السودان عظة التاريخ
عندما دعيت لزيارة السودان وإلقاء محاضرات في التاريخ الإسلامي، كانت السودان تعيش لحظات مصيرية، فقد قرب موعد الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عن شماله حسب اتفاقية (نيفاشا)، فهو حديث الساعة، وحديث المشفقين على السودان من الحريصين على الوحدة من أهل البلد ومن البلاد العربية الأخرى؛ لأنهم يعلمون أن انفصال الجنوب هو مقدمة لانفصالات أخرى، مقدمة لمشروع تفتيت المنطقة، وقد بدءوا بالعراق ويذكرون دولاً أخرى هي على القائمة -لا سمح الله-.
عندما وصلت الخرطوم شعرت بالفارق بين زيارتي السابقة لها وبين واقعها اليوم، لقد تقدمت في بعض النواحي العمرانية وازدادت أمنًا واطمئنانًا، وإن كان القلق على المستقبل باديًا على الوجوه، فهل بعد الجنوب (دارفور)؟ شيء مرعب أن يتجزأ هذا البلد الكبير الذي يمتلك إمكانات زراعية ومعدنية كبيرة، بل هذا البلد الذي -رغم كل شيء- تتاح فيه الحرية للدعوة أكثر من البلاد الأخرى.
إن قصة الجنوب ليست حديثة العهد، فقد بدأت منذ عام 1955م أي قبل رحيل المستعمر البريطاني، واستمرت المناوشات والحروب مع الشمال طيلة هذه الفترة ولم يحصل الهدوء أو توقف القتال إلا في فترات قصيرة لا تتجاوز العشر سنوات، والبعض يقول (من مسئولي الدولة): لقد أنهكتنا هذه الحروب وأفشلت التنمية وأضعفت الميزانية.
ولكن ألا يمكن أن تحل هذه المشكلة بغير الانفصال؟
كان يمكن ذلك لولا أن اتفاقية (نيفاشا) التي وقعت عليها الحكومة كانت اتفاقية مشئومة باعتراف حتى الذين يرغبون في الانفصال من الشماليين؛ لأنها أعطت الحركة الشعبية التي تقود الجنوب أكثر مما كانوا يحلمون به (انظر تنازل الإسلاميين في العراق لمصلحة الدستور المشئوم)، انظر ما فعلته الدولة العثمانية حين أعطت فرنسا ما سمِّي بالامتيازات وكيف كانت سببًا لطائفة من الشرور في المشرق الإسلامي.
كيف يعطون حق تقرير المصير؟ ولماذا لا يكون شيئًا من الحكم الذاتي مع الارتباط بالشئون الكبرى؟ وكيف ينسحب الجيش والموظفون الشماليون من الجنوب قبل مجيء موعد الاستفتاء؟ وكيف يقبل السودان أن يخطط لمنطقة (أبيي) البترولية لجنة دولية برئاسة سفير أمريكي سابق، وتصبح أكثر الآبار من حصة الجنوب، مع أن المنطقة يسكنها قبائل عربية (المسيرية)؟! بل لماذا لم تستغل الفرصة في السنوات الخمس الماضية في الدعوة بين صفوف الوثنيين (يشكلون نسبة كبيرة من السكان)؟
هل الانفصال في صالح الشمال؟ بعض رجال الدولة وبعض المثقفين يرون ذلك، ولكن مآلات الأمور ليست في صالح الشمال ولا في صالح الدول العربية المجاورة؛ لأن الجنوب سيكون مرتعًا للمؤامرات على السودان، وسيكون الانفصال مشجعًا لانفصال أقسام أخرى من هذه الدولة المترامية الأطراف. وفي لقاء مع وزير الخارجية السوداني (من شبه المستحيل أن تلتقي بسهولة مع وزير خارجية في الدول العربية الأخرى) في هذا اللقاء، وبحضور بعض الدعاة أسهب الوزير في ذكر قضية الانفصال، وشعرنا من كلامه بأن الانفصال واقع لا محالة، وكنت أعلم هذا فسألته: وهل ستحلون مشكلة دارفور بعد انفصال الجنوب، حتى لا تتكرر المأساة؟ قال: إن شاء الله، ولكن ليس الأمر سهلاً، فهناك عشرات المنظمات التنصيرية تعمل في دارفور، ولا يوجد غير خمسة من المنظمات الخيرية الإسلامية.
وسألته عن حق الشمال من البترول إذا وقع الانفصال فقال: 30%، وفوجئت بهذا الجواب، وسألته مرة ثانية إذن ماذا ستعملون؟ قال: إن مصفاة البترول وكل أعمال التصدير هي عن طريق الشمال، فستبقى الحصة الموجودة الآن وهي 50%، وذكر أن هناك مسلمين في الجنوب حوالي 18%، والقبائل الحدودية لها علاقة جيدة بالشمال، وقد شكا من خذلان بعض الدول العربية للسودان، وهذا حق لا شك في ذلك، فهم يكررون ما فعله بعض ملوك الطوائف في الأندلس حين كانوا يستعينون بالنصارى على إخوانهم في مدن أخرى.
إن المستهدف ليس السودان فقط؛ فالمشروع (الصهيوأمريكي) المتحالف (سرًّا) مع المشروع الصفوي يستهدف المنطقة العربية السنية. ومن ضعف البصيرة والأنانية الشخصية المفرطة أن بعض أهل الشمال يقولون: فليذهب هؤلاء الجنوبيون ولنستريح منهم؛ ربما لأن بعض هؤلاء يعيشون في الترف، واستفادوا من بعض الفساد الإداري الذي لا بد أن يفشو بغياب المحاسبة الدقيقة وبغياب الحس الديني الذي لا يأكل المال الحرام، وربما هناك صنف آخر لم يدرك حجم الخسارة، ولا حجم المؤامرة ويظنون أنهم يرتبون أمورهم في الشمال أحسن ترتيب بعد الانفصال، ولكن أهل الخبرة والحريصين على الوحدة يتأسفون لما سيقع، ويلقون باللائمة على الحكومة التي وقّعت اتفاقية (نيفاشا) وأراد مهندس هذه الاتفاقية أن ينجز شيئًا، ولو على حساب السودان، وظن أنه خلال هذه المدة بين توقيع الاتفاقية ومجيء يوم الاستفتاء يستطيع أن يقنع الجنوبيين، أو أن يغريهم بالمال، ولكن أمريكا كانت تغدق عليهم الأموال وتعدهم بمجيء الشركات الأمريكية للاستثمار، وتؤزّهم على الانفصال، وهكذا شعرت الحكومة أنها لا تستطيع إلا أن تنفذ ما وقعت عليه في (نيفاشا).
كثير من الناس لا يقرأ التاريخ؛ ففي قضية انفصال باكستان عن الهند، ومع وجاهة رأي الذين أيدوا الانفصال لكن شخصيات كبيرة لم تؤيد الانفصال مثل الشيخ أبي الحسن الندوي والزعيم المسلم (أبو الكلام آزاد)، والذي وقع بعد ذلك أن انفصلت باكستان الشرقية عن الغربية والتي سمِّيت (بنجلاديش)، ثم المحاولات الآن لتفتيت باكستان بانفصال إقليم (بلوشستان).
والعجيب أن بعض المشايخ (من خارج السودان) أفتوا بجواز انفصال الجنوب؛ لأنه ليس أرضًا إسلامية في الأصل، وأظن أن هؤلاء يقيسون الأمور قياسًا فاسدًا دون أن ينظروا إلى المصالح والمفاسد، ودون أن ينظروا إلى المستقبل وما يخبأ للسودان من مؤامرات، وكيف يرضى هذا الشيخ بانفصال أرض تحت حكم المسلمين ويمكن أن تتيسر أمور الدعوة فيها، ويدخل أهلها في الإسلام؟!
إن القضايا السياسية معقدة، وتحتاج إلى بصيرة ومشاورة، والاستفادة مما يقوله أهل الاختصاص والخبرة بشئون الدول والمجتمعات.
الدكتور محمد العبدة