التاريخ العسكري والسياسي في الجزيرة العربية
التاريخ العسكري للجزيرة العربية قبل البعثة
عند الحديث عن التاريخ العسكري للجزيرة العربية قبل الإسلام، فإنه يتبادر إلى الذهن الفرقة والتشرذم، فلم يكن هناك ما يعرف بالجيوش العربيّة أو الجيش العربي، كانت قبائل متفرقة متشرذمة، لا يعرفون إلا حرب الإغارات والسطو، لا يعرفون الجيوش النظامية ولا يحلمون بها أصلاً، فأعدادهم قليلة وسلاحهم قديم، وخططهم بدائية.
الوضع العسكري للجزيرة العربية بعد البعثة
هذا هو الوضع العسكري للعرب، وبعد ذلك جاء الإسلام في هذه البقعة من الأرض، فإذا بالرجال البسطاء يصبحون قادة عسكريين على أعلى المستويات، فلا مجال للمقارنة بين قادة الإسلام العسكريين وغيرهم من أبناء الأمم الأخرى حتى في العصر الحديث، وإذا بالقبائل المتفرقة تكون جيشًا واحدًا مترابطًا، وإذا بالبدو الرُّحل يحاورون ويناورون ويفاوضون ويفتحون البلاد، ويدعون العباد إلى عبادة ربِّ العباد، وليس في التاريخ كله نظير للفتوحات الإسلاميّة من لَدُن آدم إلى الآن، كل هذا في غضون سنوات قلائل جدًّا.
فقد سقطت فارس الدولة الرهيبة العظيمة في غضون ثلاثة عشر عامًا بعد وفاة الرسول ، وكذلك معظم ممتلكات الدولة الرومانية في آسيا وإفريقيا في نفس الفترة.
معجزة عسكرية هائلة بكل المقاييس، من المستحيل تمامًا أن تكون من فعل البشر، وراجعوا- إن شئتم- ماذا يعني العرب وفارس والروم في هذا الوقت؟
كيف كان موقف العرب من كسرى فارس قبل الإسلام؟
كان العرب كأي دولة نامية في مواجهة دولة عظمى الآن، وكان العربي الذي يدخل على كسرى فارس في إيوانه، ويقف على بعد خمسة عشر مترًا منه، يعتبر ذلك فخرًا أَبَدَ الدهر.
لقد كان المغيرة بن شعبة يفتخر في جاهليته بأنه دخل إيوان كسرى، كما تصحب شابًّا -الآن- ليقابل رئيس دولة عظمى.
- كان الفرس يتصدقون على العرب بالقمح لكثرة المجاعات.
- عندما ذهبت الجيوش الإسلاميّة لفتح فارس، تعجب كسرى فارس من تفكير العرب في حرب فارس، ولم يشأ أن يشغل نفسه بحربهم، وأراد أن يصرفهم إلى بلادهم مرة أخرى، فعرض عليهم عرضًا مغريًا من وجهة نظره، أتدرون ما هذا العرض؟ ثوب ودرهم لكل جندي، وللقائد ثوبان ومائة درهم.
كانت هذه هي نظرتهم إلى العرب، وكانت في الحقيقة نظرة واقعية تمامًا بالنسبة لتاريخ العرب وتاريخ فارس.
فالمسلمون -بالفعل- لم يكونوا يجدون شيئًا يلبسونه في بعض الأحيان، تذكر مصعب بن عمير يوم دفن في (أُحُد)، وحذيفة بن اليمان لما ذهب ليأتي بخبر القوم في الأحزاب لبس ملابس زوجته. كيف يفتح هؤلاء البلاد الفارسية العظيمة، والبلاد الرومية الهائلة؟!
إنّ أبا سفيان الزعيم القرشي النبيل والسيد العظيم كان يقف ذليلاً أمام هرقل، وما كان -على شرفه- يستنكر هذه الذلة، فإذا كانوا يقفون أذلةً أمام ملك الحبشة (إثيوبيا) فكيف بملك الدولة الرومانية الهائلة؟!
إذا كان العرب قبل الإسلام لما كشروا عن أنيابهم في غزوة الأحزاب، جمعوا بالكاد عشرة آلاف رجل، فكيف يعقدون العزم بعد إسلامهم على الذهاب لحرب دولة فارس، وجيشها يجاوز المليونين، وبينهما فجوة هائلة في التسليح والإعداد، والحرب في عقر دار الفارسيين في بلاد ما عرفوها ولا ألفوها، وعلى بعد مئات الأميال من المدد؟!
كيف يحدث هذا؟ إنها معجزة بكل المقاييس، أين كان خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو عبيدة بن الجراح، والقعقاع بن عمرو، والمغيرة بن شعبة وغيرهم؟ أين كان هؤلاء العباقرة العسكريون قبل إسلامهم؟
أليس هذا هو خالد الذي كان متحيرًا في سبعمائة مسلم في (أُحُد) بينما كان معه ثلاثة آلاف مقاتل؟ لقد كانت المعركة سائرة في مصلحة المسلمين، وكان خالد مهزومًا لولا مخالفة الرماة لأمر الرسول بعدم ترك الجبل.
ماذا حدث؟ ما الذي جعله يدخل بلاد فارس بثمانية عشر ألفًا من الرجال على ستين ألفًا، وسبعين ألفًا، وثمانين ألفًا، ثم تسعين ألفًا، ثم مائة وعشرين ألف فارس؟!
- كيف ينتصر المسلمون باثنين وثلاثين ألف مسلم في القادسية على ربع مليون فارسيّ؟!
- كيف ينتصر المسلمون في بلاد الأندلس باثني عشر ألفًا من الرجال، وكيف يهزمون في أول معركة لهم مائة ألف إسباني؟!
ألغاز لا تفهم إلا بفهم حقيقة واحدة لا ثاني لها {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
حكمة الرسالة
إن وراء ذلك كله لحكمة .. فلو نزلت الرسالة في بلدٍ له تاريخ عسكري طويل وعظيم ومنظم لاعتقد الناس أن الفتوح كانت بسبب قوة الجيوش وإعدادها وتسليحها وخططها.
ما الإعجاز في أن تفعل ذلك الجيوش الرومانية الهائلة؟ وما الإعجاز في أن تستولي جيوش فارس على الأرض كلها؟
لكن أن تنزل الرسالة في مكة فيحدث هذا الانقلاب في العالم، وتتغير خريطة الأرض تغيرًا جذريًّا في سنوات معدودات، هذا هو الإعجاز بعينه.
والقاعدة التي تؤخذ من هنا هو أنَّ الله دائمًا ما ينصر القلَّة المؤمنة على الكثرة المشركة، نحن لا ندعو المسلمين إلى تقليل أعدادهم، وإضعاف قوتهم، بل هم مطالبون بإعداد ما استطاعوا من قوة، ولكن نقول: إنّ من سنن الله أن يجعل أهل الباطل كثرة {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. ثم هو ينصر المسلمين الثابتين على دينه والمتمسكين بشرعه، والمعدين لأقصى قوتهم، ينصرهم على الكثرة المشركة، فتظهر المعجزة، ويوقن الجميع أنّ النصر من عند الله ، وليس لسبب آخر.
ويوم تزداد القوة الإسلاميّة حتى يعتقد المسلمون فيها، ولا يعتقدون في ربهم تحدث الهزيمة كي لا يفتن الناس في قوتهم.
واذكروا غزوة حنين، واذكروا العقاب في آخر دولة الموحدين بالأندلس، واذكروا الخندق أيام عبد الرحمن الناصر رحمه الله.
وهكذا نخرج بقاعدة مهمة من هذه النقطة.. وهي أن الجيل الذي يحمل الأمانة لا بد أن يدرك أن النصر بيد الله ، وأن القلة المؤمنة تغلب الكثرة المشركة بإذن الله {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
نظام الحكم في مكة والجزيرة العربيّة
لم يكن الحكم في مكة مركزيًّا، فلم يكن لمكة حاكم معين، بل مجلس يضم عشرة نواب يمثلون عشر قبائل، فهو يشبه الحكم الديموقراطي.
وقد أفادت كثرة موازين القوى في مكة الدعوة إفادة كبيرة، فقد كان هناك بعض القوانين الوضعية في مكة، استفاد منها رسول الله دون أن يتنازل عن شيء من دينه ولا من عقيدته، ليعلمنا أنّ المسلم الذكي الواعي الفاهم يستطيع أن يستفيد من هذه القوانين طالما يحافظ على دينه، وهذا يرد على غير الفاهمين للسيرة النبوية الذين يقولون: نحن لا نتحاكم لقانون وضعي مطلقًا، وهذا الكلام على إطلاقه ليس صحيحًا، فنحن لا نتحاكم لقانون وضعي إذا تعارض مع شرع الله ، فإذا لم يكن ثَمَّ تعارض فلماذا لا نستفيد منه؟!
استفادة الرسول من القوانين الجاهلية التي لا تعارض الإسلام
وقد استفاد الرسول من هذه القوانين، انظرْ لسيرته العطرة، على سبيل المثال:
قانون الإجارة
لو كان الحكم مركزيًّا مثل فارس والروم ما تمّت هذه الإجارة، وقد استفاد الرسول من قانون الإجارة وهو قانون وضعي، فقد دخل في جوار المطعم بن عديّ المشرك ليحميه.
كما دخل أبو بكر الصديق في جوار ابن الدَّغِنَة المشرك، ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة المشرك.
قانون القبلية
وهو قانون وضعي أيضًا استفاد منه رسول الله ، حيث قام بنو هاشم بحمايته عصبيةً له، وبالذات أثناء حياة أبي طالب مع كونهم جميعًا بما فيهم أبو طالب نفسه على الشرك.
قانون الأحلاف
قبل رسول الله بفكرة الأحلاف مع المشركين إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل، ولا يتعارض مع الدين الإسلامي. روى أحمد عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَن النَّبِيِّ قَالَ: "شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ (تحالف بين بني هاشم وبني تيم وزهرة على نصرة المظلوم) مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلاَمٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ". وبعد صلح الحديبية حالف رسول الله قبيلة خزاعة، وكانت على الشرك.
إذن استفاد رسول الله من تعدد موازين القوى، ومن قوانين المجتمع الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الدين والشرع والعقيدة.
وهي حكمة ما كانت لتظهر في بلدٍ له حكم دكتاتوري كفارس والروم.