العدل في الحروب النبوية
العدل من المنظور الإسلامي
لم يكن العدل في الحرب عند التعامل مع العدو إلا خُلُقًا من الأخلاق المندثرة بين البشر جميعًا، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاد لهذا الخلق الحياة مرة أخرى؛ فقد كانت الأمم الأخرى إذا انتصرت على عدوها تستبيحه، ولا تُبقِي له كرامة، بل لا تعتبره في عِدَاد البشر ذوي الحقوق، وحتى قبل الحرب كانوا يقومون بمفاجأة عدوهم دون إعلان أو إنذار، فلما جاء الإسلام شرع الدعوة قبل الحرب، كما فصَّلنا في الفصل السابق.
وقد شرع الإسلام من النظم في حال الحرب ما يتفق مع سُمُوِّه وسماحته، وسَنَّ من القوانين ما يكفل التخفيف من ويلات الحروب، ويحصرها في أضيق نطاق؛ وذلك تنفيذًا للعدل الذي أمر الله عز وجل به. فقد حذَّر القرآنُ الكريمُ المسلمين من أن يندفعوا وراء مشاعر الكراهية العمياء؛ فيظلموا أعداءهم مدفوعين بتلك المشاعر السلبية؛ فقد قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]، وقال كذلك: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وهاتان الآيتان الكريمتان تمثلان منهجًا أخلاقيًا رائعًا من الدستور الإسلامي: القرآن الكريم.
قال أبو عبيدة والفراء: معنى "لا يَجْرِمَنَّكُمْ": أي لا يُكسِبنَّكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم. وقال ابن زيد: لما صُدَّ المسلمون عن البيت عام الحديبية مَرَّ بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصدُّهم كما صَدَّنا أصحابُهُم، فنزلت هذه الآية، أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم "أَنْ صَدُّوكُمْ": أي: أصحابهم.
ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يَمنع من العدل معه، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغمِّ والحزن إليهم.
عدم الاعتداء على المدنيين
فلا يجوز أن تتعدَّى الحرب إلى المدنيين الذين لا يشتركون فيها من الشيوخ والنساء والأطفال والعجزة، أو العُبَّاد المنقطعين للعبادة، أو العلماء المنقطعين للعلم، والخَدَم الذين لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، إلا إذا قاتلوا، أو كان لهم في تدبير الحرب رأي ومكيدة؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا. والذي يرفع نسب القتلى في الحروب الحديثة ليس أعداد الجنود القتلى، ولكن -في العموم- أعداد الضحايا المدنيين الذين لا يملكون وسيلة للدفاع عن أنفسهم!
لهذا كان من عدله صلى الله عليه وسلم في الحروب أنه كان يقتصر على قتل المحاربين، ولا يقتل المدنيين الذين لا يشاركون في الحرب والقتال، وقد وصَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه- بذلك عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: «اغزوا جميعًا في سبيل الله، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالله، لَا تغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فَهَذَا عَهْد الله وَسِيرة نَبْيَه فِيكُم».
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: «اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ، تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ، وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ».
وكذلك كانت الوصية للجيش المتجه إلى معركة مؤتة؛ فقد أوصاهم صلى الله عليه وسلم قائلاً: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أو امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة».
ولا مجال هنا للحجَّة التي يذكرها البعض لتسويغ قتل المدنيين، وهي أن هؤلاء المدنيين هم الذين اختاروا حكومتهم، فإن هذا لا اعتبار له، لأننا شاهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك سلوك العدل مع المدنيين على الرغم من رضاهم بقيادتهم واختيارهم لها، وقد فصَّلنا قبل ذلك في شرح المبدأ الإسلامي العظيم: "لا يقاتل المسلم إلا من قاتله"، فليُفهمْ هذا المعنى الدقيق!
عدم تجاوز الحد في العقاب
ليس طول العداء مبررًا للظلم، وليست الجريمة مبررة للتجاوز في العقاب!
كان هذا هو مبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدلُّنا على ذلك مواقف كثيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، منها موقف عجيب مع اليهود الذين دسُّوا له السُّمَّ ليقتلوه بعد فتح خيبر! فقد قال أبو هريرة –رضي الله عنه-: لما فُتحت خيبر أُهدَيَتْ للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سُمٌّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ». فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قَالُوا: فُلَانٌ فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ»، قَالُوا: صَدَقْتَ قَالَ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا"، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْء إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟" قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟" قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ".
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيقٍ هادئ غير منفعل مع اليهود الذين دبَّروا مؤامرةَ اغتياله، وأقام عليهم الحجة حتى اعترفوا بألسنتهم بأنهم دَبَّروا محاولةَ القتل، واكتشف صلى الله عليه وسلم أن هذه المجموعة من اليهود قد أَمَرت إحدى نساء اليهود لتضع السُّمَّ بنفسها في الشاة، ثم تقدمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فالرجال هم الذين أمروا، والتي نفذت الأمر وباشرت الفعل هي المرأة..
وقبل أن تعرف ردَّ فعله صلى الله عليه وسلم لهذه المؤامرة توقفْ لحظاتٍ مع واقع غيره من الزعماء والملوك، وردود أفعالهم لمن دبَّر مؤامراتٍ لاغتيالهم!! إن أبسط ما يمكن تخيُّلُهُ في هذه اللحظات أن يُقتَل الذي باشر الفعل، والذي أمر به، والذي علم به، والذي رضي به... وقد يؤخذ عموم أهل البلدة أو المدينة بفعل هذا الرجل!
إن هذا هو واقعهم فعلاً دون مبالغة!
فماذا كان واقع رسولنا صلى الله عليه وسلم؟!
لقد قال الصحابة لرسولنا صلى الله عليه وسلم: ألا تقتلها؟! فرفض صلى الله عليه وسلم لأنها محاولةُ قتلٍ، وليست قتلاً فعلاً!! فلا يجوز قتلها! ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يعاقبها، ولا مَنْ أمرها من اليهود بأي عقابٍ؛ لأنه قَبِلَ حُجَّتَهُمْ: "لو كان كاذبًا استراحوا، ولو كان نبيًا لم يضره"!! لقد قَبِلَ صلى الله عليه وسلم حُجَّتهم مع أنَّ أحدًا منهم لم يؤمن، مما يوضح أنهم لم يفعلوا ذلك أملاً في ظهور الحقيقة، ولكن فعلوا ذلك حَسَدًا من عند أنفسهم، وبُغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومع كل ذلك لم يعاقبهم..
إلا أن أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور –رضي الله عنه- كان قد أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة فمات مقتولاً بسُمِّهَا، فهنا أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل المرأة قصاصًا، ولم يُقْتَل معها أحدٌ من أهل خيبر.. يقول القاضي عياض رحمه الله: "لم يقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً حين اطَّلع على سُمِّهَا، وقيل له: اقتُلْها، فقال: لا، فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلَّمها لأوليائه، فقَتَلوها قِصَاصًا".
تُرَى ماذا يكون تعامل قُوَّاد العالم في التاريخ والواقع مع مَنْ يدبِّرون مؤامراتٍ لقتلهم؟! وماذا سيكون ردُّ فعل هؤلاء الزعماء عند مقتل أصحابهم وأحبابهم؟!
عند القياس سيزول الالتباس!!
وعند المقارنة ستتضح المفارقة!!
إنه لا ينبغي لأحد من أهل الأرض - كائنًا من كان - أن يقارن أخلاقَ أحدٍ بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخلاقُ عمومِ البشرِ شيءٌ، وأخلاقُ النبوةِ شيءٌ آخر تمامًا.
الالتزام بالأعراف العامة
وهذا قد يستغربه الكثيرون! فنحن هنا لا نتحدث عن اتفاقية يجب الوفاء بها، وإنما نتحدث عن عُرْف عام قد يقول قائل أنا غير ملتزم به، وخاصَّة في زمان الحروب. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنه من العدل أن نلتزم بالأعراف العامة التي بَنى العدو حساباته عليها، فلا يَقبل أن تُنتهك هذه الأعراف مهما كان جرم العدو شديدًا! وهذه -والله- قمة من قمم العدل!
ومن مواقفه الرائعة التي تدلُّ على هذا المعنى ما حدث منه في أعقاب سرية نخلة.. فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر صحابيًا بقيادة عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- أن يأتوا له بأخبار أحد القوافل القرشية، والتي كانت تسير بالقرب من منطقة نخلة بين الطائف ومكة، وقال له: «إذَا نَظَرْت فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطّائِفِ، فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعَلّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ»، إنه لم يأمرهم بقتال لا تصريحًا ولا تلميحًا، بل كان يريد فقط رصدًا لعير قريش، ولعل أهم الأسباب التي دعته لعدم أمرهم بقتال أن هذا الخروج كان في شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة، وشهر رجب من الأشهر الحرم، وقد جرت أعراف الجزيرة العربية على عدم القتال في هذا الشهر الحرام، وكان القتال فيه ممنوعًا أيضًا على المسلمين، ويرى بعض العلماء أن هذا المنع ما زال ساريًا إلى زماننا، إلا أن معظم الفقهاء يرون أن هذا الأمر قد نُسِخ بعد ذلك، ولكن الشاهد في القصة أن تحريم القتال في الشهر الحرام كان أمرًا معروفًا في الجزيرة العربية بكاملها، لذلك لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالقتال مع شدة الظلم الذي كان واقعًا عليهم.
وخرجت السرية الإسلامية في الموعد المحدد، ورصدت بالفعل القافلة القرشية، ولكنها فوجئت أن الحراسة على القافلة قليلة، فهي لا تزيد عن أربعة رجال، وهذا أغرى الفرقة الإسلامية بالهجوم عليها لاسترداد بعض الحقوق المسلوبة، غير أن هذه الليلة كانت آخر ليلة في شهر رجب الحرام، ولو انتظر الصحابة دخول شهر شعبان فإن القافلة ستفلت إلى مكة، وبعد مشاورة هجمت السرية المسلمة على القافلة المشركة في آخر ليالي رجب، فقتلت واحدًا، وأسرت اثنين، بينما فر الرابع إلى مكة، وسيطر المسلمون على القافلة وأخذوها إلى المدينة.
وقد وُضِعَ الرسول صلى الله عليه وسلم في حرج شديد، ولم يكن عنده وحي بهذا الشأن، فهو لا يقر خرق القوانين والحرمات، ولم يأمر بقتال في الشهر الحرام، ولم يُرِدْه، ولم يسعد به عندما حدث برغم كل الآلام التي عاناها قبل ذلك من قريش، ولكنها مسألة مبدأ، فماذا فعل؟!
لقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة ما فعلوه، وقال: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ»، ولم يكتف بذلك بل أوقف التصرف في القافلة والأسيرين إلى أن يأتي وحي يرشده إلى القرار الأحكم في هذه القضية.
وماذا كان موقف قريش؟!
إنها -كعادة الظالمين- تألف الكيل بمكيالين!
لقد لبسوا -على كفرهم وظلمه- لباس الشرف والدين والأخلاق، وقالوا: إن المسلمين انتهكوا الحرمات، وخالفوا الأعراف، وتعدوا على القوانين..
سبحان الله! من الذي يتكلم؟!
إن قريشًا تتحدث الآن عن الحرمات والأعراف والقوانين!!
ألم تكن مكة بلدًا حرامًا حُرِّم فيه قتل الحيوان وقطع النبات فضلا عن إيذاء الإنسان؟!
ألم تكن هناك مخالفة لأعراف مكة والجزيرة عندما تخلي الأهل والأحباب والأصحاب عن أشرف رجالهم، والذي كان يلقبونه بالصادق الأمين، فأغروا به سفهاءهم وأهانوه هو وصحبه، حتى اضطر لترك الديار والأهل والعشيرة؟
أليس من قوانين مكة والجزيرة ألا يظلموا وألا يقبلوا بظلم؟
أليست أجساد المسلمين حرمات؟
ألم يشهد البلد الحرام جلدًا وإغراقًا وإحراقًا وتقتيلاً لمسلمين ليس لهم من جريمة إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل؟
ألم تكن هذه الدماء حرام؟
أين احترام القوانين؟ وأين حفظ الحرمات؟ وأين الالتزام بالأعراف؟
لماذا أرادت قريش أن يُطبَّق القانون على المسلمين في مرة خالفوا فيها بينما لم تُطبِّق على نفسها القانون ذاته في مرات ومرات تمت فيها المخالفة بشكل علني وصريح؟
إن هذا هو الكيل بمكيالين ديدن كل الظالمين.
لا يقبلون بالقانون إلا إذا كان يحكم لهم، فإذا حكم لغيرهم كانوا أول المخالفين.
أهذا منطق يُعْتد به؟
إن ثورة قريش الإعلامية لم تكن لإيمانها الحقيقي بعدم جواز خرق القانون، وإنما كانت ثورتها لأنها هي التي أُصيبت الآن، ولو كان غيرها المصاب ما تكلمت، بل لعلها كانت ستؤيد وتبارك.
ومع كل هذا الاختلال في المعايير إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل على موقفه المتحفظ في انتظار الوحي الكريم من رب العالمين.
ثم نزل الوحي!
لقد نزل القرآن الكريم يوضح للناس كافة -مؤمنهم ومشركهم- الحقائق كما ينبغي أن تكون، ونزل ليُبيِّن للناس ما اختلفوا فيه، ونزل ليخرج المسلمين من المثالية غير الواقعية إلى فقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، ونزل ليفضح مكر الماكرين وكيد الكافرين، ونزل لينصر ويؤازر الطائفة المؤمنة الصادقة التي أرادت أن ترفع عن كاهلها وكاهل المسلمين بعض ما وقع عليهم من ظلم.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
لقد قال الله عز وجل أنه لا معنى أبدًا لتلك الضجة المفتعلة، والتمثيلية الهزلية التي قام بها كفار قريش، فعلى الرغم من أن القتال في الشهر الحرام كان ممنوعًا في ذلك الوقت- وما زال ممنوعًا في رأي بعض الفقهاء- وبرغم أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لا ينبغي أن يسعى إليه المسلمون إلا أن ما فعلته قريش كان أكبر وأعظم من ذلك، والكفر بالله عز وجل وعبادة الأصنام من دون الله أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومنع المسلمين من الطواف بالكعبة وأداء المناسك أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب والتشريد والقتل أكبر من القتال في الشهر الحرام، وكل ذلك فعلته قريش، ولم تفعله مرة واحدة بصورة عابرة، إنما فعلته مرارًا وتكرارًا حتى أصبح عرفًا سائدًا وقانونًا معمولاً به، وكل هذه جرائم أكبر بكثير- كما وضح ربنا بنفسه في الكتاب- مما فعله المسلمون وهاجت له قريش.
وعلى الرغم من هذا التوضيح للرؤية، وهذه المقارنة بين مواقف قريش وموقف المسلمين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع الحدث بأخلاق الزعماء النبلاء.. فقد قَبِل فداء الأسرى، بل وأعطى دية المقتول لأهله؛ فيما يُشعِر بأنه - وإن كانت له مبررات قوية لقتال قريش - إلا أنه ما زال مقرًّا لأعراف الجزيرة وقوانينها.
لقد كانت هذه هي نظرته صلى الله عليه وسلم للأعراف العامة، والقوانين المتفق عليها، فما أعظمها من نظرة!
كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية)