موقف الصحابة من صلح الحديبية
موقف الصحابة
صلح الحديبيةمتابعة لسير الأحداث بعد صلح الحديبية وبعد كتابته بين الرسول وسهيل بن عمرو، كان هناك موقف لا يمكن تجاهله للصحابة رضوان الله عليهم، فقد رفض جُلُّهم هذا الصلح؛ إذ لم يروا إلا سلبياته فقط، ولم يروا إلا الجزء الثاني من البند الرابع، والذي فيه إعادة المسلمين إلى الكفار مرة ثانية إذا قدموا إليهم، وكان هذا منهم، بينما كان الرسول ينظر إلى الموضوع ذاته بنظرة أكثر شمولية، نظرة تتميز بوضوح الهدف وعمق التحليل.
فلم يكن الهدف عند رسول الله استئصال قريش، ولم يكن الهدف عُمْرة عابرة في حياة المسلمين، وأيضًا لم يكن الهدف إذلال قريش بالدخول إلى مكة رغم أنفها، وكذلك ليس الهدف إيمان مكة فقط، إنما كان الهدف أعمق من ذلك بكثير.
كان الهدف هو نشر دين الله في الأرض قاطبة، حتى ولو تأخر إسلام مكة عدة سنوات، وهذا يعكس النظرة الشمولية للأمور وبُعد النظر فيها، فمع أن مكة أحب بلاد الله إلى قلب رسول الله ، إلا أنه كان ينظر نظرة شمولية للأرض، وفي الوقت ذاته نظرة واقعية للأحداث.
وهو الأمر الذي لم يكن في ذهن الصحابة في ذلك الوقت، إنما كان جُلُّ همهم أن يدخلوا مكة المكرمة هذا العام، كان جُلّ همهم ألا يُعيدوا المسلمين الذين يسلمون إلى مكة مرة ثانية، لكن الرسول كانت نظرته أوسع وأعمق من ذلك بكثير، لقد كان يرى كل الفوائد التي أسلفنا الحديث عنها في بنود هذا الصلح، ومن هنا قَبِل الأمر الذي رفضه جُلّ الصحابة.
الشورى والديمقراطية
حيال الأمر السابق بين موقف الرسول وموقف الصحابة -رضوان الله عليهم- من صلح الحديبية، يطرأ سؤال مهم ويحتاج إلى وقفة خاصة.
هذا السؤال هو: لماذا لم ينزل الرسول لرأي الصحابة عملاً بمبدأ الشورى، مع أن الأغلبية منهم لم تقبل بهذا الصلح؟! لماذا خالف الرسول جُلَّ الصحابة فيه؟ أين مبدأ الشورى في هذا الموقف؟!
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال وأمثاله، فهناك نقطة غاية في الأهمية لا بد أن نعيها جيدًا، وهي أن الشورى لا تكون إلا في الأمور التي ليس فيها وحي، أو أمر مباشر من رب العالمين، أو من رسوله الكريم .
وقد أشار الرسول قبل ذلك وفي أكثر من مرة، بأن هذا الأمر هو وحي من رب العالمين I، فالرؤيا التي رآها في المدينة المنورة -كما ذكرنا سابقًا- كانت وحيًا منه I، والناقة التي حُبِست من دخول مكة المكرمة قال عنها أنها "مَا خَلأَتْ... وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ". إذ فهم من ذلك أنه إشارة واضحة من رب العالمين I بأنه لا يريد له أن يدخل مكة المكرمة هذا العام؛ لذلك ذكر للصحابة أنه سيقبل بأي خطة تعظم حرمات الله ، وفيها منع للقتال.
ثم بعد ذلك سيذكر كلمه توضح أن كل المعاهدة كانت بوحي من رب العالمين I، سيوضح لبعض الصحابة عندما يجادلونه في هذا الأمر أهمية هذه المعاهدة من حيث إنها أمر من رب العالمين I، فقد قال: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي"[1].
وهنا يكون قد وضح تمامًا أن هناك وحيًا في أمر هذه القضية، وهناك أمر مباشر من رب العالمين I أن يقبل رسول الله هذه البنود، وهنا لا وجود البتَّة لمبدأ الشورى، وهذا فارق ضخم بين الشورى وبين الديمقراطية.
فالشورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين I، أو من رسوله الكريم ، أما في الديمقراطية فكل شيء موضع نقاش وتشاور؛ أيّ شيء موضوع لاجتماع الشعب، أيّ شيء موضوع للأغلبية حتى ولو أحلت حرامًا أو حرمت حلالاً، فهذا في عُرْف الديمقراطية مقبول، أما في عرف الإسلام فغير مقبول.
وهناك نقاط تماسّ بين الشورى والديمقراطية، حيث يرجح في كليهما رأي الشعب ورأي الأغلبية، وذلك في القضايا التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين I، أو من الرسول وهذا هو الشبه، لكن الفارق الهائل أن مرجعيتنا في الشورى إلى الإسلام وإلى كتاب الله وسُنَّة نبيه ، وهذا من أعظم الفوارق بين المنهجين الديمقراطية والشورى.
أبو جندل وصلح الحديبية
بعد أن تم كتابة صلح الحديبية حدث أمر زاد من همِّ الصحابة ، وعقّد المشكلة في أذهانهم أكثر وأكثر؛ فقد جاء بعد كتابة الصلح أحد المسلمين الذين أسلموا في مكة ولم يستطع أن يهاجر إلى المدينة المنورة، وعندما علم أن المسلمين قد جاءوا إلى الحديبية جاء إليهم، وهو يَرْسُفُ في أغلاله، فقد كان أبوه يقيده في داخل البيت حتى لا يهاجر إلى المدينة المنورة، فلما علم أن المسلمين على أبواب مكة جاء يرسف في أغلاله. وهذا الرجل هو أبو جندل ، لكن الغريب عندما تسمع اسم أبيه، فأبوه هو (سهيل بن عمرو) سفير قريش في معاهدتها مع رسول الله ، وهو الذي كتب المعاهدة بينه وبين المصطفى .
جاء هذا الرجل في هذا الموقف لينضم لصف المسلمين، وبالطبع فُجِع سهيل بن عمرو بما صدر من ابنه، كيف جاء أبو جندل مع أنه كان قد قيده قبل ذلك في البيت؟!
أصبحت الأزمة كبيرة، فهذا ابن سهيل شخصيًّا يريد أن ينضم إلى صفِّ المسلمين، وهنا انتفض سهيل بن عمرو وقال للرسول : "هذا أول ما أقاضيك عليه".
لأن المعاهدة تقول: إنه من جاء إلى رسول الله من مكة مسلمًا يرده إلى أوليائه. وهذا سهيل بن عمرو ولي أمر أبي جندل يطلب أن يرده الرسول ، فالرسول حاول قدر المستطاع أن يأخذ أبا جندل من أبيه باللين، فقال له: "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ".
فقال سهيل: "فوالله إذن لا أصالحك على شيء أبدًا".
الموقف أصبح على قدر كبير من الحساسية، والرسول كان يشعر بقيمة هذه المعاهدة، ويريد لها أن تتم قدر المستطاع، فقال : "فَأَجِزْهُ لِي".
أي أن المعاهدة قد تمت واجعله خارج المعاهدة، أجزه لي كرمًا من عندك، فقال سهيل: "ما أنا بمجيزه لك".
لن أعطيه لك، فقال يحاول أن يسترضي سهيل بن عمرو: "بَلَى، فَافْعَلْ".
فقال: "ما أنا بفاعل"[2].
وسهيل يرفض بشدة؛ لأن موقفه على قدر كبير من الحساسية، لأن عنده ثلاثة من أولاده قد أسلموا في وقت سابق، وانضموا إلى جيش المسلمين وإلى دولة المدينة المنورة، وهؤلاء قد هاجروا هجرة الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة، ثم لم يكتفِ بذلك سهيل بن عمرو بل قام وأخذ يضرب أبا جندل أمام المسلمين، والمسلمون يتأثرون ويبكون على حال أبي جندل. إنه موقف مؤثر جدًّا، وأبو جندل لم يكتفِ بهذا المشهد المؤثر جدًّا في المسلمين، بل ظل يصيح وينادي المسلمين وقال لهم: "يا معشر المسلمين، أَأُردُّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟!"[3].
ماذا يفعل الرسول في هذا الموقف، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم، ويرى ما فيها من الآثار الطيبة، وموقف أبي جندل لا شك أنه سلبية واضحة، فماذا يفعل المسلمون؟ فالمصلحة والموازنة هنا وتحكيم العقل تقول أن يُرَدَّ أبو جندل مع كل التداعيات التي تحدث لأبي جندل بعد ذلك؛ لأن ثمن إتمام صلح الحديبية هو أن يُرَدّ أبو جندل إلى المشركين مرة ثانية؛ لأن المسلمين أصبح يربطهم عهد مع المشركين، والمسلمون يتصفون بوفاء العهود ولا يغدرون بها، وقد أقر المسلمون بهذه المعاهدة، وكذلك المشركون، فلا معنى لنقض المعاهدة، لا سيما أنها في صالح المسلمين.
لكن الرسول لم يترك أبا جندل هكذا، إنما قال له كلمات وفي داخل هذه الكلمات -سبحان الله- إشارات جميلة وواضحة من رسول ، قال له : "يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ"[4].
وفي كلام الرسول أكثر من إشارة
- الرسول قد حكَّم العقل، وقال: لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننقض المصالحة الآن، وذكر قاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهي الوفاء بالعهد، حتى وإن كانت هناك تداعيات سلبية بعد ذلك؛ لأن المسلمين عند عهودهم.
- وفي الوقت نفسه أعطى طريقًا للنجاة لأبي جندل، فقال له: "اصبر واحتسب". ثم بشره أن الله سيخرجه من هذه الأزمة: "فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا". ثم إنه ذكر له أن في داخل مكة بعض المستضعفين، يعني إشارة إلى أنك إذا وحّدت جهدك مع أولئك المستضعفين سيكون ذلك هو السبب في الخروج من الأزمة، فمن الممكن أن يهاجروا إلى أيِّ مكان آخر غير المدينة المنورة؛ حتى لا يوقعوا المسلمين في حرج بعد هذه المعاهدة، ومن الممكن أن يكتموا إسلامهم، ومن الممكن أن يفعلوا أشياء كثيرة إلى أن يجعل الله لهم فرجًا ومخرجًا. وهذا وعد من رسول الله ، وهذا الوعد سوف يتحقق إذا كان أبو جندل صادق الإيمان.
والرسول يقول ويخاطب الصحابة رضوان الله عليهم عن ردِّ أبي جندل، ورد أمثال أبي جندل الذين جاءوا بعد ذلك إلى المؤمنين، قال -والحديث في صحيح مسلم-: "إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ[5]". أي: من يترك الإسلام ويرتد ويعود إلى المشركين، فهذا لا نريده، ولا حاجة لنا به. "وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا"[6]. يعني الذي جاءنا منهم ورددناه بعد ذلك إلى مكة، لا شك أن الله سوف يخرجه من هذه الأزمة، وليس من الممكن أن يسعى هو إلى الله ثم يوقعه الله في أزمة أو في ضائقة.
فهذا الأمر كان واضحًا جدًّا مع الرسول ، وكان واضحًا جدًّا في ردِّه أبا جندل. إنه يعلم أنه في يوم من الأيام سيعود ثانية، لكن الصحابة لم يروا هذه الأبعاد، فكل ما كانوا يرونه أن أحد المسلمين يحاول أن ينضم إلى جيش المسلمين وإلى دولة المسلمين، ولا يستطيع المسلمون مع قوتهم ومع دولتهم أن يأخذوه، وكان الصحابة يرون أن ذلك هو الدَّنِيَّة في الدين، وأن هذا نقص كبير في المعاهدة، لدرجة أن عمر بن الخطاب في هذا الموقف، وأبو جندل يُضرب من سهيل بن عمرو، والرسول لا يستطيع أن يأخذه معه إلى جيشه، فقام عمر بن الخطاب واقترب من أبي جندل وقرّب إليه مقبض سيفه موحيًا له أن يأخذ السيف ويضرب أباه، وقال عمر بن الخطاب مخاطبًا أبا جندل: "اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دَمُ أحدهم دم كلب". ويُدنِي قائم السيف منه كما تقول الرواية. ويقول عمر بعد ذلك تعليقًا على ذلك الأمر: "رجوتُ أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضَنَّ الرجلُ بأبيه"[7].
والحمد لله أن أبا جندل لم يأخذ السيف ولم يقتل أباه، والرسول ما كان ليقر بذلك أبدًا؛ لأن ذلك -بلا شك- قد يؤدي إلى أن تنقض قريش المعاهدة بكاملها، وقد تعترض على المصالحة، ويكون في ذلك خسارة للمسلمين.
[1] رواه البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581). وانظر: ابن كثير: السيرة النبوية 3/320.
[2] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581)، ترقيم البغا.
[3] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص299.
[4] رواه أحمد (18930) طبعة مؤسسة قرطبة، وحسنه شعيب الأرناءوط.
[5] أبعده الله: نحاه عن الخير، ولعنه.
[6] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية (1784)، ترقيم عبد الباقي.
[7] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة، بيروت، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص318، 319.