{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)}
شرح الصدر: فتحه، أي ألم نفتح صدرك للإسلام.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ألم نلين لك قلبك.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أينشرح الصدر؟ قال: «نعم وينفسح. قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت، قبل نزول الموت». وقد مضى هذا المعنى في الزمر عند قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}. وروي عن الحسن قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قال: ملئ حكما وعلما.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة- رجل من قومه- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة فأتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» قال قتادة قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: «فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة».
وفي الحديث قصة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «جاءني ملكان في صورة طائر، معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح الآخر بمنقاره فيه فغسله».
وفي حديث آخر قال: «جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة، وقال: قلبك وكيع، وعيناك بصيرتان، وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول الله، لسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قثم، وأنت قيم». قال أهل اللغة: قوله وكيع أي يحفظ ما يوضع فيه. يقال: سقاء وكيع، أي قوي يحفظ ما يوضع فيه. واستوكعت معدته، أي قويت وقوله: قثم أي جامع. يقال: رجل قثوم للخير، أي جامع له. ومعنى أَلَمْ نَشْرَحْ قد شرحنا، الدليل، على ذلك قوله في النسق عليه: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ} فهذا عطف على التأويل، لا على التنزيل، لأنه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك. فدل هذا على أن معنى أَلَمْ نَشْرَحْ: قد شرحنا. ولَمْ جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ} [التين: 8]. ومعناه: الله أحكم الحاكمين. وكذا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. ومثله قول جرير يمدح عبد الملك ابن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح
المعنى: أنتم كذا.
{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)}
قوله تعالى: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك ذنبك. وقرأ أنس {وحللنا} {وحططنا}. وقرأ ابن مسعود: {وحللنا عنك وقرك}. هذه الآية مثل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. قيل: الجميع كان قبل النبوة. والوزر: الذنب، أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية، لأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنما ولا وثنا. قال قتادة والحسن والضحاك: كانت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذنوب أثقلته، فغفرها الله له الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي أثقله حتى سمع نقيضه، أي صوته. واهل اللغة يقولون: أنقض، الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل، أي صريرة. قال جميل:
وحتى تداعت بالنقيض حباله *** وهمت بواني زوره أن تحطما
بواني زوره: أي أصول صدره. فالوزر: الحمل الثقيل. قال المحاسبي: يعني ثقل الوزر لو لم يعف الله عنه. {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله وأوهنه. قال: وإنما وصفت ذنوب الأنبياء بهذا الثقل، مع كونها مغفورة لشدة اهتمامهم بها وندمهم منها وتحسرهم عليها.
وقال السدي: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي وحططنا عنك ثقلك. وهي في قراءة عبد الله بن مسعود {وحططنا عنك وقرك}.
وقيل: أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية. قال الحسين ابن المفضل: يعني الخطأ والسهو.
وقيل: ذنوب أمتك، أضافها إليه لاشتغال قلبه بها.
وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها، حتى لا تثقل عليك.
وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاءه جبريل واراه نفسه، وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل.
وقيل: عصمناك عن احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس.
{وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}
قال مجاهد: يعني بالتأذين. وفية يقول حسان بن ثابت:
أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الاله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى: وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد الله جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شي، ولم يشهد أن محمدا رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافرا.
وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات.
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)}
أي إن مع الضيقة والشدة يسرا، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام، كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل، قال الله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 4- 3]. ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا، لا. وذلك للإطناب والمبالغة، قاله الفراء. ومنه قول الشاعر:
هممت بنفسي بعض الهموم *** فأولى لنفسي أولى لها
وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر، قاله ثعلب.
وقال ابن عباس: يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه السورة: أنه قال: «لن يغلب عسر يسرين».
وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنهما: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 189].
وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول، لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقلا مخفا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالا، فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره، فعزاه الله، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر، فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا، أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا، وإن كان خاصا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء الله تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفية تأسية وتعزية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال مبتدئا: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه، أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر: «لن يغلب عسر يسرين» يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شي. أو يقال: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ وهو إخراج أهل مكة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة يُسْراً، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف.
{فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (
}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَإِذا فَرَغْتَ} قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك فَانْصَبْ أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك.
وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.
وقال الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فَانْصَبْ أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
وقال الحسن وقتادة أيضا: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد: فَإِذا فَرَغْتَ من دنياك، فَانْصَبْ في صلاتك. ونحوه عن الحسن.
وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. قال ابن العربي: ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية {فانصب} بكسر الصاد، والهمز من أوله، وقالوا: معناه: انصب الامام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض: الجهال {فانصب} بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجد في الرجوع إلى بلدك.. وهذا باطل أيضا قراءة، لمخالفة الإجماع، لكن معناه صحيح، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته، فليعجل الرجوع إلى أهله». وأشد الناس عذابا وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحا، فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا، فيكون كاذبا على الله، كاذبا على رسوله، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا. قال المهدوي: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ {ألم نشرح لك صدرك} بفتح الحاء، وهو بعيد، وقد يؤول على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفا في الوقف، ثم حمل الوصل على الوقف، ثم حذف الالف. وأنشد عليه:
اضرب عنك الهموم طارقها *** ضربك بالسوط قونس الفرس
أراد: اضربن.
وروى عن أبي السمال {فإذا فرغت} بكسر الراء، وهي لغة فيه. وقرى فرغب أي فرغب الناس إلى ما عنده.
الثانية: قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد، فقال ما بهذا أمر الشارع. وفية نظر، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر. ودخل أبو بكر في بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد». وليس يلزم الدءوب على العمل، بل هو مكراة للخلق.