وقفات مع توزيع غنائم حنين (2-2)
وقفنا في المقال السابق أمام قضية الغنائم بوجه عام، ثم ركزنا أكثر على غنائم يوم حنين، وكيف قسّمها رسول الله على المسلمين، وعرفنا أن رسول الله قد وزّع أربعة أخماس الغنائم على كل مَن شارك في الغزوة، ثم أعطى المؤلفة قلوبهم من مال الخمس الخاص بالدولة. ونقف هنا مع مَن أعطاهم رسول الله من خمس الدولة، وتفسيره لذلك.
الرسول يعطي أبا سفيان
وأول لقاء كان مع أبي سفيان زعيم مكة الأول الذي ظل يحكم مكة ست سنوات متصلة من غزوة بدر إلى فتح مكة، وهو من أصحاب رءوس الأموال الضخمة في مكة، وهو قد طُعن كثيرًا في كرامته في غضون الشهرين السابقين، بدايةً من زيارته إلى المدينة المنورة كما رأينا قبل ذلك لمحاولة إطالة مدة الحديبية، ومرورًا بموقفه في الطريق من المدينة إلى مكة، وإيمانه في ظروف قاسية جدًّا على قلب أي زعيم، ومرورًا أيضًا بدعوة أهل مكة لعدم الدفاع عنها وفتحها لرسول الله دون قتال، وانتهاءً بنزع زعامة مكة منه وإعطاء هذه الزعامة لأحد الأمويين الذي كان من سنِّ أبنائه، وهو عَتَّاب بن أَسِيدٍ .
لا شك أن الرسول كان يقدِّر كل هذه المعاناة التي يشعر بها أبو سفيان في الإسلام، كما أنه يعلم أنه لن يرضى بقليل من العطاء؛ لأنه كان من كبار أغنياء مكة، فلن يرضيه أن يأخذ عشرة أو عشرين جملاً، فهذا كبير زعماء مكة؛ لذلك أراد الرسول أن يعطي له عطاءً ضخمًا.
جاء أبو سفيان إلى الرسول ، وهو في وادي الجعرانة، وقد رأى أبو سفيان كما رأى الجميع الغنائم الهائلة التي لا يحلم بها عربي، قال أبو سفيان -وهو ينظر إلى الغنائم-: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً.
أبو سفيان يلمح للرسول بوجود المال الكثير؛ ليعطيه منه. فتبسّم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير مُجْدٍ، قال: أعطني يا رسول الله من هذا المال.
ونحن لا نتعجب من كلام أبي سفيان وتصريحه للرسول بطلبه للمال هكذا تصريحًا؛ لأن هذه كَمِّيَّات كبيرة، وسوف توزع، فلعله إن لم يصرح وزِّعت على غيره، وبعد ذلك لا ينفع الندم، فقال الرسول في يسر وسهولة: "يَا بِلاَلُ".
وكان بلال هو من يوزِّع هذه الغنائم، فقال: "يَا بِلاَلُ، زِنْ لأَبِي سُفْيَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ".
يا الله! انظرْ بلال يوزع الغنائم! إن الله يعز من يشاء {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
بلال الذي كان يُباع ويُشترى ويُعذب، هو الآن المقرَّب من زعيم الدولة، وهو الذي يُعطي هذا وذاك من الزعماء السابقين.
نظر أبو سفيان إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه لكثرة الأغنام والإبل والفضة، في لحظة واحدة أصبح أبو سفيان يمتلك أربعين أوقية من الفضة -أي حوالي كيلو ونصف من الفضة؛ لأن الأوقية حوالي 37.5 جرامًا- ومائة من الإبل، ورقم مائة من الإبل هذا رقم ضخم وهائل، حتى إن دية القتيل مائة من الإبل. وكان هذا الرقم هو الذي رصدته قريش لمن يأتي بالرسول أو الصِّدِّيق حيًّا أو ميتًا عند الهجرة إلى المدينة، فوجد نفسه -سبحان الله- يطلب المزيد قبل أن يَفْنَى هذا المال الغزير، يقول: ابني يزيد، يا رسول الله.
فقال في منتهى البساطة: "زِنْ لَهُ يَا بِلاَلُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ".
فقال أبو سفيان: يا رسول الله، ابني معاوية.
فقال رسول الله : "زِنْ لَهُ يَا بِلاَلُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ".
ذهل أبو سفيان، وقال في صدق: إنك الكريم، فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك، فنِعْمَ المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرًا.
نشعر بالصدق في كلمات أبي سفيان، ما الذي غيَّره؟
تغيَّر من رجل يشكُّ في نبوة الرسول إلى رجل مؤمن مادح لرسول الله ، فما الذي ثبته بعد تردُّد؟
وما الذي أسعده بعد حزن؟
إنه المال، الثلاثمائة من الإبل، والمائة وعشرون أوقية من الفضة، وماذا تمثل هذه الأموال إلى جوار هداية إنسان؟
وما هذه الأموال إلى جوار استقرار الدولة الإسلامية؟!
وما هذه الأموال إلى جوار تأليف قلوب بني أمية؟
وما هذه الأموال إلى جوار ثبات أهل مكة على الإيمان؟
المال حلو ونضر، ولكنه يتصاغر جدًّا إلى جوار هذه المعاني.
هذه كانت نظرة الرسول ، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يعطي وكأنَّ المال لا ينتهي.
الرسول يعطي حكيم بن حزام
وجاء حكيم بن حزام، وهو أيضًا من مسلمي الفتح، ودار بينه وبين الرسول حوار، والحوار في البخاري ومسلم، يقول حكيم بن حزام : سألت رسول الله ، فأعطاني مائة من الإبل. ثم يقول حكيم: ثم سألته فأعطاني مائة ثانية، ثم سألته فأعطاني مائة ثالثة.
أعطاه الرسول ثلاثمائة من الإبل، وقال الرسول عندما رأى أن حكيم بن حزام يريد المزيد، والمزيد من المال، فأحبَّ الرسول أن يعلمه درسًا، ويوقف الطلب المتكرر، فأعطاه درسًا تربويًّا في منتهى العظمة، قال له: "يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ". ولم يقل: حلوًا خضرًا؛ لأن المقصود بالمال هنا الدنيا كما في الحديث: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ".
ثم يقول الرسول : "فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ -يعني: بغير شرط ولا إلحاح- بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، وَتَشَوُّفٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يِأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى".
وسمع حكيم بن حزام هذا الدرس، وفقه مراد الرسول ، فأسرع بردِّ المائة الثانية والثالثة، وأخذ المائة الأولى فقط، ثم قال في صدق: "يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحدًا من بعدك يا رسول الله حتى أموت". أي أنني لا آخذ من أحد شيئًا، ولا أنقص أحدًا أبدًا ماله.
وسبحان الله! كان حكيم بن حزام صادقًا في قسمه، فما كان يأخذ من أحد شيئًا، حتى إنه كان يرفض العطاء الذي يستحقه من أبي بكر، ثم عمر بعد ذلك؛ لأنه أقسم أنه لا يأخذ من أحد شيئًا أبدًا. فهذا كان درسًا نبويًّا عظيمًا، ولننظر إلى المنهج الإسلامي العظيم كيف يشكِّل الناس، ويعيد بناء الناس على صورة أشبه بالملائكة منها بالبشر.
الرسول يعطي الزعماء من الخمس
وبدأ الرسول يوزِّع بقية الخمس من الغنائم على زعماء مكة، وأعطى من يعتقد أن في قلبه ضغينة للإسلام، وحقدًا على الدولة الجديدة؛ إما لدوافع قبليّة، وإما لأنهم أقارب لبعض من قتلوا على يد المسلمين، أو أنه قد نزعت زعامتهم الشخصية؛ فأعطى سهيل بن عمرو ، وهو أحد كبار زعماء مكة، والمفاوض القرشيّ الشهير في صلح الحديبية، والذي أسلم منذ أيام قليلة في فتح مكة. وأعطى الحارث بن هشام أخا أبي جهل؛ وذلك ليتألف قلبه، وليهون عليه مصابه في أخيه زعيم مكة سابقًا أبي جهل، وليتألف قلوب بني مخزوم. وأعطى النضير بن الحارث أخا النضر بن الحارث شيطان قريش المعروف، الذي كان من ألد أعداء الرسول ، والذي قُتل في أعقاب غزوة بدر، أعطاه ليتألف قلبه، وليتألف قلوب بني عبد الدار. وهكذا أعطى كثيرًا من زعماء مكة ؛ ليضمن استقرار الأوضاع في مكة.
بدأ الرسول يعطي زعماء القبائل من الأعراب حتى يضمن ولاءهم للدولة الإسلامية، وأعطى عُيَينة بن حصن زعيم قبيلة بني فزارة، فأعطاه مائة من الإبل. وهذا الرجل كان رجلاً غليظًا جدًّا، سيِّئ الخُلُق، وقد اشتراه بالمال، وإن كانت أخلاقه لم تتغير كثيرًا، وهذا الرجل ارتدَّ بعد وفاة الرسول ، ولكنه عاد وتاب أيام أبي بكر الصِّدِّيق .
وأعطى رسول الله أيضًا زعيم بني تميم الأقرع بن حابس، وكان من غلاظ الطباع وحديثي الإسلام، وكانت بنو تميم قبيلته قوية، أعطاه مائة من الإبل ليتألف قلبه وقبيلته. وكذلك أعطى عباس بن مِرْدَاس زعيم قبيلة سُليم، ويبدو أنه قدَّر قيمة العباس أقل من قيمة عيينة والأقرع، فأعطى له خمسين ناقة فقط، ومع أن الخمسين ناقة هذا رقم كبير جدًّا، إلا أن ذلك لم يعجب العباس بن مرداس، فذهب إلى رسول الله يطلب المزيد، ويطلب المساومة ويقارن نفسه مع عُيَينة والأقرع زعيمي فزارة وتميم، وبدأ يقول شعرًا في ذلك، قال:
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْـبُ الْعَبِيدِ *** بَيْـنَ عُيَيْنَـةَ وَالأَقْـرَعِ
العبيد هذا هو فرسه، يقول: إن نصيبه أصبح قليلاً بين عيينة والأقرع.
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا *** وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَـعِ
أي أن الذي يَضَعُ رسولُ الله قدرَه لن يُرفع بعد ذلك، فلما سمع الرسول هذه الكلمات، قال: "اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ، وَزِيدُوهُ إِلَى مِائَةٍ".
وزادوا له في العطاء. ولننظر إلى تعليق الرسول ، وهو تعليق يدل على أن هؤلاء ما دخلوا في الإسلام إلا رغبًا في هذه الأموال، أو رهبًا من الدولة الإسلامية، وبعد ذلك حسن إسلام العباس بن مرداس، وصار من فضلاء الصحابة .
نجحت سياسة إعطاء الأموال لتأليف القلوب في تثبيت هؤلاء المسلمين الجدد على الإسلام، وبالتالي تثبيت الدولة الإسلامية. روى مسلم عن أنسٍ ، أنه قال: "إن كان الرجل ليُسْلِمَ ما يريد إلا الدنيا، فما يُسْلِم حتى يكون الإسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها".
الرسول يعطي صفوان بن أمية قبل أن يسلم !
بل إن الرسول في يوم حُنين، أو عند توزيع غنائم حُنين أعطى من غنائم حُنين بعض المشركين، ومن أشهر من أعطاهم زعيم مكة الكبير صفوان بن أمية، وكان لا يزال مشركًا، وأبوه الزعيم المشهور أمية بن خلف، وأمية قُتل كافرًا في بدر، وصفوان بن أمية هو من زعماء مكة الذين اشتركوا في الحروب المتتالية ضد المسلمين، وممن فرَّ من مكة بعد الفتح، وكان الرسول قد أعطاه قبل ذلك مدةَ أربعة أشهر ليفكر في أمر الإسلام، ثم استأجر منه السلاح في غزوة حُنين، وخرج صفوان وهو لا يزال مشركًا مع الجيش المسلم في حُنين؛ ليحمل الأسلحة للجيش المسلم على جماله، وظهرت منه بعض الكلمات التي توضح ميلاً للإسلام، وذلك لما غُلب المسلمون في أول الأمر وهربوا، قال أحد المشركين -وكان اسمه كلدة بن الحنبل-: بطل السِّحْر اليوم.
فاعترض صفوان على شماتة كلدة، وقال: اسكت فضَّ الله فاك؛ فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن.
إن أمية وإنْ قال هذا الكلام من ناحية قبلية، إلا أنه عبر عن اختفاء الضغينة الشديدة للرسول من قلبه، وهذه الضغينة كانت موجودة في قلوب كل المشركين في مكة. ويبدو أن الرسول أحسَّ منه فرصة إسلام، فأراد أن يجزل له العطاء بصورة أضخم فوق ما يتصور. وقف صفوان بن أمية يشاهد الناس الذين توزَّع عليهم الغنائم مائة ومائة ومائة، وهو من المشركين، نادى الرسول على صفوان بن أمية، وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى الزعماء المسلمين من أهل مكة، فوجده الرسول ما زال واقفًا، ينظر إلى شعب من شعاب حُنين، قد مُلئ إبلاً وشاءً، وبدت عليه علامات الانبهار من كَمِّيَّات الأنعام، فقال له : "أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكُ هَذَا الشِّعْبِ؟".
تعجبك هذه الأغنام وهذه الإبل؟ قال صفوان في صراحة شديدة: نَعَمْ.
إنه منظر جميل جدًّا! كميات ضخمة من الأموال، فقال الرسول في بساطة، وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: "هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ".
أذهلت المفاجأة صفوان، ووضحت الحقيقة أمام عينيه، والتي ظلت غائبة عنه سنين طويلة، ولم يجد صفوان بن أمية نفسه إلا قائلاً: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أسلم صفوان في مكانه، يقول صفوان بن أمية كما روى الإمام مسلم في صحيحه: والله لقد أعطاني رسول الله ، وأعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ .
أيُّ خير أصاب صفوان !
أيُّ خير تحقق لقبيلة بني جمح عندما أسلم زعيمها!
وأيّ خير تحقق لمكة!
وأي خير تحقق للمسلمين، وقد أضيف إليهم قوة الزعيم المكيّ المشهور صفوان بن أمية، الذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله.
إن كل هذا الخير قد تحقق بمجموعة من الإبل والشياه، وما هي قيمة هذه الإبل والشياه فهي إما تؤكل أو تموت، إن الدنيا بكاملها -وليس الإبل والشياه فقط- تفنى وتزول، ولكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، وكم من البشر سيذوق نعيم الجنة هذا ويخلد فيه؛ لأنه أُعطَى ذات يوم مجموعة من الإبل والشياه! أليس هذا فهمًا راقيًا من رسول الله لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟ أليس هذا تقديرًا صائبًا من الرسول الحكيم في هذه المقارنة التي عقدها المصطفى ؟
الأغنام في مقابل الإسلام، الدنيا في مقابل الآخرة، وجد الرسول أن الأغنام قد هانت عليه، بل هانت عليه الدنيا بكاملها، أعطاها دون تردد، فالدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يمٍّ واسع، الدنيا عنده أهون من جدْيٍ أَسَكَّ[1] ميِّت. وهذا لم يكن كلامًا نظريًّا فلسفيًّا، وإنما رآه كل الناس بعيونهم، وكان واقعًا في حياته، وحياة الصحابة ، وكان هذا الواقع بارزًا في أبهى صورة؛ حيث أعطى كما لم يعطِ أحد من العالمين، حتى بعد ما أعطى هذا العطاء، لم يتبقَّ في يده شيء لنفسه ، لم يتبق ما يعوض به فقر السنين، وانقضاء العمر، وقد بلغ الستين من عمره، بل تجاوز الستين ، لم يحتفظ بشيء، وقد وزَّع هنا وهناك على الأعراب، وعلى حديثي الإسلام، حتى ما بقي معه شيء لنفسه .
حاصر الأعراب رسول الله يطلبون المال والأنعام حتى اضطروه -وهو الزعيم المنتصر، والقائد الأعلى- إلى شجرة، فانتزعت رداءَه، فقال في أدب، وفي رفق، وفي لين يليق به كنبيٍّ، ويجدر به كمعلِّم : "أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلاَ جَبَانًا، وَلاَ كَذَّابًا".
صلى الله تعالى عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، وصدق فما كان بخيلاً، ولا جبانًا، ولا كذّابًا .
الرسول يفسر بنفسه كل شيء
كان هذا هو فقهه يوم حُنين، وكان هذا هو قراره في توزيع خمس الغنائم بالكامل على المؤلفة قلوبهم، وكانت هذه أبعاد هذا القرار، وكانت هذه تبعات هذا القرار، وكانت هذه نتائج هذا القرار، وكانت هذه هي الصورة في ذهن الرسول ، فهل استوعب كل الصحابة هذه الصورة؟
وهل فهموا جميعًا هذه الأبعاد وأدركوا هذه النتائج؟ وهل يا تُرى اقتنعوا جميعًا بهذا القرار الذي أعطى المؤلَّفة قلوبهم، ولم يعطِ السابقين شيئًا؟
والحق أن الإجابة: لا، لم يفهم كل الصحابة هذا الفهم في هذا الوقت. نَعَمْ هناك من استوعب الموضوع بكامله، ولكن هناك من لم يستطع أن يدرك هذه الأبعاد النبيلة في فقه الرسول ، فكان لا بد من الاستفهام والتساؤل.
مِن هؤلاء مثلاً سعد بن أبي وقاص ، أبدى الاستغراب وقال: يا رسول الله، أعطيت عيينة والأقرع مائة، وتركت جُعَيْل بن سُراقة الضمريّ؟
وكان جعيل بن سراقة من فقراء المسلمين من أهل الصُّفَّة، فأجاب الإجابة الشافية، قال : "أَمَا وَالَّذَِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَجُعَيْلُ بْنُ سُراقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلاَعِ[2] الأَرْضِ كُلُّهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَِ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَلَكِنِّي تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلاَمِهِ".
هذه الكلمة تفسر كل شيء، فهذه الكلمة كانت تعدل عند جعيل مال الأرض كله، فليس معنى أنه أعطى واحدًا ومنع الآخر، أن الأول أفضل من الثاني، بل على العكس، إن جعيل بن سراقة أغلى من ملْءِ الأرض من عيينة والأقرع، مع أن جعيلاً أقل مالاً، وأقل شهرة، وأقل وضعًا اجتماعيًّا، ولكنه أعلى إيمانًا، وقدرًا، وأرسخ قدمًا في الإسلام. وجعيل فَقِه هذا المعنى، وهذه الشهادة من رسول الله ، فكانت عنده أغلى، ليس من غنائم حُنين فقط ولكن أغلى من كل الدنيا.
كان هناك استنكار بعض الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص من إعطاء حديثي الإسلام، وترك السابقين من المهاجرين والأنصار، لكن هناك استنكار آخر كان أكثر أهمية، وكان أكثر خطورة، وهو استنكار مجموعة أخرى من المسلمين، وهذه المجموعة كانت من الأنصار. ووجه الأهمية ومكمن الخطورة أن هذا الاستنكار لم يكن فرديًّا في الأنصار، وإنما كان جماعيًّا من مجموعة كبيرة من الأنصار.
وهذا الموقف مشهور ومعروف، ولكن هناك دروس لا تُحصى وتحتاج إلى تحليل كبير، وإلى استخراج عِبَر وعظات، وتحتاج إلى تعلُّم النهج النبوي الراقي جدًّا في إدارة الأمور، وكيف يخرج من الأزمات الطاحنة؟ ويخرج بأفضل النتائج التي لا تخطر على بال إنسان. إنه الفقه النبوي الحكيم والمنهج الرباني في تربية البشر.
[1] جدي أسك: أي صغير الأذنين. انظر: النووي: شرح صحيح مسلم 18/93.
[2] طلاع الأرض: ما يملأ الأرض حتى يطلع ويسيل.