رسالة الرسول إلى هرقل وموقف هرقل من الإسلام
رسالة الرسول لهرقل
رسالة الرسول لهرقلجاءت رسالة الرسول في صحيح البخاري، وهناك كثير من الناس من الممكن أن تستغرب كلام هذه الرسالة، فنحن نعلم أن هذه الرسالة هي من رئيس دولة صغيرة جديدة وهي دولة المدينة المنورة، وجيشها على أكبر تقدير ثلاثة آلاف جندي، وعمرها لا يتجاوز الثلاث سنوات وأسلحتها بسيطة، وعَلاقاتها في العالم محدودة جدًّا، ومع ذلك يُرسِل زعيمها رسالة إلى هرقل قيصر الروم، الزعيم الأعظم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية التي تسيطر على نصف أوربا الشرقي، إضافةً إلى تركيا والشام بكامله، ومصر والشمال الإفريقي، وجيوشها تقدر بالملايين بلا مبالغة، والأسلحة متطورة جدًّا، وتاريخها في الأرض أكثر من ألف سنة، لا بد أن ندرك كل هذا ونحن نقرأ كتاب الرسول إلى قيصر الروم: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ".
هكذا في منتهى الوضوح: أسلم تسلم.
"يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ[1]"[2].
ثم كتب آية من آيات رب العالمين I: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
ونحن نرى الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب. وهذا الخطاب يحتاج إلى وقت طويل حتى نحلله، وندرسه، ونستخرج منه الدروس التي في باطنه، ولكن هنا سوف نشير إلى بعض الدروس المهمة.
- فقد حرص الرسول على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب؛ أولاً: بدأ باسمه قبل اسم هرقل. وهذا الكلام كان خطيرًا في زمانهم، فقد كتب : "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم"، ثم دعاه مباشرة للدخول في الإسلام، فقال: "أسلم تسلم". في صيغة ليس فيها تردُّد.
- وأيضًا من الدروس أنه مع إظهار هذه العزة والقوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر، بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له مكانته قال: "إلى هرقل عظيم الروم". وأيضًا جمع في مهارة عجيبة بين الترهيب والترغيب يقول له: "أسلم يؤتك الله أجرك مرتين". يعني فيها نوعٌ من الترغيب، ثم يقول له مهدِّدًا بوضوح: "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيِّين". ونحن نراه يجمع بين الترغيب والترهيب، فهو في ناحية يرغِّب، وفي ناحية أخرى يرهب، وهذا الكلام في سطور قليلة للغاية.
- وأيضًا من الدروس من هذه الرسائل حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، فقد أتى بآية تقرب قلوب أهل الكتاب، وتوضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، حتى يفتح عقولهم للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جدًّا بين الطائفتين المسلمة والنصرانية.
هذا كان خطاب هرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب إلى كل زعماء العالم، الخطاب متشابه في مضمونه مع اختلاف الألفاظ على حسب البلد المرسَل إليها، واختلاف الدين الذي يدينون به. ومع وحدة الخطاب إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الردّ، في حين بلغت بعض الردود الأخرى أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبعضها بين هذا وذاك.
رد هرقل على رسالة النبي
هرقل زعيم الدولة الرومانية، وهي دولة تسيطر تقريبًا على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت. والحقيقة أن موقف هرقل من الرسالة يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ، سواءٌ في أيام رسول الله أو في الأيام التي تلت الرسول ، ويفسر لنا أحداثًا كثيرة جدًّا من الواقع الذي نعيشه؛ لأننا نعرف أن التاريخ يتكرر.
عندما تسلم هرقل رسالة الرسول أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، وهو يتسلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع عنها أحد، وهذه الدولة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونيّة، ويرونهم دائمًا أقل من أن يهتم أحدٌ بشأنهم، أو يدرس أحوالهم؛ فهؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء بعيدة كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، وهم متفرقون ومشتتون، وأحلامهم بسيطة، وأعدادهم محدودة، وأسلحتهم بدائية. الفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة، كالفارق بين السماء والأرض أو يزيد. وحينما كان يدور الصراع بين دولة فارس ودولة الروم فإن كل ما كان العرب يفعلونه هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، ويراهن بعضهم على بعضٍ فيمن سوف يكسب من الدولتين العظيمتين: فارس والروم، ولم يكن عندهم طموح لا من قريب ولا من بعيد في مشاركة القوة العالمية في الأحداث الجارية في العالم.
ومع كل ذلك عندما أرسل الرسول رسالته إلى زعيم الروم، أخذ هرقل ملك الروم الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك الرجل نبيًّا حقًّا، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط. ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيمًا نصرانيًّا متدينًا ملتزمًا إلى حد كبير بتعاليم النصرانية، وكان يعلن كثيرًا أن الله يساعده في معاركه، حتى إنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشيًا على قدميه من حمص إلى القدس؛ شكرًا لله على نصره للرومان على الفرس. ورجل مثل هرقل لا بد أنه قد قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولاً سيأتي، وأن هذا الرسول بشَّر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان هرقل ينتظر هذا الرسول، وهذا الرجل الذي أرسل له الرسالةَ يذكر له في هذه الرسالة أنه نبي آخر الزمان، وهرقل آمَنَ بالفكرة، ولعله مشتاق لرؤية ذلك النبي. وكان هرقل قبل هذه الأحداث قد سمع عن هذا النبي ، بل إن الله يسَّر له لقاءً غريبًا عجيبًا ربما يكون قبل استلام الرسالة، مما قد يكون مهَّد هرقل نفسيًّا تمامًا لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة.
حوار بين أبي سفيان وهرقل
سمع هرقل أن هناك نبيًّا ظهر في بلاد العرب، فأمر هرقل جنوده أن يأتوا ببعض العرب؛ لكي يسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم. واستطاع الجنود الإمساك ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة بفلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وهو يريد أن يستوثق من أمر الرسول ، وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش. وهذا الأمر حدث بعد صلح الحديبية مباشرة؛ فقد سافر أبو سفيان لغزة للتجارة، وأمسكه بعض الجنود، وأخذوه إلى هرقل في بيت المقدس، والتوقيت عجيب من كل النواحي، فكأن الله I أرسل أبا سفيان الذي كان كافرًا في ذلك الوقت؛ ليقيم الحجة على هرقل في هذا اللقاء العجيب.
ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، نقلاً عن أبي سفيان بعد إسلامه، أن هرقل سأل التجار أيكم أقرب نسبًا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: "أنا أقربهم نسبًا إليه".
فقال هرقل: "أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره". أي جعل أبا سفيان واقفًا ووراءه مجموعة من أصحابه، ثم قال لترجمانه: "قل لهم: إني سائلٌ هذا الرجل -يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه".
هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فسأل أقرب الناس إليه نسبًا؛ ليكون على معرفة تامة به، وفي الوقت نفسه جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكّام على صدقه. وتحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه، أبو سفيان سوف يخاف أن يكذب، ومَن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا. ولكن أقول لكم: إن عامل الكذب هذا لم يكن واردًا في القصة، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول، حتى إن أبا سفيان كان يقول تعليقًا على كلمة هرقل هذه: "فوالله لولا الحياء من أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه، ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته".
فهو في هذه اللحظة -سبحان الله- مع أنه يكره الرسول كراهية شديدة، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد ، لا يحب أن يشوّه صورته بالكذب، لدرجة أنه في رواية كان يقول: "ولكني كنت امرأً أتكرَّم عن الكذب".
وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور عِلية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان. وفي هذا الاستجواب سوف نرى أن هرقل سيسأله أسئلة يحاول بها أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب؟ وهذه الأسئلة عبارة عن استنباطات عقلية، وهذه الأسئلة بناء على معلومات عن الأنبياء بصفة عامة، وعن هذا النبي بصفة خاصة كما جاء في التوراة والإنجيل. وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت وأبي سفيان زعيم قريش، نحن نحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ، وهو عجيب من أكثر من وجه؛ لاهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب، أو من حيث ذكاء الأسئلة ودقتها، أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك -آنذاك- الذي كان يكره محمدًا كراهية شديدة، أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه، أو من حيث ردّ فعل هرقل بعدما سمع كلمات أبي سفيان. إنه حوار عجيب بكل المقاييس، وقد بدأ الحوار بسؤال:
كيف نسبه فيكم؟
قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.
قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قَطُّ قبله؟
قال أبو سفيان: لا، لم يدَّعِ أحدٌ في تاريخ العرب النبوة.
فقال هرقل: هل كان من آبائه من مَلِك؟
فقال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟
قال أبو سفيان: بل يزيدون.
قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سَخْطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قال أبو سفيان: لا، لا يرتد منهم أحد.
قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فهل يغدر؟
قال أبو سفيان: لا. ثم قال: ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها[3].
هذا كلام أبي سفيان، فهو أراد أن يقول أي شيء سلبي على الرسول ، فكل الإجابات ترفعُ من شأن الرسول ، يقول أبو سفيان: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة.
أي حاولتُ قدر ما أستطيع أن أطعن في الرسول بأي شيء، فلم أستطع إلا بهذه الكلمة، وهرقل لم يعلِّق على هذه الكلمة، وكأنه لم يسمعها.
ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟
قال أبو سفيان: نعم.
فقال هرقل: فكيف كان قتالكم إياه؟
قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال[4].
قال هرقل: بماذا يأمركم؟
قال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
انتهى الاستجواب الطويل من هرقل، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها، وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج. وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل، قال هرقل: "سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها".
وسوف يبدأ هرقل يأخذ كل كلمة، وكل نقطة يثبت بها لأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله.
ثم قال: سألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلتُ: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يَأْتَسِي بقول قيلَ قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من مَلِك، قلتُ: رجلٌ يطلب مُلك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فَقَدْ عَرَفْتُ أنه لم يكن ليذَرَ الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فهذه هي تحليلات هرقل حتى خرج إلينا في نهاية الأمر بنتيجة خطيرة فعلاً، يقول بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين[5]، وقد كنت أعلمُ أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم[6]، فلو أني أعلم أني أخلصُ إليه لتجشَّمْتُ لقاءَهُ، ولو كنت عنده لغسلتُ عن قَدَمِهِ[7].
إنها كلمات خطيرة وعجيبة من زعيم الإمبراطورية الرومانية، فقد أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقًّا، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام، وأنه يجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل الرضوخ لقوله تمامًا، والتواضع الشديد لدرجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله . ودعا هرقل بكتاب الرسول والمرسَل مع دِحْية بن خليفة الكلبي ، وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان، ونحن لا نعلم إن كانت هذه أول مرة يقرأ هرقل الرسالة، أم قرأها قبل ذلك، وقد يكون هرقل قرأ رسالة النبي قبل ذلك، ثم أراد أن يَعْرف أكثر عن هذا النبي، فبحث عمن يَعْرفه جيدًا؛ ليسأله عنه وعن سيرته وأخلاقه كما رأينا. ولعله أراد أيضًا أن يُعَرِّف أساقفة الرومان وقادتها بهذا النبي الذي يريد أن يؤمن به هو شخصيًّا، وقد رأينا أسئلته لأبي سفيان وتحليلاته الشخصية لأجوبة أبي سفيان عنها، تلك التحليلات التي تنطق بأن هذا الرجل هو النبي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
المهم أنه قرأ الكتاب أمام أبي سفيان وأمام العرب وأمام الرومان الموجودين، وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة، وفيها دعوة صريحة لدخول الإسلام. وبعد انتهاء القراءة من الرسالة سمع أصواتًا عالية، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات في كل مكان، وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي؛ لأن زعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين الموجودين رفضوا تمامًا هذه الدعوة الكريمة من رسول الله . ولما حدث ذلك أمر هرقل بأبي سفيان ومن معه من تجار أن يخرجوا من القاعة، ورأى أبو سفيان رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى ، ولم يؤمن برسالته بعدُ، وهو يرى الرسول وهو يكتب الرسائل إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت، فقد ترك هذا الموقف أثرًا نفسيًّا هائلاً عند أبي سفيان، حتى إنه ضرب يدًا بالأخرى، وقال: "لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة". أي عَظُم أمر ابن أبي كبشة، يقصد الرسول ، ثم قال: "إنه ليخافُهُ مَلِكُ بني الأصفر"[8].
هرقل زعيم الرومان، لدرجة أن هذا الحدث سيحفر تمامًا في ذهن أبي سفيان، وسيكون له أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان، وسوف نرى أبا سفيان يُسلِم بعد ذلك في فتح مكة.
هرقل يعترف بالإسلام ولكنه يفضل الملك
لقد كان هرقل على استعدادٍ لاتباع الرسول ، ولكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة في داخل البلاط الملكي ترفض تمامًا فكرة الإسلام. وأدرك هرقل أنه لكي يعلن رغبته في اتباع الرسول عليه أن يغامر بملكه، وأن يخاطر بسيادته على شعبه؛ فالأمراء من الممكن أن يخلعوه من ملكه، وفي رواية أنه قال لدحية بن خليفة الكلبي: "والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته".
وفي رواية ثانية ذكرها ابن كثير -رحمه الله- أن هرقل استدعى الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، وكان كل الناس في الرومان يطيعون أمر هذا الأسقف الكبير، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب قال: "هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر".
قال قيصر: فما تأمرني؟
فقال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.
فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم[9].
وهذا الأسقف كان اسمه ضغاطر وخرج للرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله وإلى الإيمان برسوله الكريم ، وأعلن الشهادة أمام الجميع. إنه موقف شجاع من هذا العالم، ولقي ربه شهيدًا؛ حيث قام الناس وقفزوا عليه قفزة واحدة، فضربوه حتى قتلوه. وكان هذا الأسقف أعظم شخصية في الدولة الرومانية، حتى إنه كان أعلى من هرقل عند الناس، وعرف هرقل بقتل هذا الرجل الكبير، ولم يستطع أن يفعل أي شيء؛ وفي هذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسيّ الذي يجلس عليه.
وعقد هرقل مقارنة سريعة بين المُلك وبين الإيمان، أي بين الحياة ممكَّنًا وبين الموت شهيدًا، فأخذ القرار، واختار الملك والحياة ورفض الإيمان، ولم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول ، ولكنه ضنَّ بملكه وضحَّى بالإيمان. إن أمر الإيمان واضح، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في النفس يضحي الإنسان، يقول الله : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]. ويقول تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108].
وما فعله هرقل لا يمكن أبدًا أن يعذر فيه، مهما كانت الفتنة التي سوف يتعرض لها بعد ذلك، ومهما كان راغبًا في المُلك، راهبًا من الموت؛ يقول الإمام النووي -رحمه الله- تعليقًا على موقف هرقل: "لا عذر له في هذا؛ لأنه قد عرف صدق النبي ، وإنما شحَّ في الملك، ورغب في الرياسة، فآثرها على الإسلام... ولو أراد الله هدايته لوفَّقه كما وفَّق النجاشي، وما زالت عنه الرياسة"[10].
والحافظ ابن حجر رحمه الله يقول أيضًا تعليقًا على هذا الحديث: "لَكِنْ لو تفطَّن هرقل لقوله في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسَلِمَ -لو أسلم- من كل ما يخافه، ولكنَّ التوفيقَ بيدِ الله تعالى"[11].
وبعد كل هذا اليقين اكتفى بأن يحمِّل دحية الكلبي ببعض الهدايا لرسول الله ، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه يعرف أنه في يوم من الأيام سيتحول كل الملك الذي يحكمه إلى رسول الله ، وكان يوقن في الكتب التي قرأها قبل ذلك في التوراة والإنجيل، ومن حواره مع أبي سفيان أن رسول الله سيملك موضع قدميه في الشام. وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال -بعد أن أشرف على الشام وصعد فوق رَبْوَةٍ عالية وأطلَّ على الشام بكاملها-: السلام عليك يا أرض سورية، تسليم الوداع[12].
وبعد كل هذه القناعة برسول الله ، وبكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حدِّ عدم الإيمان ولم يقبل بالحياد، ولكنه سيَّر الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين مع إحساسه الداخلي أنه سيغلب، وأنه لن ينتصر على المسلمين، ولكن هذا الإحساس لم يمنعه من اتباع الشياطين، ومحاولة مقاومة الإسلام بداية من مؤتة ومرورًا بتبوك، ومعارك متتالية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وتركيا وغيرها، ومع فشله في كل هذه المعارك ومع تناقص الأرض من حوله ومع ظهور صدق الرسول يومًا بعد يوم، إلا أن هرقل لم يؤمن، ويبدو أن فتنة الكرسيّ لا تعدلها فتنة.
كان هذا هو موقف الدولة الرومانية، اعتذار مهذب، ثم حرب ضروس. وهذا الموقف نراه كثيرًا في التاريخ؛ فكثير من زعماء وأمراء ورجال دين في العالم يعرفون صدق الإسلام، ويعرفون نبوَّة الرسول ، ولكنهم يرفضون هذه النبوة حفاظًا على كراسيهم، وشحًّا بملكهم، فهم قد يحاولون في بعض الأحيان إقامة العلاقات الدبلوماسية اللطيفة، وتبادل الهدايا مع المسلمين، ولكن حتمًا سيأتي يوم تقف فيه الهدايا، ويبدأ فيه الصراع، وبدلاً من كلمات التحية والتودد ستكون هناك كلمات التهديد والإنذار، وبدلاً من الرسائل والسفراء ستكون القذائف والجيوش، يقول الله في كتابه الكريم: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
[1] "إثم الأريسيين": إثم استمرارهم على الباطل والكفر اتباعًا لك. والمراد بالأريسيين: الأتباع من أهل مملكته، وهي في الأصل جمع أريسي وهو الحرّاث والفلاح.
[2] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7)، ترقيم مصطفى البغا.
[3] أي أننا لا ندري هل يغدر بصلح الحديبية أم لا.
[4] أي ينال منا وننال منه، يقصد بدرًا وأُحُدًا.
[5] أي الشام.
[6] فهو يستكثر أن يكون من العرب.
[7] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7).
[8] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة آل عمران (4278). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773).
[9] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/505.
[10] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، 12/107.
[11] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، 1/37.
[12] ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ، 4/305.