قتل بني قريظة
يهود بني قريظة
قبل أن نتعجل الحكم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عالج أمر بني قريظة بالعلاج الوحيد الذي لا ينفع غيره, أو حَلَّ عقدته بالسلاح الذي يناسبه.. نود أولاً أن نقف على حيثيات وظروف ذلك الحكم..
فمن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد قدومه المدينة عقد مع اليهود الموجودين بها معاهدة رائدة, تعد بمثابة أقدم دستور مُسجَّل في العالم[1], والتي كان من أهم بنودها: التزام كل من المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما وعدم اعتداء أي فريق منهما على الآخر في الداخل.
وتعهد كل من الطرفين بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي, وعلى اليهود أن يتفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين[2].
وقد حدث في العام الخامس من الهجرة أن تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة, وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وقبائل غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم, على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل[3].
غزوة بني قريظة
وكان المتوقع أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات الزاحفة على المدينة بناء على نصوص المعاهدة المبرمة بين الفريقين, لكن الذي حدث هو عكس هذا تمامًا! فلم تكتفِ بنو قريظة بمجرد السلبية, ولكن فوجئ المسلمون بهم يخونونهم في أخطر أوقات محنتهم, ولم يرعوا للعهود حرمة, في سبيل التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاء تامًّا.
وبمجرد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيانة الخطيرة أرسل وفدًا مكونًا من سعد بن معاذ سيد الأوس, وسعد بن عبادة سيد الخزرج, وعبد الله بن رواحة, وخوات بن جبير رضي الله عنهم؛ ليذكِّروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عهود, ويحذروهم مغبَّة ما هم مقدمون عليه, فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم, وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبينه!! وهكذا ركب القوم رءوسهم, وقرروا الانضمام الفعلي للغزاة, وأخذوا يمدونهم بالمال والعتاد.
وقد تدخلت عناية الله لنصرة الإيمان وأهله, وشاء الله أن يندحر ذلك التحالف الوثني اليهودي {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25].
وبعدها مباشرة جاء الوحيُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمره بأن ينهض إلى بني قريظة؛ جزاءً لمكرهم وغدرهم وخيانتهم, فسار إليها وحاصرها صلى الله عليه وسلم والمسلمون شهرًا أو خمسة وعشرين يومًا..
ولمـا طال عليهم الحصار عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركهم ليخرجوا إلى أذرعات بالشام تاركين وراءهم ما يملكون, ورفض صلى الله عليه وسلم إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط, وبالفعل استسلم يهود بني قريظة, ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوكل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ أحد رؤساء الأوس[4].
وكان سعد حليف بني قريظة في الجاهلية, وقد ارتاح اليهود لهذا الاختيار, وظنوا أن الرجل قد يحسن إليهم في حكمه, لكن سعدًا نظر إلى الموقف من جميع جوانبه, وقدَّره تقدير مَن عاش أحداثه وظروفه, وشاهد كروبه ومآزقه, وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق, فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله عز وجل التي أنقذت الموقف..
وكان هو نفسه الذي شفع لديهم بادئ ذي بدء ليرجعوا عن غدرهم وغيهم, لكن القوم مضوا في عنادهم لا يقدرون للنتائج عاقبة, ولا يراعون الله في حلف ولا ميثاق, ولذلك لما كُلِّم في شأنهم أكثر من مرة قال رضي الله عنه: "لقد آنَ لسعدٍ ألا تأخذه في الله لومة لائم"[5], ثم بعد أن أخذ المواثيق على الطرفين أن يرضى كل منهما بحكمه[6] أمر بني قريظة أن ينزلوا من حصونهم وأن يضعوا السلاح ففعلوا, ثم قال: "إني أحكم أن تُقتل مقاتلتُهم وتُسبَى ذريتُهم وأموالهم", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَكَمْتَ فيهم بحُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ"[7]!!
فقتل رجالهم, وسبي نساءهم وذراريهم, ومَن لم يُنبِتْ من أولادهم, ولاقى بنو قريظة أسوأَ مصير على أفظع خيانة..
رد على شبهة قتل بني قريظة
وهنا يحلو للبعض أن يتقوَّلوا على الإسلام وأن يتطاولوا على تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لبني قريظة, ويعتبروا أن معاملته هذه لهم تتسم بالوحشية والقسوة, وأنه كان من الممكن أن يُعاقَبوا بأي عقاب آخر كالإجلاء أو النفي..
وللبيان والتوضيح نقول: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبما كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم, ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين؟! على أن اليهود لم يُقدِموا على هذا العمل الخسيس إلا بعد أن تكوَّن لديهم ما يشبه اليقين بأنهم -بمساعدة المشركين- سوف يقومون بتدمير الكيان الإسلامي تدميرًا كاملاً, واستئصال شأفة المسلمين استئصالاً كليًّا, ولهذا لم يترددوا في الغدر بحلفائهم المسلمين وعلى تلك الصورة البشعة[8].
ولقد كانوا حريصين الحرص كله على إبادة المسلمين, حتى لقد طلبوا من الأحزاب والمشركين أن يُسلِّموا إليهم سبعين شابًّا من أبنائهم رهائن عندهم؛ ليضمنوا أن جيوش الأحزاب لن تنسحب من منطقة المدينة إلا بعد أن تفرغ من المسلمين, وتقضي عليهم قضاء تامًّا[9].
فعلى الذين يستبشعون الحكم على بني قريظة, ويصفونه بأنه كان قاسيًا شديدًا, عليهم أن يحيطوا علمًا بجوانب الموضوع, وظروف القضية؛ ليدركوا أن اليهود هم الذين جَرُّوا الوبال على أَنفسهم.
[1] محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة, ط ثالثة, سنة 1389.
[2] سيرة ابن هشام 1/ 51.
[3] ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/84, وابن هشام: السيرة النبوية 4/176.
[4] تاريخ الأمم والملوك 2/ 586.
[5] المرجع السابق 587.
[6] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 587.
[7] النسائي في سننه الكبرى (5939), وابن عبد البر: الاستيعاب 2/167.
[8] محمد أحمد باشميل: غزوة بني قريظة, ص 243.
[9] السيرة الحلبية 2/ 347.