{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)}
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} قيل: إن لا صلة، وجاز وقوعها في أول السورة، لان القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد، ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى، كقوله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]. وجوابه في سورة أخرى: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2]. ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة، ومثله قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة *** فكاد صميم القلب لا يتقطع
وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى لا أُقْسِمُ: أقسم. واختلفوا في تفسير: لا قال بعضهم: لا زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة {لا} كما قال في آية أخرى: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]. يعني أن تسجد، وقال بعضهم: لا: رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الامر كما زعمتم. قلت: وهذا قول الفراء، قال الفراء: وكثير من النحويين يقولون لا صلة، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة، لان هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الأقسام بالرد عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ وذلك كقولهم لا والله لا أفعل ف {لا} رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري *** لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال *** لتحزنني فلا بك ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ {لأقسم} بغير ألف، كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب، لان العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز بِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ولم يقسم بالنفس. وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى: بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه.
وقيل: إنها ذات اللوم.
وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها، فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح، وعلى هذا يجئ القسم بها سائغا حسنا.
وفي بعض التفسير: إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة.
وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة- عن ابن عباس أيضا- فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما، إذ ليس للعاصي خطر يقسم به، فهي كثيرة اللوم.
وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله.
وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها، فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته. قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ} فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم.
وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن، ودل عليه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ} للاحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به، أو يجمع الله العظام؟! ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والأخنس بن شريق».
وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها، لان العظام قالب الخلق. بَلى وقف حسن ثم تبتدئ قادِرِينَ. قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، ف- قادِرِينَ حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير.
وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء: قادِرِينَ نصب على الخروج من نَجْمَعَ أي نقدر ونقوي قادِرِينَ على أكثر من ذلك.
وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي بَلى فليحسبنا قادرين.
وقيل: المضمر {كنا} أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع بلى قادرون بتأويل نحن قادرون. {عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة، قال النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه *** عنم يكاد من اللطافة يعقد
وقال عنترة:
وأن الموت طوع يدي إذا ما *** وصلت بنانها بالهندواني
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك. قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام، فقال الله تعالى: {بلى قادرين على أن} نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى {عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك.
وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى: {وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61- 60]. قلت: والتأويل الأول أشبه بمساق الآية. والله أعلم. قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ} قال ابن عباس: يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقاله عبد الرحمن بن زيد، ودليله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره: أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله، فقال الاعرابي:
أقسم بالله أبو حفص عمر *** ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر ***
يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا: يعجل المعصية ويسوف التوبة.
وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب، فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله.
وقال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت.
وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الأقوال للإنسان.
وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. {يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ} أي متى يوم القيامة.
{فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)}
قوله تعالى: {فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ} قرأ نافع وأبان عن عاصم {برق} بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدة شخوصه، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت.
وقال الحسن:
هذا يوم القيامة.
وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ والباقون بالكسر بَرِقَ ومعناه: تحير فلم يطرف، قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت *** لعينيه مي سافرا كاد يبرق
الفراء والخليل: بَرِقَ بالكسر: فزع وبهت وتحير. والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت: قد برق فهو برق، وأنشد الفراء:
فنفسك قانع ولا تنعني *** وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك.
وقيل: برق يبرق بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الكلابي:
لما أتاني ابن عمير راغبا *** أعطيته عيسا صهابا فبرق
أي فتح عينيه.
وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى. قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي ذهب ضوءه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوءه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب، ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج: {وخسف القمر} بضم الخاء وكسر السين يدل عليه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ.
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه، قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: ولم يقل جمعت، لان المعنى جمع بينهما.
وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر.
وقال الكسائي: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث غير حقيقي.
وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة الأنعام.
وفي قراءة عبد الله وجمع بين الشمس والقمر وقال عطاء ابن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى.
وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم، لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم.
وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدة الحر، فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم.
وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار. قوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}؟ أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل، أي أين المهرب؟ قال الشاعر:
أين المف والكباش تنتطح *** وأى كبش حاد عنها يفتضح
الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما أَيْنَ الْمَفَرُّ من الله استحياء منه.
الثاني أَيْنَ الْمَفَرُّ من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما- أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه.
الثاني- أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة الْمَفَرُّ بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، لأنه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم، قال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي: من فتح الميم والفاء من الْمَفَرُّ فهو مصدر بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار، فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك. قلت: ومنه قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا ***
يريد أنه حسن الكر والفرجيده. {كَلَّا} أي لا مفر ف {كَلَّا} رد وهو من قول الله تعالى، ثم فسر هذا الرد فقال: {لا وَزَرَ} أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول: لا حصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وابن عباس يقول: لا ملجأ. وابن جبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما، قال الشاعر:
لعمري ما للفتى من وزر *** من الموت يدركه والكبر
قال السدي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ مني، قال طرفة:
ولقد تعلم بكر أننا *** فاضلو الرأي وفي الروع وزر
أي ملجأ للخائف. ويروى: وقر. {إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}
أي المنتهى قاله قتادة. نظيره: {وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى}.
وقال ابن مسعود إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى، إذ هو الحاكم بينهم.
وقيل: إن كَلَّا من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه: كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. قوله تعالى: {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ} أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ: أي بما أسلف من عمل سيئ أو صالح، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود.
وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي.
وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد: بِما قَدَّمَ من أمواله لنفسه وَأَخَّرَ: خلف للورثة.
وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، وأخر من فرض. قال القشيري: وهذا الانباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت. قلت: والأول أظهر، لما خرجه ابن ماجه في سننه من حديث الزهري، حدثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» فقوله: «بعد موته وهو في قبره» نص على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وقوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم.
وفي الصحيح: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها واجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شي، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
{بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)}
قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}
قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.
وقال ابن عباس: بَصِيرَةٌ أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة *** بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم *** من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]. وجاء تأنيث البصيرة لان المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان، فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة، قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: بَصِيرَةٌ هي التي يسميها أهل الاعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر، يدل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك.
وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون {بَصِيرَةٍ} نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة وقال الحسن في قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ}
أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار، قاله الضحاك وقال الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة *** علينا وأطت فوقها بالمعاذر
قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار، أي وإن أرخى ستره، يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه.
وقيل: أي ولو أعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب عذره، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] وقوله: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر، قال الشاعر:
وإياك والامر الذي إن توسعت *** موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه *** وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب.
وقال ابن عباس: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي. قلت: والأظهر أنه الأدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب، ومنه قول النابغة:
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت *** فإن صاحبها مشارك النكد
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقوله تعالى في المنافقين: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18].
وفي الصحيح أنه يقول: «يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع» الحديث. وقد تقدم في حم السجدة وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة، ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري، قال الشاعر:
إني حددت ولا عذري لمحدود ***
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة، قال النابغة:
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت *** فإن صاحبها قد تاه في البلد
وتضمنت هذه الآية خمس مسائل:
الأولى: قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ}: فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه، لأنها بشهادة منه عليها، قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] ولا خلاف فيه، لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه، لان العاقل لا يكذب على نفسه، وهي المسألة: وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة: 102] وهو في الآثار كثير، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها». فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الامر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.
الثالثة: لا يصح الإقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه، لان الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الأولى: أن يقول له عندي شي، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية: أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة: أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء، لان الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل.
وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف، فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة: إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجئ من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه. الصورة الخامسة: أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم، فقال الشافعي: يقبل في الحبة.
وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة.
وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والديه وأقله عندي نصاب السرقة، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لان الله تعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح، لأنه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41]، وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ} [النساء: 114]، وقال: {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 68]. الصورة السادسة: إذا قال له: عندي عشرة أو مائة أو ألف، فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا، كقوله: مائة وخمسون درهما، لان الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة.