غزوة بني قريظة
كيف بدأت غزوة بني قريظة؟
غزوة بني قريظةوإن كانت قصة الأحزاب قد انتهت فقصة بني قريظة لم تنته بعد، اليهود أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين وأعداء الحق وأعداء الأخلاق الحميدة وأعداء كل خير.
رجع الرسول من الخندق بعد صلاة الصبح وذهب إلى بيته بعد غياب قرابة الشهر، وبعد عناء كبير ومشقة بالغة واغتسل ، فإذا بجبريل قد جاء عند الظهر فقال له: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه. أي: نحن الملائكة لم نضعه بعد.
بل في رواية عن السيدة عائشة في الطبري تقول: فكأني برسول يمسح الغبار عن وجه جبريل. أي أن جبريل كان يقاتل قتالاً حقيقيًّا في أرض المعركة.
قال جبريل: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ.
قال النبي : "فَأَيْنَ؟"فأشار إلى بني قريظة.
وفي رواية أن جبريل قال: "فَإِنِّي سَائِرٌ أَمَامَكَ أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ".
وهكذا سار جبريل في موكبه من الملائكة، أما الرسول فقد أمر المسلمين بالتوجه السريع إلى بني قريظة، لم يمهلهم حتى يرتاحوا بعد هذا الشهر الصعب من الحرب والحصار، الراحة هناك في الجنة أما الدنيا فدار عمل، قال لهم: "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ".
وهكذا اجتمع الرسول والصحابة في ثلاثة آلاف مقاتل ( غير الملائكة) في حصار بني قريظة، واستمر الحصار خمسًا وعشرين ليلة.
هل نتصور أن يستمر الحصار كل هذه المدة، بعد جهد ومشقة كان المسلمون فيها منذ شهر بأكمله، ألا يزال بوسعهم أن يحاصروا اليهود، بل ويتحولون من محاصَرين إلى محاصِرين، لقد تغير الحال في لحظات من الهزيمة إلى النصر.
مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا *** يُبَدِّلُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلى حَـالٍ
نهاية الحصار وتحكيم سعد بن معاذ
وفي نهاية ذلك الحصار قذف الله الرعب في قلوب اليهود، فاستسلموا وخضعوا لحكم رسول الله مع أنهم كان بإمكانهم المطاولة في الحصار، فأمر رسول الله بهم أن يقيدوا، وقيدوا فعلاً، فجاءت الأوس إلى رسول الله، وكانوا محالفين لبني قريظة في الجاهلية، فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم.
فقال: "أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟"
قالوا: بلى.
قال: "فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ".
قالوا: قد رضينا.
فأرسل رسول الله في طلب سعد بن معاذ؛ لأنه كان في المدينة، لإصابته البالغة التي تعرض لها في الأحزاب، فجاء راكبًا حمارًا، فالتف حوله الأوس، وقالوا له: يا سعد، أجمل في مواليك، فأحسن فيهم؛ فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئًا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم.
فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى لهم القوم.
ولما انتهى سعد إلى النبي قال للصحابة: "قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ".
فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك.
قال: وحكمي نافذ عليهم؟
قالوا: نعم.
قال: وعلى المسلمين؟
قالوا: نعم.
قال: وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله إجلالاً له وتعظيمًا.
قال: "نَعَمْ، وَعَلَيَّ".
قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال.
فقال رسول الله : "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ".
وعلى الفور بدأ المسلمون بتنفيذ حكم سعدٍ ، فجمعوا الرجال، فقتلوهم، وهكذا قتل من اليهود أربعمائة رجل وفي رواية سبعمائة، وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به، وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله : أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب.
ثم قال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه، فقتل.
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى، وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله ، أي أن القتل كان للغادرين فقط، فمن لم يغدر معهم، لم يقتله المسلمون، فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلى سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب؟
وليس هناك مجال للقول أنه كان هناك تجاوز في العقاب الذي وقع باليهود في بني قريظة، فإن هذا ما كانوا يريدون فعله بالمؤمنين منذ أيام قليلة مع كونهم كانوا على العهد، والجزاء من جنس العمل ولا يحق المكر السيئ إلا بأهله.
وفاة سعد بن معاذ
وسبحان الله! بعد ما انتهت قصة بني قريظة استجاب الله لدعوة العبد الصالح سعد بن معاذ ، فانفجر جرحه وسالت منه الدماء حتى خرجت من خارج خيمته ليلقى ربه سعيدًا راضيًا، ويكفيه ما قاله في حقه كما جاء في البخاري، وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله قال: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ".
وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال رسول الله : "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ".
ذلك أن قيمته عظيمة جدًّا في الإسلام، وعند المسلمين، على الرغم من أن كل عمره في الإسلام لم يتجاوز الست سنوات، إلا أن إنجازه يعجز أن يفعله الكثيرون في أعمار طويلة.
الخلاصة
هذه قصة الأحزاب وبني قريظة، لقد كانت موقعة عجيبة بلا قتال تقريبًا، وكفى الله المؤمنين القتال، ولكنها كانت امتحانًا عظيمًا لم يثبت فيه إلا الصادق حقًّا، وكانت في نفس الوقت غزوة فارقة، فرقت بين مرحلتين رئيسيتين في السيرة، فما قبل الأحزاب شيء وما بعد الأحزاب شيء آخر.
فقبل الأحزاب كان الاضطراب والقلق والمشاكل الكثيرة وعدم الاستقرار، أما بعد الأحزاب فقد نضجت الدولة الإسلامية نضوجًا جعلها قادرة على الوقوف بصلابة في وجه كل أعدائها، لقد رسخت الأحزاب أقدام المسلمين في الجزيرة, ولم يجرؤ بعد ذلك أحد على تحدي هذا الكيان الصلب الجديد.
لقد كان الرسول عميقًا جدًّا في تحليله غزوة الأحزاب بعد رحيل الكفار حيث قال: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ".
لقد كانت ما بين الهجرة والأحزاب فترة تأسيس الدولة الإسلامية، أما الفترة التي ستأتي بعد الأحزاب فستكون فترة تمكين دين الله في الأرض، سنرى فيهاصلح الحديبية وفتح خيبر ومؤتة وفتح مكة وحنين وتبوك.
سنرى فيها المراسلات إلى ملوك العالم وأمرائه.
سنرى فيها انتشار دين الله في المدن والبوادي.
سنرى فيها تسابق الوفود لإعلان إسلامهم بين يدي الحبيب .
ستكون فترة سعيدة حقًّا، وكل أحداث السيرة سعيدة، وكيف لا، وهي حياة أفضل العالمين، وخير البشر، وسيد الدعاة، وإمام الأنبياء .