ترك أثره في بكين وتشيوانتشو وقونفتشو كما دوَّن في مذكراته ما شاهده من أحوال التجار المسلمين الإفريقيين في الصين وأحوال مجتمع الصين واقتصادها وعاداتها وتجارتها وصناعتها الحرفية ومناظرها الطبيعية وجغرافيتها.
وجدير بالذكر أن البحار تشنغ المشهور في العالم هو من مسلمي مقاطعة يوننان من قومية خوي، وقد سافر جدَّه وأبوه إلى مكة لأداء فريضة الحج. وفي سنة 808هـ / 1405م أمرته حكومة أسرة مينغ بالإبحار على رأس أسطول ضخم يتألف من 62 سفينة "يبلغ طول كل سفينة حوالي 150 مترًا وعرضها حوالي 60 مترًا" ومن 27.800 بحار.
وفي فترة 28 سنة 808، 923هـ / 1405، 1433م سبق لتشنغ هو أن قام بسبع رحلات زار خلالها 35 من الأقطار الأفروآسيوية، إنه أول من وصل إلى جنوب خط الاستواء على سواحل إفريقية الشرقية، وقد سبق تنشغ هو البحار كولومبس بنصف قرن ونيف، علمًا بأن أسطوله يفوق الأسطول الغربي حوالي 20 مرة من حيث عدد سفنه، ويعتبر ذلك حدثًا فريدًا في تاريخ الإبحار[6].
إن تركستان الشرقية والمسلمين الصينيين هم صفحة من حضارتنا الإسلامية يجب أن نقرأها، ونعمل على عودة دورها في حضارتنا، وإن الشيوعيين المجرمين أعداء الإنسانية، وسحقة حقوق الإنسان، قد حاولوا تمزيق هذه الصفحة، فأغلقوا المساجد، وحلوا الجمعيات الإسلامية، وقضوا على تدريس القرآن، ومنعوا الزواج الديني، والختان والتطهير، وأرغموا إخواننا المسلمين في الصين على تربية الخنازير. لكن سيبقى دورنا نحن المسلمين العرب، والمسلمين الذي حماهم الله من الزحف الشيوعي. يبقى دورنا في مقاومة هذا الطاعون، بالعودة الصحيحة للإسلام، وبالتمسك العملي بالإخوة الإسلامية، فإن ذلك هو السبيل لعودتنا إلى مكانتنا الحضارية، ولرفرفة راية الإسلام من جديد عل تركستان شرقيها وغربيها، بل وعلى الأندلس، وصقلية ورودس. وما ذلك على الله بعزيز.