سرية نخلة وتداعياتها في الجزيرة العربية
سرية نخلة
سرية نخلة من المعارك التي كان لها تداعيات كبيرة ليس على المسلمين فحسب بل على الجزيرة العربية بكاملها؛ لذلك فهي تحتاج منا لوقفة خاصة.
خرجت سرية نخلة من المدينة المنورة في شهر رجب سنة 2 هجرية لاعتراض قافلة لقريش تمرّ بمنطقة اسمها نخلة، وهي تقع بين مكة والطائف، وكانت هناك مشكلتان تتعلقان بأمر هذه السرية، المشكلة الأولى في المكان أو الموقع، وأما المشكلة الثانية ففي الزمان أو التوقيت.
موقع سرية نخلة
خريطة لموقع سرية نخلةأما المشكلة الأولى فهي مشكلة مكان سرية نخلة، وهي أن منطقة نخلة تقع على بُعد حوالي 480 كيلو متر تقريبًا من المدينة المنوَّرة، وهي مسافة طويلة جدًّا، وخاصّةً أنها سرية صغيرة لا يتجاوز عددها اثني عشر رجلاً، فأمرها من الخطورة بمكان، لا سيما أنها قريبة جدًّا من مكة، ولو علم المشركون بأمر هذه السرية فإن قتالها والسيطرة عليها سيكون أمرًا سهلاً على جيش مكة؛ ولذلك فقد يتردد المسلمون المكلفون بهذا الأمر في قضية هذا القتال البعيد.
ومن ثَمَّ فقد اختار رسول الله طريقة فريدة لإخراج هذه السرية لم يكررها مع سرية أخرى؛ وهي أنه كتب تكليف هذه السرية في كتاب مغلق، وأعطاه لقائدها عبد الله بن جحش ، وأمره أن يسير بهذا الكتاب المغلق مدة يومين ثم يفتحه بعد ذلك، فلما فتحه عبد الله بن جحش بعد يومين وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصَّد بها عير قريش، وتَعْلَمَ لنا من أخبارهم".
ثم بعد ذلك أمره رسول الله صلى الله علي وسلم ألا يُكرِه من معه على الخروج إلى هناك، ولكن يخرج كل منهم بإرادته. فهنا قام عبد الله بن جحش ، وقال لأصحابه: "من أحبَّ الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض". فنهضوا جميعًا معه، واتجهوا إلى منطقة نخلة[1].
والذي دفع رسول الله إلى هذا المسلك الفريد في التوجيه لسرية نخلة هو صعوبة المسألة وبُعد الشُّقَّة. فلو أنه أمر الصحابة أمرًا مباشرًا في المدينة بالخروج إلى هذه المسافة البعيدة، فقد يتردد البعض في هذا التكليف الشاقّ، أما إن أتاهم التكليف بعد أن يكونوا قد قطعوا بالفعل مسيرة يومين -أي حوالي خُمْس الطريق تقريبًا- فإنهم يكونون على الاستجابة أقدر. ومع ذلك فهو لم يُرِد أن يفرض عليهم هذا الأمر الشاقّ فرضًا، ولكنه ترك لهم حرية الاختيار، فقال لعبد الله بن جحش : "ولا تُكره منهم أحدًا". وبذلك ترك لهم الأمر مع علم رسول الله بحبهم للجهاد في سبيل الله، وثقته في أنهم كلهم أو معظمهم سيذهب لإتمام المهمة، وهو ما كان بالفعل. كانت هذه مشكلة المكان.
توقيت سرية نخلة
أما مشكلة الزمان فهي أن هذا الخروج كان في شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم التي تحرم العرب الحرب فيها، ويتفق على ذلك المؤمنون والكافرون -قال كثير من الفقهاء بعد ذلك: إن ذلك الحكم قد نُسخ- ولذلك فرسول الله كان دقيقًا في توجيهاته لجنوده، فقال لهم: "فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم". ولم يأمرهم بقتال لا تصريحًا ولا تلميحًا، بل يريد فقط رصدًا لعير قريش ومعرفة أخبارهم، ولم يصرح بالمنع من القتال في الشهر الحرام؛ لأن هذا أمرٌ معلوم عند الجميع ولا يحتاج إلى توضيح، وقد ظهر ذلك في حوار الصحابة عندما رأوا قافلة قريش عند منطقة نخلة.
ثم إن الصحابة وصلوا بالفعل إلى منطقة نخلة ووجدوا بالفعل القافلة التي ذكرها لهم رسول الله ، ولكنهم وصلوا في آخر ليلة من الشهر الحرام رجب، وكانت القافلة في طريقها إلى مكة على بُعد ليلة واحدة منها، ولو تركوها حتى تأتي الليلة الأولى من شعبان فإن القافلة سَتَفْلت، وستدخل حرم مكة، وكانت القافلة بالنسبة لهم فرصة لأكثر من سبب:
فهي أولاً: ستكون الضربة الأولى لقريش؛ لأن كل الغزوات والسرايا السابقة لم تُسفِر حقيقةً عن أيِّ غنائم أو انتصارات.
ثانيًا: هذه الضربة في عمق الجزيرة العربية بعيدًا جدًّا من عقر دار المسلمين، وقريبًا جدًّا من عقر دار الكافرين، وهي تحمل جرأة لا تَخْفى على أحد، وسيكون لها أثر سلبي ضخم في المشركين.
ثالثًا: الحراسة في صحبة القافلة ضعيفة وقليلة، وليست إلا أربعة رجال فقط، بينما المسلمون عشرة.
رابعًا: المسلمون في هذه السرية من المهاجرين الذين أوذوا إيذاءً كبيرًا من قريش، بل إن قائدهم عبد الله بن جحش قد سلبت داره شخصيًّا حين استولى عليها أبو سفيان بن حرب بعد هجرة عبد الله بن جحش وباعها لنفسه.
كل هذه العوامل جعلت الفرقة الإسلامية تتحمس للانقضاض على القافلة، لكن في نفس الوقت هذه آخر ليلة في الشهر الحرام رجب، والقتال فيه ممنوع.
أيصرُّ الصحابة على القوانين التي انتهكت مئات وآلاف المرات من عدوهم، ويضيِّعون فرحة السيطرة على القافلة أم يلتزمون بالقانون ولا يقتربون من القافلة؟
أيرفع الصحابة الظلم الذي وقع عليهم منذ سنين قد جاءت فرصة قد لا تكرر بسهولة، أم يتركون هذه الفرصة الثمينة؟ أيراعي المسلمون الآن الشهر الحرام ولا يعتدون على قريش، وقد سلبت أموالهم وهتكت أعراضهم وسالت دماؤهم في مكة البلد الحرام، وفي الأشهر الحرام قبل ذلك على يد نفس القرشيين أصحاب القافلة؟
لقد كانت أسئلة محيرة في أذهان الصحابة ، فجلسوا معًا يتشاورون، وبعد الشورى أخذوا القرارات برفع الظلم الذي وقع عليهم، وأن يهجموا على القافلة في الليلة الأخيرة من شهر رجب.
بالفعل قامت الفرقة الإسلامية بالهجوم على القافلة، وقتل في هذا الهجوم أحد المشركين هو عمرو بن الحضرميّ، وأُسِر اثنان منهم هم: عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان، بينما فرَّ الرابع نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وغنم المسلمون القافلة بأكملها، وعادوا بها وبالأسيرين إلى المدينة المنورة.
وكان هذان هما أول أسيرين في الإسلام، وكان هذا هو أول قتيل في الإسلام، وكانت هذه هي أول غنائم ذات قيمة في الإسلام.
لقد كان يومًا فاصلاً في تاريخ الجزيرة العربية.
موقف قريش مما حدث
قامت الدنيا ولم تقعد في كل الجزيرة العربية، وتباينت آراء الناس حول الحدث الكبير. أما قريش -فعلى كفرهم وظلمهم- فإنهم لبسوا لباس الشرف والدين والأخلاق، وقالوا: إن المسلمين انتهكوا الحرمات، وخالفوا الأعراف، وتعدَّوا على القوانين. سبحان الله! من الذي يتكلم؟! قريش تتحدث عن الحرمات والأعراف والقوانين!!
ألم تكن مكة بلدًا حرامًا، حرم فيه قتل الحيوان وقطع النبات، فضلاً عن إيذاء الإنسان؟! ألم تكن هناك مخالفة لأعراف مكة والجزيرة عندما تخلَّى الأهل والأحباب والأصحاب عن أشرف رجالهم الذي كان يلقبونه بالصادق الأمين، فأغروا به سفهاءهم وأهانوه هو وصحبه حتى اضطُرَّ لترك الديار والأهل والعشيرة؟!
أليس من قوانين مكة والجزيرة ألا يظلموا وألا يقبلوا بظلم؟! أليست أجساد المسلمين حرمات؟! ألم تشهد مكة البلد الحرام جلدًا وإغراقًا وإحراقًا وتقتيلاً لرجال ونساء ليس لهم من جريمة إلا أنهم آمنوا بالله ؟ ألم تكن هذه الدماء حرامًا؟ أين احترام القوانين؟ وأين حفظ الحرمات؟ وأين الالتزام بالأعراف؟
لماذا أرادت قريش أن يطبَّق القانون على المسلمين في مرةٍ خالفوا فيها، بينما لم تطبق على نفسها القانون في مرات ومرات وقعت فيها المخالفة بشكل علني وصريح؟
إن هذا هو الكيل بمكيالين، دَيْدن كل الظالمين؛ لا يلجئون إلى القانون إلا إذا كان يحكم لهم، فإذا حكم لغيرهم كانوا أول المخالفين. أهذا منطق يُعْتد به؟! وإلى الآن كثير من الدول الظالمة تعيش بهذا المبدأ الفاسد؛ كل يوم تنتهك الأعراف العالمية، وتدمر القوانين الدولية، وليس هناك من يتكلم أو يعترض، فإذا خالف المسلمون مرة قامت الدنيا ولم تقعد.
تمتلك دول كثيرة في العالم السلاح النووي، فإذا فكرت دولة إسلامية في اقتنائه، أو شكُّوا في أنها ستقتنيه قامت الدنيا ولم تقعد.
أليس هذا كيلاً بمكيالين؟ أحرام على المسلمين وحلال لغيرهم؟ هذا لا يمكن أن يكون منطق الحق والعدل، إنما هذا منطق القوة، والقوة الظالمة.
وقد كان هذا منطق قريش في ذلك الوقت؛ لم تكن ثورة قريش الإعلامية لإيمانها الحقيقي بعدم جواز خرق القانون، وإنما كانت ثورتها لأنها هي المصاب الآن، ولو كان غيرها ما تكلمت، بل لعلها كانت ستُؤيِّد وتُبارك. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطَفِّفين: 1- 3].
كان هذا هو موقف قريش!!
وأما رسول الله فقد وُضِعَ في حرج شديد، ولم يكن عنده وحي بهذا الشأن، وهو لا يُقِرُّ بصفة عامة خرق القوانين والحرمات، ولم يأمر بقتال في الشهر الحرام ولم يرده، ولم يسعد به عندما حدث برغم كل الآلام التي عاناها قبل ذلك من قريش، ولكنها مسألة مبدأ.
لقد أنكر الرسول على الصحابة ما فعلوه، وقال: "مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ"[2]. ولم يكتفِ بذلك بل أوقف التصرف في القافلة والأسيرين إلى أن يأتي وحيٌ يرشده إلى القرار الأحكم في هذه القضية.
وأما الصحابة الذين قاموا بالسرية فقد أسقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد أخطئوا في الاجتهاد، وجاء إليهم بقية الصحابة ممن لم يشارك في السرية يلومونهم ويعنفونهم ويلقون على أكتافهم تبعات الحدث الخطير. لقد كان موقفًا متأزمًا حقًّا.
وبينما الجو العام في الجزيرة يسير نحو تحميل هذه الفرقة الإسلامية الخطأ في هذا الذي فعلوه، وتتفق على ذلك آراء أهل مكة والمدينة على حدٍّ سواء، مع اختلاف أيدلوجياتهم وتصوراتهم. بينما الجو العام على هذه الصورة نزل الوحي من عند رب العالمين بما فاجأ الجميع.
القرآن يضبط الموازين
لقد نزل القرآن الكريم يوضح للناس كافة -مؤمنهم ومشركهم- الحقائق كما ينبغي أن تكون، ونزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه، ونزل ليخرج المسلمين من المثالية غير الواقعية إلى فقه الواقع وفقه الموازنات وفقه الأولويات، ونزل ليفضح مكر الماكرين وكيد الكافرين، ونزل لينصر ويؤازر الطائفة المؤمنة الصادقة التي أرادت أن ترفع عن كاهلها وكاهل المسلمين بعض ما وقع عليهم من ظلم.
لقد نزلت آيات كريمات من سورة البقرة. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
لقد قال الله أنه لا معنى أبدًا لتلك الضجة المفتعلة، والتمثيلية الهزلية التي قام بها كفار قريش، فعلى الرغم من أن القتال في الشهر الحرام كان ممنوعًا في ذلك الوقت -وما زال ممنوعًا في رأي بعض الفقهاء- وبرغم أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لا ينبغي أن يسعى إليه المسلمون إلا أن ما فعلته قريش أكبر وأعظم من ذلك، والكفر بالله وعبادة الأصنام من دون الله أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومنع المسلمين من الطواف بالكعبة وأداء المناسك أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب والتشريد والقتل أكبر من القتال في الشهر الحرام، وكل ذلك فعلته قريش، ولم تفعله مرة واحدة بصورة عابرة، إنما فعلته مرارًا وتكرارًا حتى أصبح عرفًا سائدًا وقانونًا معمولاً به، وكل هذه جرائم أكبر بكثير -كما وضح ربُّنا بنفسه في الكتاب- مما فعله المسلمون وهاجت له قريش.
إنها تمثيليَّة هزلية حقيقية عندما ينادي فرعون بقتل موسى ؛ لأنه -كما يدِّعي فرعون- يُظهِر في الأرض الفساد {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
إنها دعوى هزلية حقًّا، تمامًا كتلك الدعوى التي أطلقتها قريش بأن المسلمين ينتهكون الحرمات.
لقد علَّم القرآن الكريم المسلمين وغيرهم فقه الواقع، فليس من الممكن أبدًا في واقع الحياة أن تسير كل الأمور بفقه المثاليات، ولكن قد يحدث اضطرار يؤدي إلى بعض التجاوز في بعض الأمور، ومن هنا نشأت القاعدة الفقهية المعروفة: (دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين). فمعنى القاعدة أنني من الممكن أن أقبل بضررٍ ما في سبيل دفع ضرر أكبر منه، مع أن فقه المثاليات يقضي بأنه ينبغي أن تدفع كل الأضرار وليس بعضها، لكن هذا غير واقعي، وهذا مستحيل؛ لأنه لا بد أن تحدث أضرار ما، ولكن الحكمة تأتي في المقارنة بين الأضرار واختيار الأقل.
والمسلمون وقع عليهم ضرر كبير وكبير جدًّا، وهو الفتنة عن الدين والتعذيب والقتل والمنع من دخول المسجد الحرام، فليس من الخطأ أن أقبل بضرر القتال في الشهر الحرام -وهو أقل- لأدفع به جزءًا من الضرر الأكبر.
والمسلمون لم يحرصوا على الإتيان بالضرر الأصغر هذا، بل على العكس كانوا يتمنون لو كان القتال في شعبان وليس في رجب، ولكن القافلة كانت ستفلت، وسيستمر ضرر قريش الأكبر تجاه المسلمين في الوقوع، وهو ما يتنافى مع فقه الواقع.
لذلك فإن الله لم يكتفِ برفع الإثم عن الصحابة الذين شاركوا في سرية نخلة، بل أعطاهم ثواب المجاهدين في سبيل الله، فأنزل تعالى آيات في سورة البقرة توضح هذا المعنى. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
وبيَّن الله في هذه الآيات أن نيتهم كانت لله حيث قال: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ}. وبيَّن أيضًا أنه قد غفر قتالهم في الشهر الحرام حيث عقَّب الآية بقوله: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وهكذا أيد الله موقف الصحابة المجاهدين، ووضح الرؤية لعموم المسلمين؛ فهدأت النفوس، واطمأنت القلوب.
ثم إن رسول الله تعامل مع الحدث تعاملاً سياسيًّا حكيمًا، يجمع فيه بين القوة والعزة من جانب، وبين التفاهم والتحاور من جانب آخر؛ فقد أخذ القافلة كغنيمة ورفض أن يردها إلى قريش، واعتبرها جزءًا بسيطًا من ممتلكات المسلمين المسلوبة، ثم هو في الوقت نفسه لم يتشدد في أمر الأسيرين، بل على العكس قبل فيهما الفداء بالمال، ومع ذلك فهذا القبول كان في عزة عظيمة، وظهر ذلك في موقف مهم لرسول الله في قضية هذين الأسيرين، وهو أن السرية رجعت إلى المدينة بغير رجلين من الصحابة هما: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما، كانا يبحثان عن بعير لهما فقداه في الطريق، فهنا قرر الرسول ألا يفدي الأسيرين إلا بعد عودة الصحابيين الجليلين إلى المدينة، وذلك مخافة أن يكون كفار مكة قد ألقوا القبض عليهما وقتلوهما، فلما عاد الصحابيان أذن رسول الله في الفداء.
وهكذا كان رسول الله كقائدٍ حريصًا على جنوده، وحريصًا على عدم قطع قنوات الاتصال السياسية مع أعدائه؛ فقَبِل فداء الأسرى، بل وأعطى دية المقتول لأهله؛ وذلك ليفتح باب التعامل بالمثل إذا وقع في أيدي الكفار أسيرٌ مسلم أو قُتِل في يوم ما أحد المسلمين.
وهكذا أغلقت هذه الصفحة مؤقتًا لصالح المسلمين، وإن كان هذا الموقف كشف عن بعض الأحداث الخطيرة التي من الممكن أن تشهدها الجزيرة العربية مستقبلاً، وأضحت هناك مواطن خطر بارزة في منطقتين رئيسيتين هما مكة والمدينة.
فأما مكة فبها كفار قريش، وأما المدينة فبها اليهود.
الموقف السياسي لكفار قريش
بعد هذه السرية العظيمة، وهذا الاختراق المرعب لصفوف قريش، وهذا التحدي العظيم من القوة الإسلامية الجديدة، لا شك أن قريشًا ستعيد حساباتها وسترتِّب أوراقها من جديد؛ فالمسلمون وصلوا إلى مكان لا يتوقع المشركون أن يصل المسلمون إليه أبدًا، وسيطروا في جرأة عجيبة على قافلة ثرية من قوافل قريش، ولا يستبعد منهم تكرار هذا الأمر في أي مكان بالجزيرة، بل قد يتم غزو مكة بعد ذلك.
كل ذلك -لا شك- أنه سيدفع كفار مكة إلى أخذ تدابير وقائية، وقد يفكرون في غزو المدينة المنورة، وقد فعلوا ذلك من قبل في محاولة كُرْز بن جابر الفهري، ولعل المحاولة القادمة تكون أكبر من السابقة، وقد يفكر المشركون في اصطياد القوافل الإسلامية، وقد يفكرون في الهجوم على القبائل الإسلامية حول المدينة.
كل هذه احتمالات أصبحت واردة جدًّا، وقد يحدث صدام مروع قريب بين قوة المشركين المتمثلة في قريش وحلفائها، وقوة المسلمين الناشئة في المدينة المنورة.
هذا الخطر كان قادمًا من مكة.
موقف اليهود من السرية
هناك خطر أقرب كان متوقعًا من اليهود، فاليهود لم يظهروا أيَّ تعاطف لهذا الدين الجديد، اللهم إلا بعض الأفراد المعدودين على أصابع اليد الواحدة، وحاولوا الدس له والكيد لأصحابه مرة ومرات. وازداد كيدهم جدًّا بعد سرية نخلة، وبدءوا يجاهرون بموالاتهم لقريش الكافرة، وأظهروا الرغبة الجامحة في قدوم قريش لاستئصال المسلمين، وأبرزوا التفاؤل بالأسماء التي ورد ذكرها في سرية نخلة، وأن هذه الأسماء تشير إلى اقتراب حرب فاصلة بين قريش والمسلمين؛ فقالوا مثلاً: قُتِل عمرو بن الحضرمي، إذن عمرت الحرب، وحضرت الحرب. والصحابي الذي قَتَل عمرو بن الحضرمي هو واقد بن عبد الله ، فقالوا: واقد، إذن أوقدت الحرب[3].
وهكذا اهتم اليهود بنشر الدعاية المساعدة لقريش والشامتة في المسلمين، مما ينذر بقرب صدام بين المسلمين واليهود، أو على الأقل ينذر بتعاون يهودي مع القوى القرشيَّة المشركة.
إذن هناك صدام متوقع قريب مع قريش.
وهناك أيضًا صدام متوقع قريب مع اليهود.
وكل هذه الأحداث تتم الآن في شهر شعبان سنة 2 هجرية. والمرحلة القادمة تحتاج إلى وقفة مهمة للتحليل، ووضع السيناريوهات المتوقعة، والتصرُّف فيها.
فماذا عن موقف التشريع في المرحلة القادمة؟ وما هو القانون الجديد الذي فرض على المسلمين؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية، طبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1375هـ، 1/ 602. المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص187.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 603 . المباركفوري: الرحيق المختوم ص187.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 604.