الصحابة وغنائم غزوة بدر
الأثر السلبي على المؤمنين بسبب الغنائم
كما كان لغزوة بدر أثر سلبي على المشركين؛ نتيجة للهزيمة المنكرة لهم من المسلمين، فقد كان لغزوة بدر أيضا أثر سلبي على المؤمنين؛ وكان هذا الأمر بسبب الغنائم التي حصَّلها المسلمون بعد غزوة بدر، ويصف عبادة بن الصامت هذا الأمر فيقول: "حين اختلفنا في النَّفَلِ وساءت فيه أخلاقُنا"[1]. فهو يتحدث عن الجيش المنتصر الذي يمتلك صفات عظيمة للغاية، إلا أنه في هذه القضية ساءت فيه الأخلاق، كما قال عبادة بن الصامت .
ما قصة هذه الغنائم؟
بعد انتهاء الجولة الأولى من غزوة بدر، وبداية ظهور ملامح النصر الباهر للمسلمين، بدأ المشركون في الفرار، وبدءوا يلقون الغنائم خلفهم، فقسَّم المسلمون أنفسهم ثلاثة أقسام: قسمٌ منهم يحمي رسول الله خوفًا عليه من محاولة اغتيال أو مثل ذلك، وقسمٌ آخر يتبع الفارّين من المشركين، والقسم الثالث بدأ في تجميع الغنائم الموجودة على أرض المعركة. وبعد انتهاء المعركة اختلف الناس في توزيع هذه الغنائم، وكان حكم الله لم ينزل بعدُ في أمر الغنائم، فقال الذين جمعوا الغنائم: "نحن حويناها وليس لأحد فيها نصيب". وقال الذين خرجوا في طلب العدو: "لستم أحق بها منا، نحن نَحَّينا عنها العدو". وقال الذين أحاطوا رسول الله : "خفنا أن يصيب العدو منه غرة؛ فاشتغلنا به"[2]. وبدأ نوع من الشقاق والخلاف بين المؤمنين.
أريد أن أقول: ليس معنى أن جيشًا يمتلك كل مقومات النصر أنه بلا أخطاء، فهم بشرٌ، وكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون. حدث هذا الخلاف وأراد كل طرف أن يأخذ من الغنيمة، ما طبيعة هذه الغنيمة، إنها الدنيا!! ما من شك أن المسلمين جميعًا في المعركة كانوا يطلبون الآخرة، ومن ثَمَّ تمّ لهم النصر، ثم لما ظهرت لهم الدنيا، وهم لم يُختبروا قبل ذلك في شأن الدنيا، فقد ظلوا ثلاث عشرة سنة في مكة يذوقون فيها ألوانًا من القهر والتعذيب والبطش، والفقر والأذى المستمر، وعاشوا مدة أخرى في المدينة المنورة سنوات شاقة وعسيرة وصعبة، ثم إنهم لأول مرة يرون هذه الغنائم، وهم عندما خرجوا من المدينة المنورة كانوا في حالة فقر شديد، وكان النبي يرفع يده ويقول: "اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَطْعِمْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ"[3].
والآن وعلى أرض بدر هناك غنائم ضخمة، وهم في حاجة شديدة، وهذه ليست مبررات الخطأ، ولكنها خلفياته؛ فحدث الخلاف والشقاق.
تعامل القرآن الكريم مع المشكلة
نزل القرآن الكريم يشرح للمؤمنين كيفية تقسيم الغنائم، ولكن قبل هذا أعطى لهم درسًا في غاية الأهمية، ونزلت سورة الأنفال وفي أول السورة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1].
يستنكر ربنا I على المسلمين الذين حققوا هذا الانتصار الباهر في غزوة بدر، أن يهتموا بأمر الدنيا للدرجة التي ينشأ فيها الخلاف بينهم بسببها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
ثم يُعلمِهم الله ما هو الإيمان، بعيدًا عن الجهاد والبذل والقتال في سبيل الله، وبعيدًا عن أرض بدر وما حدث فيها من أحداث ضخمة من أحداث الإيمان، يُعرِضُ عن ذلك كله ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2- 4].
ثم يوضح الله ويبين لهم أنهم عندما خرجوا ما كانوا يريدون بدرًا، يقول : {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 5- 8].
وفي الآيات نوعٌ من الشدة على المسلمين، ونوع من اللوم؛ كيف تفكرون في أمر الدنيا وقد تحقق لكم هذا الانتصار العظيم لأنكم فكرتم في الآخرة، فلا تضيِّعوا النصر.
ونزلت هذه الآيات على المسلمين بردًا وسلامًا، وبمجرد سماعهم لهذه الآيات ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى ربهم، واجتمعت القلوب من جديد، وقبلوا أمر الله ، وهذا فارقٌ ضخم وكبير بين موقعة بدر وموقعة أُحد.
فالمسلمون في بدر لم يخرجوا عن كونهم من البشر، يخطئون كما يخطأ عامة البشر، لكن عندما ذُكِّروا بالله تذكروا؛ أما في غزوة أُحُد -كما سيتبيَّن إن شاء الله- عندما أخطأ المسلمون نفس هذا الخطأ -الغنائم والدنيا- وذُكِّروا لم يتذكَّروا، فكانت المصيبة، وهذا ما سنعرفه بالتفصيل في غزوة أُحُد.
لكن في بدر عندما ذُكِّر المسلمون قبلوا جميعًا بأمر الله ، وقسَّم النبي الغنائم على السواء، كما يقول عبادة بن الصامت ، فأعطى أربعة أخماس الغنائم للجيش وتمَّ تقسيمها بالتساوي، واحتفظ بالخمس للدولة، وكان له حق التصرف فيه، وهذا هو التشريع في أمر الغنائم الذي يجب أن يُعمل به إلى يوم القيامة، وفي هذا تفصيلات كثيرة.
وظهر هنا مرض سوف يكبر بعد ذلك في قلوب المؤمنين، وستكون له آثارٌ كبيرة على المؤمنين بعد سنة من هذا التوقيت.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص642.
[2] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص 209.
[3] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/26.