هل ما حدث يوم أحد هزيمة بالمعنى العسكري؟
الاسم الصحيح لما حدث
هزيمة أحدولا بد من وقفة مع غزوة أُحُد، وماذا نسميها؟ هل نسميها هزيمة أم نكسة؟
بالنظر إلى غزوة أُحُد من بدايتها نجد أن كلمة هزيمة لا تنطبق انطباقًا كاملاً على وصف غزوة أُحُد، فالجيش المكي لم يحتل مواقع الجيش المسلم، والجيش المسلم الأساسي لم يفر مع شدة الارتباك، ومع أن بعض المسلمين فروا من أرض المعركة إلا أن مجموعة كبيرة بقيت في أرض المعركة، منهم من قاتل حول النبي حتى النهاية، ومنهم من قاتل حتى نال الشهادة.
ولم يفكر الجيش المكي أن يطارد المسلمين مع علمه أن النبي حيٌّ من حديثهم مع عمر بن الخطاب ، ولم يصعد إلى الجبل مرة ثانية برغم قلة الصحابة الذين مع النبي ، ولم يقع أسير واحد من المسلمين في أيدي الكفار رغم ما أصاب المسلمين، والمسلمون في غزوة بدر كانوا قد أسروا سبعين من المشركين. لم تكن هناك غنائم من المسلمين في أيدي الكفار، ولم يقم الجيش المكي يومًا أو يومين أو ثلاثة كعادة الجيوش المنتصرة في ذلك الوقت، فعادة العرب أن الجيش المنتصر يقيم في أرض المعركة أيامًا؛ ليعلموا أنهم لا يهابون الجيش الآخر، فالرسول أقام في بدر ثلاثة أيام، وكان يقيم في كل الغزوات ثلاثة أيام، وأحيانًا كان يقيم شهرًا كاملاً في أرض القتال، ولم يفكر المشركون في غزو المدينة المنورة مع أن المدينة خالية من أيِّ جيش.
فكل هذه الأشياء وغيرها تنفي إطلاق لقب هزيمة على هذه الغزوة، ولكن نسمِّيها كما سماها الله في كتابه مصيبة، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]. وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166].
المصيبة الأولى
ليست المصيبة في استشهاد سبعين من الصحابة فهؤلاء من أكرم الخلق على الله ، وقد نالوا الدرجات العالية، هؤلاء اصطفاهم رب العالمين، يقول الله تعليقًا على غزوة أُحُد: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].
إن المصيبة تكمن في اضطراب بعض المفاهيم عند المسلمين، حتى ولو كان الاضطراب لحظة واحدة.
اضطرب المسلمون لحظة واحدة لما تغلغلت الدنيا في نفوسهم فانقلبت الآية؛ فبعد أن كانوا يقاتلون في سبيل الله ومن أجل الجنة، أصبح فريق منهم يقاتلون من أجل الدنيا. وقد وصل هذا التغلغل في القلب إلى درجة أن يخالفوا كلام النبي مخالفة صريحة متعمدة، وكان كلام النبي للرماة ولعبد الله بن جبير في غاية الوضوح، وأكَّد عليهم مرارًا وتكرارًا.
وأثناء القتال يلتف خالد بن الوليد حول الجيش ثلاث مرات، واستطاعت فرقة الرماة أن يصدوا خالد بن الوليد، وعرفوا خطر مكانهم وأهمية دورهم في صدِّ المشركين؛ فالرسول وجه إليهم ستة توجيهات، ووجه إليهم خالد بن الوليد ثلاثة توجيهات لما التف حول الجبل يريد اختراق جيش المسلمين؛ ليعرفوا مدى أهمية دورهم في المعركة، ووجه إليهم عبد الله بن جبير التوجيه العاشر لما نزلوا وقالوا: "الغنيمة الغنيمة". فقال لهم: "أنسيتم ما قال لكم رسول الله ؟!"[1] ومع ذلك لم يستمعوا له.
وكل ذلك يثبت أن المخالفة كانت صريحة ومتعمدة، وكل ذلك من أجل الدنيا. الرسول كان يقول لأصحابه: "فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا"[2].
وقد وصف الله ذلك في كتابه تعليقًا على أُحُد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
فكان المسلمون فريقين: فريق أراد الآخرة كأنس بن النضر، وثابت بن الدحداح، وأبي طلحة وغيرهم ممن أرادوا الآخرة، وقاتلوا حتى النهاية؛ منهم من قاتل واستشهد وثبت على شهادته، ومنهم من قاتل حول الرسول ليحميه، ما نكصوا على أعقابهم وما فروا.
وفريق قليل من الجيش تغلغلت الدنيا في قلوبهم، وثبت الباقون، ومع ذلك فمن غير المقبول أن يصل حب الدنيا بفريق من الجيش المسلم إلى درجة أن يدفعه إلى المخالفة.
وفي موقعة بدر حدثت مخالفة من أجل الدنيا، قال الله في صدر سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
لكن لما ذكرهم النبي استجاب الجميع لأوامر الله ، ووزع النبي الغنائم كما أراد الله ، وكما شرع الله .
وفي غزوة أُحُد كانت المخالفة متعمدة بعد تأكيد النبي ، فلا بد لهذه المخالفة من مصيبة، ولو كان الجيشُ جيشَ رسول الله كانت مصيبة حقيقية أن تدخل الدنيا إلى قلوب الصحابة إلى هذه الدرجة.
يقول عبد الله بن مسعود : "ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب النبي يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152].
لماذا عمت المصيبة كل الجيش ولم تعم أصحاب المخالفة فقط؟
لأن هذا المرض فيهم منذ زمن، وأمر الدنيا قد تغلغل في قلوب البعض قبل ذلك، وهذا هو دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كان من الواجب أن يفتشوا عن إيمان الآخرين وطاعة الآخرين وعبادة الآخرين والتزام الآخرين بمنهج رب العالمين I، لكن أن تسأل الإنسان عن دنياه ولا تسأله عن آخرته، فهذا أمر خطير يؤثر تدريجيًّا حتى تأتي مصيبة كبيرة فتعم المسلمين جميعًا. وهذا ما أصاب المسلمين في غزوة أُحُد، فكانت مصيبة كبيرة، مصيبة تَمَكُّن الدنيا في القلب إلى درجة أن تدفع المسلم إلى المخالفة الصريحة المتعمدة لكلام الحبيب .
المصيبة الثانية
والمصيبة الثانية في غزوة أُحُد قَتْل سبعين من المسلمين بسبب خطأ من الأخطاء؛ إن استشهاد سبعين من المسلمين هذا ليس عيبًا ولكن هو اصطفاء من الله لهم، أما أن يستشهدوا بسبب خطأ من المسلمين، فهذا غير مقبول.
إن قتلوا بعد أن قضوا ما عليهم وحاربوا كحرب بدر وقد أخذوا بكل أسباب النصر متصفين بصفات الجيش المنصور، يكون استشهادهم نعمة من الله I، أما أن يقتلوا بسبب خطأ فهذا يحتاج إلى وقفة.
المصيبة الثالثة
والمصيبة الثالثة هي قعود المسلمين عن القتال إحباطًا، فالإحباط غير مقبول في عرف المسلمين، فالإحباط من شيم الكافرين، قال تعالى في كتابه الكريم: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. وقال: {إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
هذه ليست من صفات المؤمنين، أن يقعد المسلم ويفتر ويكسل عن القتال في أرض القتال، هذا غير مقبول حتى مع إشاعة أن النبي قد قُتِل، فهذا الأمر غير مقبول.
المصيبة الرابعة
والمصيبة الرابعة والخطيرة أن المسلمين سمعوا نداء النبي : "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ". ومع ذلك أصروا على الفرار، وهذه ليست مصيبة فحسب، بل كبيرة من الكبائر وهي التولي يوم الزحف.
والخلاصة
كل هذه الكلمات تجمعها كلمة واحدة وهي مصيبة، وهذه المصيبة في الأساس جاءت من ذنب واحد، جاءت من غياب عنصر واحد من عناصر قيام الأمة المسلمة، جاءت من غياب صفة واحدة من صفات الجيش المنتصر، وهي صفة الزهد في الدنيا، وتقديم الاستشهاد على الدنيا، فلما حدث حب الدنيا ألقى الله في قلوب المسلمين الوهن والضعف.
وتذكروا حديث النبي لما سأله الصحابة عن الوَهْنِ الذي سيصيب المسلمين فينهزموا بسببه، فقال: "حب الدنيا وكراهية الموت"[3].
دخل الوهن في قلوب المسلمين إلى درجة أنهم لم يستطيعوا أن يُسقِطوا لواء المشركين وقد حملته امرأة، ولما كانوا أقوياء أسقطوا اللواء بعد أن تعاقب على حمله أكثر من عشرة رجال من بني عبد الدار الذين قُتلوا جميعًا، وما استطاع المشركون أن يحملوا اللواء مرة أخرى. ولما دخل الوهن قلوب المسلمين رفع لواء المشركين امرأة ولم يستطيعوا إسقاطه!!
فهذه موازنات لا بد من التفكير فيها، فالنصر من عند الله والتمكين بيد الله I، ولا يُنزِل الله النصر والتمكين إلا لمن أخذ بأسباب النصر كاملة، واتصف بصفات الجيش المنصور كاملة دون نقص.
ومع ذلك لم تكن هذه المصيبة شرًّا محضًا بل كان في داخلها الخير الكثير، مع كل هذه الكوارث التي حدثت في ذلك اليوم؛ فمع فَقْد سبعين من أعظم صحابة النبي ، ومع تغلغل هذه المصيبة في نفوس المسلمين وشعورهم بالخزي والذل والعار والهوان؛ لفرارهم من أرض القتال إلا أنه كان في داخلها خير كثير.
ما هذا الخير الكامن في بطن غزوة أُحُد؟ ما الطريقة التي اتبعها النبي في إخراج المسلمين من هزيمتهم النفسية؟ ما المنهج الرباني الحكيم الذي نزل ليعالج كل صغيرة من صغائر الذنوب أو كبائرها في قلوب الصحابة ؟
كيف عاد المسلمون من جديد لمطاردة المشركين؟ كيف عادت الهيبة من جديد للدولة الإسلامية بعد هذه المصيبة الكبيرة؛ مصيبة أُحُد؟
[1] المباركفوري: الرحيق المختوم ص237.
[2] رواه البخاري (2988، 6061)، ومسلم (2961)، والترمذي (2462)، وابن ماجه (3997)، وأحمد (17273).
[3] رواه أبو داود (4297)، وأحمد (22450)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (958).