{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ}. قيل: هو الميثاق الذي في قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172]، قاله مجاهد وغيره. ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الصادق به، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به.
وقيل: هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة، والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسدي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال: {إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] فبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه، وكان أول من بايعه البراء بن معرور، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشد لعقد أمره، وهو القائل: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. الخبر المشهور في سيرة ابن إسحاق. ويأتي ذكر بيعة الرضوان في موضعها. وقد اتصل هذا بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فوفوا بما قالوا، جزاهم الله تعالى عن نبيهم وعن الإسلام خيرا، ورضي الله عنهم وأرضاهم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في مخالفته أنه عالم بكل شي.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ} الآية تقدم معناها في النساء. والمعنى: أتمم عليكم نعمتي فكونوا قوامين لله، أي لأجل ثواب الله، فقوموا بحقه، وأشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم، وحيف على أعدائكم. {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق.
وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه، لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه. ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم، وإليه أشار عبد الله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة، هذا معنى الآية. وتقدم في صدر هذه السورة معنى قوله: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}. وقرئ {ولا يجرمنكم} قال الكسائي: هما لغتان.
وقال الزجاج: معنى: {لا يجرمنكم} لا يدخلنكم في الجرم، كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. ومعنى: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} أي لان تتقوا الله.
وقيل: لان تتقوا النار. ومعنى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي قال الله في حق المؤمنين: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق، كما قال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. وإذا قال الله تعالى: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} و{أَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11] و{أَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] فمن ذا الذي يقدر قدره؟. ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وهو في موضع نصب، لأنه وقع موقع الموعود به، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد، كما قال الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء *** وجنات وعينا سلسبيلا
وموضع الجملة نصب، ولذلك عطف عليها بالنصب.
وقيل: هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا، على تقدير لهم مغفرة واجر عظيم فيما وعدهم به. وهذا المعنى عن الحسن. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في بني النضير.
وقيل: في جميع الكفار.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} قال جماعة: نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: من يعصمك مني يا محمد؟ كما تقدم في النساء.
وفي البخاري: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعاقبه. وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات.
وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث ابن الحارث بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة وقد ضم بعضهم الغين، والأول أصح.
وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم. وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير. وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة. والله أعلم.
وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعينهم في دية فهموا بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله فمنعه الله منهم. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق. {أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي بالسوء {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} أي منعهم.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قال ابن عطية: هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوى أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ومنه قيل في عمر رضي الله عنه: إنه كان لنقابا. فالنقباء الضمان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم، يقال: نقب عليهم، وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة. والنقب والنقب الطريق في الجبل. وإنما قيل: نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم.
وقال قوم: النقباء الأمناء على قومهم، وهذا كله قريب بعضه من بعض. والنقيب أكبر مكانة من العريف. قال عطاء بن يسار: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة، ذكره الدارمي في مسنده. قال قتادة- رحمه الله- وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله، ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة، بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان. فاختار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم النقباء اقتداء بموسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم، فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوه عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة- على ما يأتي- وظنوا أنهم لا قبل لهم بها، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم، ففشا الخبر حتى أعوج أمر بني إسرائيل فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} [المائدة: 24].
الثانية: ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية، فتركب عليه الأحكام، ويرتبط به الحلال والحرام، وقد جاء أيضا مثله في الإسلام، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهوازن: «ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم». أخرجه البخاري.
الثالثة: وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس. والتجسس: التبحث. وقد بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبسة عينا، أخرجه مسلم. وسيأتي حكم الجاسوس في الممتحنة إن شاء الله تعالى. وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في المحبر فقال: من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم ابن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل ابن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذكوال ابن موخى، فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم، قاله الماوردي. وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك.
قوله تعالى: {وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} الآية. قال الربيع بن أنس: قال ذلك للنقباء.
وقال غيره: قال ذلك لجميع بني إسرائيل. وكسرت إن لأنها مبتدأة. {مَعَكُمْ} منصوب لأنه ظرف، أي بالنصر والعون. ثم ابتدأ فقال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} إلى أن قال: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} أي إن فعلتم ذلك {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ}. واللام في: {لَئِنْ} لام توكيد ومعناها القسم، وكذا {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ}، {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ}.
وقيل: المعنى لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم، وتضمن شرطا آخر لقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ} أي إن فعلتم ذلك لأكفرن.
وقيل: قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} جزاء لقوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} وشرط لقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ} والتعزير: التعظيم والتوقير، وأنشد أبو عبيدة:
وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزر في الندي
أي يعظم ويوقر. والتعزير: الضرب دون الحد، والرد، تقول: عزرت فلانا إذا أدبته ورددته عن القبيح. فقوله: {عَزَّرْتُمُوهُمْ} أي رددتم عنهم أعداءهم. {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} يعني الصدقات، ولم يقل إقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً}، {فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وقد تقدم. ثم قيل: {حَسَناً} أي طيبة بها نفوسكم.
وقيل: يبتغون بها وجه الله.
وقيل: حلالا.
وقيل: {قَرْضاً} اسم لا مصدر. {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ} أي بعد الميثاق. {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} أي أخطأ قصد الطريق. والله أعلم.
{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}
قوله تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} أي فبنقضهم ميثاقهم، {فَبِما} زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم، وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد، كما قال:
لشيء ما يسود من يسود ***
فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. {لَعَنَّاهُمْ} قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية.
وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم واللعن الابعاد والطرد من الرحمة. {وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله، والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرأ الكسائي وحمزة: {قسية} بتشديد الياء من غير ألف، وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه.
وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة، فمعنى: {قسية} على هذا ليست بخالصة الايمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن، لأنه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي مخفف السين مشدد الياء مثال شقي أي زائف، ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد:
لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف
يصف وقع المساحي في الحجارة.
وقال الأصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد، لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا، لأن ما قلت نقرته يقسو ويصلب. وقرأ الأعمش: {قسية} بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية، من قسى يقسي لا من قسا يقسو. وقرأ الباقون على وزن فاعلة، وهو اختيار أبي عبيد، وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابيه عن الايمان والتوفيق لطاعتي، لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الايمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز:
قد قسوت وقست لداتي ***
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام.
وقيل: معناه يبدلون حروفه. و{يُحَرِّفُونَ} في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين.
وقرأ السلمي والنخعي {الكلام} بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآية الرجم. {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، وبيان نعته. {وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ} أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف {عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ} والخائنة الخيانة، قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة.
وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع {خائِنَةٍ} للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة، فخائنة على هذا للمبالغة، يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة. قال الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة مغل الإصبع
قال ابن عباس: {عَلى خائِنَةٍ} أي معصية.
وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في: {خائِنَةٍ مِنْهُمْ}. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر أنه منسوخ بآية السيف.
وقيل: بقوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً} [الأنفال: 58].
{وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ} أي في التوحيد والايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ هو مكتوب في الإنجيل. {فَنَسُوا حَظًّا} وهو الايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أي لم يعملوا بما أمروا به وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنى: {أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ} هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه، قاله الأخفش. ورتبة {الَّذِينَ} أن تكون بعد {أَخَذْنا} وقبل الميثاق، فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا. وتقديره عند الكوفيين: ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه، فالهاء والميم تعودان على {من} المحذوفة، وعلى القول الأول تعودان على {الَّذِينَ}. ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألينها لبست من الثياب، لئلا يتقدم مضمر على ظاهر.
وفي قولهم: {إِنَّا نَصارى} ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها، روي معناه عن الحسن.
قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} أي هيجنا.
وقيل: ألصقنا بهم، مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه. يقال: غري بالشيء يغرى غرا بفتح الغين مقصورا وغراء بكسر الغين ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به.
وحكى الرماني: الإغراء تسليط بعضهم على بعض.
وقيل: الإغراء التحريش، وأصله اللصوق، يقال: غريت بالرجل غرا- مقصور وممدود مفتوح الأول- إذ لصقت به.
وقال كثير:
إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا *** غراء ومدتها حوافل نهل
وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء الذي يغري به للصوقه، فالاغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه. وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد. {بَيْنَهُمُ} ظرف للعداوة. {وَالْبَغْضاءَ} البغض. أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما. عن السدي وقتادة: بعضهم لبعض عدو.
وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة، قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور، وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية، أي كفر بعضهم بعضا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى: {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار. وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ} تهديد لهم، أي سيلقون جزاء نقض الميثاق.
قوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ} الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب، فجميعهم مخاطبون. {قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا} محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ} أي من كتبكم، من الايمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها. {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه.
وقيل: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله عليه وسلم ولم يبين، وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول: لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه. {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} أي ضياء، قيل: الإسلام.
وقيل: محمد عليه السلام، عن الزجاج. {وَكِتابٌ مُبِينٌ} أي القرآن، فإنه يبين الأحكام، وقد تقدم. {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ} أي ما رضيه الله. {سُبُلَ السَّلامِ} طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة، وهي الجنة.
وقال الحسن والسدي: السَّلامِ الله عز وجل، فالمعنى دين الله- وهو الإسلام- كما قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران: 19]. {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات. {بِإِذْنِهِ} أي بتوفيقه وإرادته.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} تقدم في آخر النساء بيانه والقول فيه. وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به، لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي من أمر الله. و{يَمْلِكُ} بمعنى يقدر، من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه. أي فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها، فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية. وقال: {وَما بَيْنَهُما} ولم يقل وما بينهن، لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي:
طرقا فتلك هماهمي أقريهما *** قلصا لواقح كالقسي وحولا
فقال: طرقا ثم قال: فتلك هماهمي. {يَخْلُقُ ما يَشاءُ} عيسى من أم بلا أب آية لعباده.
{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
قوله تعالى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قال ابن عباس: خوف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوما من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت الآية. قال ابن إسحاق: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟، نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} إلى آخر الآية. قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده، فأنزل الله عز وجل: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. السدي: زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد. قال غيره: والنصارى قالت نحن أبناء الله، لأن في الإنجيل حكاية عن عيسى* أذهب إلى أبي وأبيكم*.
وقيل: المعنى: نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف. وبالجملة. فإنهم رأوا لأنفسهم فضلا، فرد عليهم قولهم فقال: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين، إما أن يقولوا هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحباءه، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه، فذلك دليل على كذبكم- وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف- أو يقولوا: لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم.
وقيل: معنى: {يُعَذِّبُكُمْ} عذبكم، فهو بمعنى المضي، أي فلم مسخكم قردة وخنازير؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم؟ لان الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه. ثم قال: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل. {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ} أي لمن تاب من اليهود. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} من مات عليها. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فلا شريك له يعارضه. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي يئول أمر العباد إليه في الآخرة.
{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
قوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {يُبَيِّنُ لَكُمْ} انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول. {عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي سكون، يقال فتر الشيء سكن.
وقيل: {عَلى فَتْرَةٍ} على انقطاع ما بين النبيين، عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني، قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه. ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان من السخونة إلى البرد. وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر. وفتور البدن كفتور الماء. والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما. والمعنى، أي مضت للرسل مدة قبله. واختلف في قدر مدة تلك الفترة، فذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} [يس: 14] والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين. وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة. وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء، واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان. قال القشيري: ومثل هذا مما لم لا يعلم إلا بخبر صدق.
وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، وقاله مقاتل والضحاك ووهب ابن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة. وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين. والله أعلم. {أَنْ تَقُولُوا} أي لئلا أو كراهية أن تقولوا، فهو في موضع نصب. {ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ} أي مبشر. {وَلا نَذِيرٍ} أي منذر. ويجوز {مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} على الموضع. قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود، يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أن محمدا رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته، فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير، فنزلت الآية. {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} على إرسال من شاء من خلقه.
وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه.