العدل في الإسلام .. عدل الرسول
الشريعة الإسلامية
لا أرى أفضل -لافتتاح هذا المقال- من كلمة ذكرها مؤلف أو باحث نصراني تعمَّق في دراسة سيرة النبي ، والمبادئ التي قامت على أساسها الشريعة الإسلامية وهو الدكتور نظمي لوقا[1]، فكتب هذه الكلمات:
«ما أرى شريعة أدعى للإنصاف ولا شريعة أنفى للإجحاف والعصبية من شريعة تقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8].
فأي إنسان بعد هذا يُكْرِمُ نفسه وهو يدينها بمبدأ دون هذا المبدأ، أو يأخذها بديدن أقل منه تساميًا، واستقامة…؟!»[2].
هذه شهادة باحث نصراني، وما أكثر الشهادات التي على شاكلتها! فهذا أمر لا يُغفل في شريعتنا، ولا في سيرة نبينا .
العدل في الإسلام
العدل في القرآن
إن العدل مبدأ أساسي من مبادئ الشريعة الإسلامية، ليس فيه استثناء ولا تهاون، وهذا أمر رباني لرسولنا ولأمته من بعده.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ويقول سبحانه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
ولاحظ تكرار كلمة «الأمر» مع كلمة «العدل».. إن قضية العدل ليست قضية اختيارية أو من فضائل الأعمال، إنما هي أمر إلزامي لا تقوم الشريعة إلا به، ولا يستقيم لمؤمن أن يحكم بغيره.
العدل في السنة
وحياة الرسول كانت مثالاً واقعيًّا لقيمة العدل، وظهر ذلك في كل كلماته وأفعاله.. روى أبو هريرة t أن النبي قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»، ذكر منهم: «إِمَامٌ عَدْلٌ»[3].
وتروي أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله قال كذلك: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[4].
ويقول أيضًا فيما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ»[5].
عدل الرسول مع غير المسلمين
لقد جاءت كل هذه الأحاديث بألفاظ عامة تشمل المسلمين وغير المسلمين؛ فالظلم مرفوض بكل صوره، ومحرَّم مهما كانت الظروف، وليس الاختلاف في العقيدة، أو في العرق والنسب، أو في العلاقة والرابطة القبلية مبرِّرًا أبدًا لأي درجة من درجاته.
ومع هذا الوضوح في التعبير إلا أن رسول الله أراد أن يقطع السبيل على كل مسلم في أن يعتقد أن الظلم مسموح به -ولو بدرجة يسيرة- مع غير المسلمين، فقال في كلمات رائعة ما يجب أن نحمله إلى كل إنسان على سطح الأرض؛ ليعلم من هو رسول الله : «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَو أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6].
ولم تكن هذه الكلمات الرائعة والمعاني النبيلة مجرد قواعد نظرية لا مكان لها في حياة الناس، بل كان لها الانعكاس الواضح على كل مواقف الرسول وتصرفاته؛ فكان يُبْرِزُ هذا المعنى بجلاء في كل معاهداته وارتباطاته، ويحرص على توفير العوامل المساعدة لإتمامه على أكمل وجه..
عدل الرسول مع اليهود
ففي معاهدات الرسول مع اليهود -مثلاً- عند هجرته للمدينة أبرز هذا المعنى بصورة جليَّة في نصوص المعاهدة؛ فكان منها: «وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ»[7]. فكانت هذه القاعدة على سبيل التصريح بأن الظلم غير مقبول مطلقًا، وأن النصر للمظلوم سواء كان هذا المظلوم مسلمًا أو يهوديًّا، وهو ما أيَّده الواقع بعد ذلك.. وكانت بنود المعاهدة كلها مما ينطق بالعدل ويؤكده.
وعندما أراد رسول الله أن يرسل رجلاً إلى خيبر لتنفيذ ما اتفق عليه المسلمون واليهود بعد فتح خيبر من قَسْمِ ثمار خيبر بين الطائفتين، أرسل عبد الله بن رواحة ، وكان العدل هو سمته البارزة، حتى إن بعض اليهود لما اعترضوا على طريقة التقسيم قال كلمته المشهورة: «يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله ، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيفَ عليكم»[8].
فالظلم غير مسموح به حتى وإن كان الحكم بين رسول الله أحب الناس إلى قلب ابن رواحة ، واليهود أبغض الناس إليه.
عدل الرسول مع النصارى
ومثلما ركز الرسول على هذه المعاني في معاهدته مع اليهود، فَعَل الشيء نفسه عندما تعاهد مع النصارى، فقد قال في معاهداته مع نصارى نجران: «وَلاَ يُؤْخَذُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِظُلْمِ آخَرَ»[9].
ولضمان استمرار العلاقة بين المسلمين والنصارى على أساس العدل، قرَّر رسول الله أن يرسل مع نصارى نجران رجلاً يباشر تنفيذ ما اتفقوا عليه، على أن تكون أهم صفات هذا الرجل هي الأمانة.. وعلى الرغم من أن الأمانة صفة لازمة في كل الصحابة ن، إلا أن الرسول قد اختار من تبلغ فيه هذه الصفة حدَّ الكمال، حتى يصفه بقوله النبي : «لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ»[10].
حتى إن الصحابة ن تمنَّوا جميعًا أن يكونوا ذلك الرجل، فقال : «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ». فلما قام أبو عبيدة ، قال : «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ».
عدل الرسول مع أهل اليمن
ويبدو أمر الاهتمام بالعدل مع غير المسلمين بارزًا جدًّا في وصية رسول الله لمعاذ بن جبل وهو يُرسله إلى اليمن، وبها كثير من النصارى واليهود.. قال له:
«إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»[11].
فهذه وصية جامعة لمعاذ بن جبل ولكل المسلمين، فلا يجب أن تلهيه القوة أو السلطان عن رؤية الحق وعن نصرة المظلومين؛ إذ إنَّ دعوة المظلوم -بصرف النظر عن ديانته أو عقيدته- ليس بينها وبين الله حجاب.
هذه هي نظرة رسول الله إلى المظلوم بصفة عامة، وإن كنتَ مستغربًا لها فاسمعْ إلى كلامه في حديث آخر حين قال:
«اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»[12].
وفي رواية أخرى لأحمد –رحمه الله- قال : «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا؛ فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ»[13].
فهذا تصريح بيِّن أن المظلوم ليس بينه وبين الله حجاب، ومن هنا فإن المسلم الصادق لا يظلم أبدًا لإحساسه الدائم برقابة الله عليه، وأن المسألة مسألة عقائديَّة، وأن الله ينصر المظلوم يوم القيامة على الظالم، وإن كان المظلوم كافرًا والظالم مسلمًا، وأن رسول الله يقف مع المظلوم ضد الظالم يوم القيامة بصرف النظر عن ديانة كل منهما.
هذا هو ديننا لمن لا يعرفه، وهذه هي أخلاقنا التي نعتز بها.