مقدمات غزوة حنين
الصراع القبلي في شبه الجزيرة العربية
غزوة حنينتحدثنا من قبل عن الفتح العظيم فتح مكة، وإسلام معظم أهل مكة، وإضافة قوتهم الهائلة إلى الدولة الإسلامية، وهي ليست قوة بشرية أو اقتصادية فحسب، بل هي في الأساس قوة دينية واجتماعية وسياسية وأدبية، فقد أصبحت الكعبة المشرفة في يد المسلمين، ولا يخفى أثر ذلك في العرب الذين كانوا يعظمونها كثيرًا حتى في زمان الجاهلية.
عاد إلى المسلمين الكثير والكثير من أملاكهم المسلوبة، ومن جديد توثقت العلاقات بين الأُسر التي فرقت الهجرة إلى المدينة أو الحبشة بينها وبين بقية أفرادها في مكة المكرمة، وأصبح للمسلمين وضع متميز ألقى الرهبة في قلوب كل العرب، وبدأت الكثير من القبائل تحسب للمسلمين ألف حساب، فليس من السهل أن تهزم قريش، أو تُفتح مكة، أو يقبل سدنة الأصنام وكهنة هُبَل والعُزَّى ومَنَاة أن يدخلوا في الإسلام.
لقد كان فتح مكة بالفعل فتحًا عظيمًا بكل المقاييس، ومع أن هذا الفتح دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن هناك بعض القوى الأخرى في الجزيرة العربية أخذت موقفًا معاديًا من الإسلام ومن الدولة الإسلامية، وشعرت أن هذا النمو اللافت للنظر للدولة الإسلامية معناه ابتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قصير؛ ومن أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العُدَّة لحرب الدولة الإسلامية قبل أن يتفاقم الوضع، ويصبح خارج السيطرة.
مرض العصبية والقبلية عند العرب
وكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج أو هذا الأسلوب قبيلة هَوازِن، والجميع يعلم مدى الروح القبلية عند العرب، ومدى انتماء كل فرد لقبيلته بصرف النظر عن الحق أو العدل، وكان ذلك من الأمراض الخطيرة التي حاربها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة. وإذا أردنا أن نفهم قصة هوازن مع المسلمين فلا بد من العودة إلى الوراء بعض الشيء؛ لكي نتعرف على جذور هذه القبيلة وعَلاقتها بقريش. ونحن نعلم أن العرب بصفة عامة ينقسمون إلى قسمين رئيسيين: عدنانيين وقحطانيين؛ فالعدنانيون ينقسمون إلى ربيعة ومضر، ومضر تنقسم إلى إلياس وعيلان، وتأتي قبيلة قريش من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان بعد تفرعات كثيرة أيضًا، وكلما بعدت الأنساب ازدادت الصراعات بين القبائل، وفَقَد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها، وإذا كانت التنافسات والصراعات تحدث بين البطون القريبة من بعضها البعض بسبب القبلية، فما بالك بالبعيدة الأنساب!
نحن نعرف ما كان يحدث من صراع بين بني هاشم وبني مخزوم، والاثنان مخزوم وقصيّ كانوا أولاد عم مباشرة؛ فمخزوم جاءت منه قبيلة بني مخزوم، وقصيّ أتت منه بنو هاشم، ولكن مع ذلك حدث تنافس شديد بين القبيلتين بسبب القبلية. وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى المنافسة العسكرية الدموية كما حدث في الصراع بين الأوس والخزرج مع أنهما من أصل قريب جدًّا، فهما أولاد حارثة بن ثعلبة من فروع قحطان، لكنَّ داء القبلية كان يعصف بالجزيرة العربية؛ فلذلك قامت الحروب بين قبائلها.
وكما نعلم أن الرسول خرج من قريش، ومن ثَمَّ نجد القبائل البعيدة عنها تفكر في الإسلام بصورة أكثر تحفظًا من القبائل القريبة من قريش، وقد رأينا من قبل أن أبا جهل لم يدخل في الإسلام بسبب القبليّة فقط، مع أنه قريب للرسول . وعندما نرجع إلى شجرة الأنساب مع وضع النظرة القبلية هذه، سنفهم أحداثًا كثيرة جدًّا في السيرة؛ منها أن الفروع البعيدة جدًّا عن قريش كانت من أواخر القبائل التي أسلمت، ومن أشد القبائل قسوة على المسلمين، وأبعد الفروع عن قريش هي التي خرجت من قحطان، فهؤلاء لم يسلموا إلا متأخرين، مثل: قُضاعة وطيِّئ ومَذْحِج وبَجِيلة، ومنهم من كان شديدًا إلى درجة كبيرة على المسلمين مثل بني لِحيان، وقد ذكرنا لهم قصة طويلة.
ولكن يشذُّ عن هذه القاعدة قبائل الأوس والخزرج، إذْ أسلم هؤلاء في وقت مبكر، ويبدو أن ذلك للجذور اليمنيَّة لهذه القبائل، وهم من قبيلة الأزد اليمنية، ونحن نعلم أن أهل اليمن يمتازون برقة القلب، وقوة العاطفة، وهذا ليس كلامي إنما كلام رسولنا الكريم -كما في البخاري ومسلم- إذ يقول: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا"[1].
فهذه قصة قحطان وفروعها باستثناء الأوس والخزرج. وأسلم أيضًا من الفروع البعيدة جدًّا عن قريش فروع ربيعة، وربيعة هي الفرع الموازي لمضر، والخلاف بين ربيعة ومضر كبير جدًّا، وطويل أيضًا، وهؤلاء أيضًا قد تأخر إسلامهم مثل بني بكر بن وائل، وبني تغلب، وبني عبد القيس، ومنهم من كان شديد العداء لم يسلم إلا مضطرًّا، وسارع بالردة بعد وفاة الرسول مباشرةً، أو حتى قبل وفاته مثل بني حنيفة. ثم يأتي بعد ذلك مضر، وهي تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما: إلياس وعيلان، وعيلان مشهورة في التاريخ بقيس عيلان، وقيس أشهر أبنائها؛ فلذلك اشتهرت القبيلة بكاملها بهذا الاسم، وقريش كما ذكرنا تأتي من إلياس، فلذلك نجد قبائل عيلان تنافس بشدة قبائل إلياس، ومنها قريش. وإذا نظرنا إلى قبائل عيلان نجد أنها كثيرة جدًّا، من أشهرها ثلاث قبائل عندما نسمع عنها سنفسِّر أحداثًا كثيرة جدًّا في السيرة؛ وهم غطفان، وبنو سليم، وهوازن.
وقد رأينا مدى المعاناة التي عاناها المسلمون من غطفان على مدار سنوات مختلفة، وكذلك من بني سليم، وبعد ذلك أسلمت غطفان وبنو سليم، ويبدو أن إسلامهما كان إسلام المضطر؛ فقد بهروا بقوة الإسلام، وشعروا أنه لا طاقة لهم بالمسلمين، وقد يجتاحهم المسلمون اجتياحًا مدمرًا؛ فلذلك آثروا السلامة، وأن يعيشوا تحت كنف الدولة الإسلامية، وجاءت الوفود كما رأينا إلى المدينة المنورة، وبايعت على الإسلام بعد انتصار مؤتة، وقبيل فتح مكة المكرمة، ولم يكن الإسلام قد تمكَّن كثيرًا من قلوبهم، وكان الرسول يدرك هذا الأمر تمامًا؛ ولذلك سيحاول أن يتألف قلوبهم في الأيام القادمة. والشاهد من كلامنا هذا أن فرعين مهمين جدًّا من عيلان أسلما وهم مضطرون، وأعلنا هزيمتهما أمام الرسول القرشيّ ، ولم يبقَ إلا هوازن التي ظلت رافعة راية عيلان؛ فلذلك كانت انتصارات الرسول المتكررة تمثل نذير خطر كبير على هوازن، وقد تفاقم الأمر جدًّا بعد فتح مكة؛ لأن منازل هوازن قريبة جدًّا من مكة المكرمة في الشمال الشرقيّ منها، ولا يستبعد أبدًا أن تكون الدائرة على هوازن في المرة القادمة.
وعندما ننظر نظرة تحليلية في داخل هوازن نفسها نجد أن هوازن أيضًا قبائل كثيرة جدًّا، ولكن من أشهرها ثلاث قبائل؛ وهم بنو نصر، وبنو سعد الذين أرضعوا الرسول ، ومنهم حليمة السعدية، والقبيلة الثالثة وهي خطيرة جدًّا ومشهورة، وهي قبيلة ثقيف. وإذا كان التجمع الرئيسي لهوازن كما ذكرنا في الشمال الشرقي من مكة المكرمة، نجد أن ثقيف اختارت لها مدينة أخرى تعيش فيها، وهي مدينة الطائف في الجنوب الشرقي من مكة المكرمة، واستقرت فيها منذ قديم الزمان، وكانت ثقيف من أهم القبائل العربية مطلقًا، ومن أقواها بدليل أن مدينة الطائف هذه هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة المكرمة، فعندما قال الكفار: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31].
كانوا يقصدون قريتي مكة والطائف. وأعظم سادة في الجزيرة العربية سادة مكة والطائف، أي سادة قريش وثقيف، ومن الأدلة على أهمية ثقيف وقوتها ذيوع شهرة الصنم الذي يُعبد فيها، وهو اللاّت، وكان من أشهر أصنام العرب كما يعرف الجميع، وصنم العُزَّى، وكان يقع في منطقة نخلة، داخل أملاك هوازن. ونحن نعلم أن العرب بشتى طوائفهم كانوا يُقسمون باللات والعزى، وقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم عندما قال الله : {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} [النَّجم: 19].
وهذان الصنمان لهوازن، واحد في ثقيف، والآخر في هوازن نفسها في بني نصر وبني سعد؛ فلذلك كانت ثقيف تشعر بمساواة دائمة مع قريش، بل إنها كانت تشعر بالتفوق عليها عسكريًّا واقتصاديًّا وعدديًّا؛ فقد كانت أراضي الطائف جيدة جدًّا، والتجارة فيها رائجة، لولا أن قريش كانت ترعى البيت الحرام المعظَّم عند العرب، وهذا كان يرفع منزلة قريش عند العرب فوق ثقيف، ولكن ذلك لم يغيِّر من العَلاقة القبلية المتنافرة بين القبيلتين الكبيرتين؛ فلذلك كان إسلام ثقيف صعبًا جدًّا، وهذا الكلام يفسر لنا العداء الشديد الذي قوبل به رسول الله عندما ذهب إلى الطائف؛ لأنه في نظرهم قرشي، وقد رأينا أنه لم يسلم في هذه الزيارة ثقفي واحد، فقد تأخر إسلامهم كثيرًا، ومعظمهم لم يؤمنوا إلا في العام التاسع من الهجرة، والذين أسلموا قبل ذلك كانوا قليلين جدًّا، ومعدودين على الأصابع، كان منهم المغيرة بن شعبة الثقفي ، والكلام نفسه يصدق على هوازن وبني سعد، فلا تجد أحدًا منهما أسلم حتى العام الثامن أو التاسع من الهجرة، فمعظمهم قد أسلم في أخريات العام الثامن.
هذه نفسيَّة هوازن بفروعها الثلاث الرئيسية: بني نصر، وبني سعد، وثقيف. وأعتقد أن هذه المقدمة ستفسر لنا كثيرًا جدًّا من المعارك المهمة القادمة. وكعادة العرب فإنهم كانوا يعيشون حياة التفرُّق حتى في بطون القبائل الواحدة، فما أكثر الحروب التي وقعت في داخل الفرع الواحد من القبيلة، كما يصور ذلك شاعرهم[2]:
وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا *** إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ أَخَانَا
وكانت قبيلة هوازن تسير بنفس النمط، ففروعها كثيرة، ولكنها لم تتوحد في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد، بل عاشوا حياة الفُرقة، كما عاشها بقية العرب قبل الإسلام، وكما يعيشها العرب دائمًا، كلما ابتعدوا عن الإسلام.
مالك بن عوف النصري يوحد قبائل هوازن
ظهرت في قبيلة هوازن في الفترة التي سبقت فتح مكة مباشرة، وأثناء فتح مكة ظهرت شخصية هوازنية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة، وغيّرت كل شيء فيها، وهي شخصية مالك بن عوف النصريّ من بني نصر من هوازن. وأمثال هذه الشخصية كثير في التاريخ، فهذا الرجل كان شابًّا لم يبلغ الثلاثين من عمره بعدُ، ولكنه كان يملك ملكات قيادية متميزة، وعنده علم كبير بالخطط العسكرية، والفنون القتالية، كما كان خطيبًا مفوَّهًا، له قدرة كبيرة على التأثير في الناس، كما كان يتميز بقدرته الفائقة على حَشْد وتجميع الطوائف المختلفة لأداء مهمة معينة، ولديه طاقات هائلة، ولكن -للأسف الشديد- كل طاقاته هذه كانت موظَّفة في الشر.
بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن، فهذه هي المرة الأولى التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة. وبالطبع هذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، وخاصةً أنه من بني نصر، وجمع تحت رايته ثقيفًا، ومعروفٌ أن ثقيفًا هي أعظم قبيلة من قبائل هوازن وأعزها، ومع ذلك قَبِلت أن تسير تحت راية مالك بن عوف النصري. ولكن كم جمع منهم؟ لقد جمع أكثر من خمسة وعشرين ألف مقاتل، وهذا أكبر رقم يُجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبةً، جيش هائل فعلاً، ولكن على أيِّ شيء جمعهم؟!
لقد جمعهم على شيء واحد فقط، ألا وهو (القبليَّة)، نحن من هوازن، ومحمد من قريش، هذا هو المنطق. مع أن الرسول ما سعى قَطُّ إلى تجميع القرشيين ضد القبائل العربية الأخرى، بل على العكس، فقد كان العدو الأكبر للرسول في خلال السنوات العشرين السابقة قبيلة قريش، وكان جيشه يضم أفرادًا من كل قبائل العرب، فقد كان الجانب الأعظم من جيش فتح مكة من الأوس والخزرج، وغفار، وأسلم، والأزد، ومزينة، وجهينة، وغطفان، وبني سليم، وبني تميم، وغير ذلك من الفروع القريبة، والبعيدة عن قريش، ولم يكن من القرشيين. وقد رأينا أن غطفان وبني سليم -وهما الأكثر قربًا لهوازن- كانا في جيش الرسول الذي فتح مكة.
وقد كان المُحفِّز الوحيد الذي استخدمه مالك بن عوف في ذلك هو قضية (القبلية)، وأقنع الناس بما نشأ عليه العرب من أن القبيلة فوق كل شيء، وقبل كل شيء، وأن عز القبيلة مُقدَّم على الحق، وعلى العدل، وعلى القيم، وعلى المثل العليا، وعلى أي شيء. وهي فكرة القومية نفسها التي ينادي بها الكثيرون في زماننا، أو في الأزمان التي سبقت، أو الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، فكرة (القومية) أو (الوطنية) فيها تقديم مصلحة -أي مصلحة- القوم أو الوطن أو العنصر، بصرف النظر عن الحق، فإذا خاض الوطن أو القوم حربًا ظالمة، فأنا معهم؛ لأن مصلحة الوطن مقدمة على الحق والعدل. هذا منطقهم إذا رأى البعض أن مصلحة القوم أو الوطن تتعارض مع حكم شرعي، أو عُرْف دولي، أو قاعدة أخلاقية، يترك الحكم الشرعي أو العرف الدولي أو القاعدة الأخلاقية، وتُقدَّم مصلحة القوم أو الوطن، وهذا الكلام سقيمٌ لا وزن له عند ربِّ العالمين I.
وليس معنى ذلك أن فكرة حب القوم أو الوطن مرفوضة إسلاميًّا، أبدًا، بل على العكس؛ إذْ إن حب الأهل والعشيرة فضيلة يحض الإسلام عليها، لكن بشرط ألاّ تكون على حساب الدين والحق والعدل، اسمع لكلام المولى I إذ يقول في كتابه الكريم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ففي هذه الآية الجامعة وضح لنا ربُّنا I أن تقديم الأهل والعشيرة وتقديم المساكن -أي الوطن- على أمر الدين، هو نوع من الفسق، ومن فَعَله فعليه أن ينتظر العقاب من رب العالمين، والعقاب مَخُوفٌ جدًّا، حتى إن ربنا I أخفاه، ولم يُعيّنه لزيادة الرهبة، قال : {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24].
فما هذا الأمر؟ لقد أخفاه رب العالمين I، لكن على الناحية الأخرى، هل معنى الآية أن حب الآباء والأجداد والأبناء والعشيرة والقوم والقبيلة والوطن والتجارة، هل هذا حب مذموم؟
حاش لله! ليس هذا هو المعنى المراد مطلقًا، بل أمرنا الله أن نصل آباءنا وأجدادنا وأهلنا، ولو كانوا مشركين، لكن إذا تعارض الأمر مع الدين، فلا بد من مفاصلة، إذا تعارض الأمر مع الحق والعدل، فلا بد من المفاصلة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
الوضع عند القوميين أو عند مالك بن عوف النصريّ كان على خلاف ذلك، فهو على علمٍ يقيني، وهو بليغ من أهل اللغة، أن القرآن حق، وأن الرسول صادق، غير أنه ضحَّى بهذا الحق والدين في مقابل إعلاء القومية الهوازنية، وهذه -بمنتهى الوضوح- أزمة أخلاقية وعقائدية خطيرة، وهذه هي الجاهلية بعينها، وكل من دعا إلى هذا الفكر، فهو يدعو إلى فكر جاهلي.
وهذا ليس كلامي، إنما هو كلام الرسول ، واسمع إلى رواية مسلم، وابن ماجه، والنسائي، وأحمد عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال: "مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ"[3].
أي لا يدري لأي سبب أو هدف يقاتل، فهو يغضب من أجل عائلته أو قومه، فإذا فعل ذلك وقُتِل، فهو يموت ميتة جاهلية. والرسول قال -فيما رواه أبو داود عن جبير بن مطعم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ"[4].
الكلام في منتهى الوضوح، وكانت هذه أول نقطة سلبية عند مالك بن عوف، فهو يدعو إلى قومية وقبلية، بصرف النظر عن مواطن الحق والعدل.
أما النقطة السلبية الثانية، فقد كانت خطيرة جدًّا، فهو يستخدم البلاغة وحسن البيان في خداع الناس، فهو يوهمهم بخلاف الواقع، ومن ثَمَّ يغرِّر بشعبه. وانظر إلى قوله لهم عندما وقف يخطب فيهم وهو يقول: إن محمدًا لم يقاتل قَطُّ قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم، أما نحن فأهل الحروب، وإذا التقينا سيكون الظفر لنا[5].
وهذا الخطاب من الخداع غير المقبول بالمرَّة لشعب ساذج حقًّا، شعب هوازن، الذي -يما يبدو- كان شعبًا معزولاً عن العالم الخارجي، لا يقرأ، ولا يكتب، ولا يرى، ولا يسمع، وإلا فما كان من السهل أن يُخدع بهذه الصورة. ولكن أيُّ أقوام أولئك الذين لقيهم رسول الله ، وكانوا أغمارًا لا علم لهم بالحرب؟! هل قريش التي هُزمت منذ أيام في عقر دارها أو قبل ذلك في بدر والأحزاب لا علم لهم بالحرب؟
هل غطفان التي اكتُسحت في ديارها فأذعنت، وأطاعت، وسلَّمت، وأسلمت لا علم لها بالحرب؟ هل اليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، بل في خيبر لم يكن لهم علم بالحرب؟ هل الرومان وأعوان الرومان من نصارى العرب بأعدادهم الهائلة، وأسلحتهم المتقدمة، وتاريخهم الطويل في الحروب، وخبرتهم الفائقة فيها، هل كل هؤلاء لم يكن لهم علم بالحرب؟!
حقًّا إن شعبًا لا يدرك أحوال الدنيا حوله، لجدير أن يُدَلَّس عليه، ويُسخر منه، ويُهزم، ويُذل. نَعَمْ قد خدعهم مالك بن عوف بكلامه المعسول، وخطابه البلاغي، فهم شعب ساذج، قابل للخداع، قَبِلَ أن يرى الدنيا بعيون مالك بن عوف؛ فلذلك كان لا بد له أن يدفع الثمن باهظًا. وهذه كانت خصلة خطيرة فيه، فهو مخادع، يتكلم بكلام جميل، ولكنه خلاف الواقع، ويقنع الناس بأمور وهميَّة، ليس لها أصل أو واقع في حياة الناس.
وأما النقطة السلبية الثالثة فيه أنه لم يقم وزنًا يُذكر لشعبه مع أنه في الظاهر يعمل لشعبه، فهو لم يكن لديه أي مانع أن يضحي بشعبه كله من أجل تحقيق المجد الشخصي له، ولننظر ماذا فعل بشعبه؟
لقد أمر أن تؤخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال، وكل ممتلكات شعب هوازن معه إلى أرض القتال، فتوضع خلف الجيش؛ تحفيزًا للجيش على القتال. كأنه يقول لهم: إذا انهزم جيش هوازن، أو فرَّ من أرض القتال، فسيستولي المسلمون على كل ممتلكات هوازن. ولا شك أنه لم ينظر بالمرة إلى احتمالية الهزيمة، وهذا أمر وارد في أي معركة، فلا يوجد مانع أن يدفع الشعب كله، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ثمنَ تحقيق النصر لمالك بن عوف؛ ليحقِّق مجده الشخصي.
أما النقطة السلبية الرابعة في قائد هوازن أنه كان دكتاتورًا لا يستمع لرأي الآخرين، ولو كانوا من الخبراء، كما أخبر الله تعالى عن فرعون الذي كان يقول لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
لقد حاول بعض الخبراء العسكريين في هوازن أن يبعدوا عن ذهن مالك بن عوف قرار أخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال إلى أرض المعركة، لكنه أصرَّ إصرارًا عجيبًا. وقد نقلت لنا كتب السيرة حوارًا دار بينه وبين دُرَيد بن الصِّمَّة أحد المخضرمين عسكريًّا في هوازن، كان عمره أكثر من مائة سنة، تعجَّب لاصطحاب كل ممتلكات هوازن في أرض القتال، فسأل مالك عن ذلك، فقال مالك: "أردتُ أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله؛ ليقاتل عنهم". فغضب دريدٌ غضبًا شديدًا، وقال: "راعي ضأن والله". أي أنت لا تعدو إلا أن تكون راعيًا للغنم، والله ما تصلح للقيادة العسكرية، ثم ذكر له وجهة نظره، وكانت وجهة نظر صحيحة، فقال: "وهل يَرُدُّ المنهزمَ شيءٌ؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فُضِحت في أهلك ومالك".
ثم قال دريد بن الصمة -وهو رجل مجرب خبير-: "إنك تقاتل رجلاً كريمًا، قد أوطأ العرب، وخافته العجم، وأجلى اليهود".
فدريد قدَّر قوة الرسول تقديرًا سليمًا، وقال الرأي الأصوب، لكن مالك لم يأخذ بمشورته، ولم يسمع له؛ لأنه لم يكن يرى إلا رأيه فقط، ومع ذلك لم ييئس دريد واستمر معه في الحوار، ثم سأله: "ما فعلت كعب وكلاب؟".
فهو يسأل عن آراء الخبراء من قومه أفضل بطون هوازن عسكريًّا، وفيهم العدد والعُدَّة، فهو يودُّ أن يعرف رأيهم في هذه الكارثة التي قد تحدث بعد قليل، فردَّ الحاضرون: "لم يشهدها منهم أحدٌ". أي: لم يحضر أحد منهم المعركة. فقال دريد -وقد ازداد يقينًا برأيه-: "غاب الحَدُّ والجِدُّ، ولو كان يوم علاء ورفعة، لم تغب عنه كعب وكلاب"[6].
ثم نصح مالك مرة ثانية، لكن مالك رفض بإصرار شديد؛ فنفسيَّة الدكتاتور لا تقبل أبدًا أيَّ رأي معارض لرأيه، ولو على سبيل الاقتراح أو المشورة. وهكذا دومًا الأنظمة الدكتاتورية ترفض الشورى، وتعتبرها طاعنة للكبرياء والكرامة، ومن ثَمَّ فهم لا يريدون الخير إلا إذا جاء منسوبًا لهم. وهذه كانت خصلة خطيرة جدًّا في مالك بن عوف، إذْ كان دكتاتورًا لا يستمع أبدًا للشورى.
أما النقطة السلبية الخامسة لمالك بن عوف -وهذه آخر نقطة نذكرها في تحليلنا هذا- فهو التلاعب بعواطف الناس بصورة هزلية تؤثر في العَوَامِّ، فهو يستغل الأزمات التي تحدث للأمة في صالحه، فماذا فعل عندما رأى توجُّهًا في الشعب لعزله؟ عندما شعر أن هناك ميلاً شعبيًّا لتخطئته في قضية صحبة النساء والأطفال والأنعام إلى أرض المعركة، وقف يخطب في شعبه كأنه ممثل كبير على مسرح درامي، يهددهم بأنه سيترك منصبه: "والله لتطيعُنَّنِي يا معشر هوازن أو لأتكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري".
الشعب مخدوع، فقد أُقنع قبل ذلك أن هذا هو الزعيم الأوحد، وأنه حبيب الملايين، وأنه صاحب الإنجازات الضخمة، وأن الحياة لا تستقيم بدونه، وكيف يعيشون من غيره!! وكأني بشعبه الساذج يخرج في مظاهرات يطلب من مالك ألاّ يتنحَّى مهما كان الثمن، ونَسِي الشعب المصائب التي فعلها مالك، وما سيفعله بعد قليل. وإزاء هذا الضغط الشعبي الجارف، اضطر مالك أن يقبل زعامة هوازن رحمةً بهم، أما الناصح الخبير دُرَيد فقد توجه بكلمة إلى الشعب، قال لهم فيها: "يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، إن هذا فاضحكم في عورتكم (يقصد النساء والذرية والأطفال)، وممكِّن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه"[7].
تأمل هذه النظرة العميقة لدريد، فالقوّاد من هذه النوعية سيتركون شعوبهم في الأزمات، ويلحقون بالأمان في حصون وقلاع، وقد يغادرون البلاد إلى غيرها، ومالك سيتركهم ويلحق بدولة أخرى حيث أصدقاؤه من الزعماء؛ فالشعب المسلوب الإرادة قد افتقد أي قدرة على الإبصار، واتبع مالكًا فيما يرى، وأحضر كل رجل من هوازن كل ما يملك، ووضعه خلف الجيش المقاتل. وخرج مالك بالجيش إلى سهل أوطاس بالقرب من حُنَيْن، وبدأ بالفعل في تنظيم الجيوش هناك، ووضع الكمائن على جانبي سهل حُنَيْن حيث سيمرُّ المسلمون.
وقد ذكرنا قبل ذلك أنه كان يتمتع بعبقرية عسكرية فريدة، وعنده قدرة على تنظيم الصفوف، والترتيب للحروب؛ فقد رتب جيشه في صفوف متوازية، ووضع الخيل في المقدمة، ثم الرَّجَّالة خلفهم، ثم وضع النساء فوق الإبل خلف الرجال؛ لكي يوهم المسلمين أن هناك أيضًا من الرجال عددًا كبيرًا فوق الجمال؛ فيتزايد العدد إلى الأضعاف، ويؤثر ذلك سلبًا في نفسية المسلمين. ثم صفَّ بعد ذلك الغنم، وأخيرًا النَّعَم.
لقد كان هذا الترتيب بالفعل ترتيبًا عسكريًّا في غاية الإتقان، حتى إن أنس بن مالك يصف جيش هوازن بقوله متعجبًا: "فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت".
لقد كان مالك بالفعل شخصية قيادية بمعنى الكلمة، له القدرة على تجميع الناس وتحميسهم، وإقناعهم بوجهة نظره، سواء عن طريق العقل أو العاطفة. كما كان له قدرة أيضًا على وضع الخطط العسكرية وتنفيذها، ولولا ما ذكرناه من سلبيات في حقه لكان مالك هذا يُحسب من القوّاد المعدودين في تاريخ الجزيرة العربية.
[1] البخاري: كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4127) ترقيم مصطفى البغا. مسلم: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه (52) ترقيم فؤاد عبد الباقي.
[2] هو القطامي التغلبي.
[3] رواه مسلم (1848) ترقيم فؤاد عبد الباقي، والنسائي (4114) ترقيم عبد الفتاح أبي غدة، وابن ماجه (3948) ترقيم فؤاد عبد الباقي، وأحمد (7931) ترقيم النسخة الميمنية.
[4] رواه أبو داود (5121) ترقيم محيي الدين عبد الحميد، وضعفه الألباني.
[5] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1993م، 5/313.
[6] المصدر السابق 5/310- 312.