{لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)}
قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ} يعني، من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة {آية} على التوحيد، واختار أبو عبيد {آياتٌ} على الجمع، قال: لأنها خير كثير. قال النحاس: و{آية} هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بمكة فقالوا: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي؟- ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا- فأنزل الله عز وجل سورة {يوسف} جملة واحدة، فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. {آياتٌ} موعظة، وقيل: عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف {عبرة}.
وقيل: بصيرة.
وقيل: عجب، تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه، وقال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه! فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} وأسماؤهم: روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت خال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر، دان ونفتالى وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي: وام يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب.
وقيل: في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبناهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده، لقول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]. وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد، والحمد لله. قوله تعالى: {إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ} {لَيُوسُفُ} رفع بالابتداء، واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم، أي والله ليوسف. {وَأَخُوهُ} عطف عليه. {أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا} خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي جماعة، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر.
وقيل: ما بين الأربعين إلى العشرة، ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط. {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا، بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه.
وقيل: لفي خطأ بين بإيثاره يوسف واخاه علينا. قوله تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} في الكلام حذف، أي قال قائل منهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} ليكون أحسم لمادة الأمر. {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض، وأنشد سيبويه فيما حذف منه {في}:
لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال النحاس: إلا أنه في الآية حسن كثير، لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل: هو شمعون، قال وهب بن منبه.
وقال كعب الأحبار، دان.
وقال مقاتل: روبيل، والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه، فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض. {يَخْلُ} جزم لأنه جواب الأمر، معناه: يخلص ويصفو. {لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فيقبل عليكم بكليته. {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد الذنب، وقيل: من بعد يوسف. {قَوْماً صالِحِينَ} أي تائبين، أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم، وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم.
وقيل: {صالِحِينَ} أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل.
{قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)}
فيه ثلاث عشر مسألة: الأولى: قوله تعالى: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ} القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب، قاله ابن عباس.
وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} [يوسف: 80] الآية.
وقيل: شمعون. {وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ} قرأ أهل مكة واهل البصرة واهل الكوفة {فِي غَيابَتِ الْجُبِّ}. وقرأ أهل المدينة {في غيابات الجب} واختار أبو عبيد التوحيد، لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمح لهذا. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة، {وغيابات} على الجمع يجوز من وجهين: حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات، يريد عشية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا، فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة. والآخر- أن يكون في الجب غيابات جماعة. ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا، كما قال الشاعر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث *** أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا
قال الهروي: والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين.
وقال ابن عزيز: كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غيابة، قال الشاعر:
فإن أنا يوما غيبتني غيابتي *** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر، قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة *** ورقيت أسباب السماء بسلم
وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا، وجمع الجب جببة وجباب وأجباب، وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل:
هو بئر بيت المقدس، وقيل: هو بالأردن، قال وهب بن منبه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.
الثانية: قوله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة: {تلتقطه} بالتاء، وهذا محمول على المعنى، لأن بعض السيارة سيارة، وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته *** كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال آخر:
أرى مر السنين أخذن مني *** كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل شرق ولا أخذت. والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر، وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود، فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد، وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم.
الثالثة: وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولا ولا آخرا، لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا.
وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم، وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه.
وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله، وهذا أشبه، والله أعلم.
الرابعة: قال ابن وهب قال مالك: طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا، والدليل عليه قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}
قال: ولا يلتقط إلا الصغير، وقوله: {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] وذلك أمر يختص بالصغار، وقولهم: {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [يوسف: 12].
الخامسة: الالتقاط تناول الشيء من الطريق، ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة، قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي يجده من غير أن يحتسبه. وقد اختلف العلماء في اللقيط، فقيل: أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك، وهو قول عمر بن الخطاب، وكذلك روي عن علي وجماعة.
وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الحسبة فهو حر.
وقال مالك في موطئة: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، هم يرثونه ويعقلون عنه، وبه قال الشافعي، واحتج بقوله عليه السلام: «وإنما الولاء لمن أعتق» قال: فنفى الولاء عن غير المعتق. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا، ولا يرثه أحد بالولاء.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين: اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه، وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء، ما لم يعقل عنه الذي والاه، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: المنبوذ حر، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه، ونحوه عن عطاء، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة، وهو حر. قال ابن العربي: إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، فقضى بالغالب، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب، فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم: يحكم بالأغلب، فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام.
وقال غيره: لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، وهو مقتضى قول أشهب، قال أشهب: هو مسلم أبدا، لأني أجعله مسلما على كل حال، كما أجعله حرا على كل حال. واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد، فقالت طائفة من أهل المدينة: لا يقبل قولها في ذلك، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر: هو حر، ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد.
وقال ابن القاسم: تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي.
السادسة: قال مالك في اللقيط: إذا أنفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة.
وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم.
وقال الأوزاعي: كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق.
وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان: أحدهما- يستقرض له في ذمته. والثاني- يقسط على المسلمين من غير عوض.
السابعة: وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما، فقالت طائفة من أهل العلم: اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام- أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة غير الحيوان- وقال هذا غلط، واحتج بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الإفك للمسلمين: «إن أمكم ضلت قلادتها» فأطلق ذلك على القلادة.
الثامنة: أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع، ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها.
التاسعة: واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها، فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة واخذ الضالة ما لم تكن إبلا.
وقال في الشاة: «لك أو لأخيك أو للذئب» يحضه على أخذها، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه. ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم. وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة، إن شاء أخذها وإن شاء تركها، هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله.
وقال المزني عن الشافعي: لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها، قال: وسواء قليل اللقطة وكثيرها.
العاشرة: روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب» قال: فضالة الإبل؟ قال: «ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها».
وفي حديث أبي قال: «احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها» ففي هذا الحديث زيادة العدد، خرجه مسلم وغيره. وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها، فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له، قال ابن القاسم: يجبر على دفعها، فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا؟ قولان: الأول لأشهب، والثاني لابن القاسم، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له، وهو بخلاف نص الحديث، ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى، فإنه يستحقها بالبينة على كل حال، ولما جاز سكوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم.
الحادية عشرة: نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم؟ قولان، وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط، وقول ابن القاسم أصح، لقوله عليه السلام: «احفظ على أخيك المؤمن ضالته».
الثانية عشرة: واختلف العلماء في النفقة على الضوال، فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم: إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره، قال: وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن.
وقال الشافعي: إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع، حكاه عنه الربيع.
وقال المزني عنه: إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا.
وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة.
الثالثة عشرة: ليس في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اللقطة بعد التعريف: «فاستمتع بها» أو«فشأنك بها» أو«فهي لك» أو«فاستنفقها» أو«ثم كلها» أو«فهو مال الله يؤتيه من يشاء» على ما في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على التمليك، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها، فان في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه» في رواية: «ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه» خرجه البخاري ومسلم. وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف، لتلك الظواهر، ولا التفات لقوله، لمخالفة الناس، ولقوله عليه السلام: «فأدها إليه».
{قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)}
قوله تعالى: {قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ} قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب! ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب: {يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ} وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفية دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي. قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري {لا تَأْمَنَّا} بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس، لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا. وقرأ طلحة بن مصرف {لا تأمننا} بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين- وروي عن الأعمش- {ولا تيمنا} بكسر التاء، وهي لغة تميم، يقولون: أنت تضرب، وقد تقدم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه. {وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ} أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم: {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً} الآية، فحينئذ قال أبوهم: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13] فقالوا حينئذ جوابا لقول: {ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ} الآية. {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً} إلى الصحراء. {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} {غَداً} ظرف، والأصل عند سيبويه غدو، وقد نطق به على الأصل، قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة. {نرتع ونلعب} بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة. والمعروف من قراءة أهل مكة. {نرتع} بالنون وكسر العين. وقراءة أهل الكوفة. {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء وإسكان العين. وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين، القراءة الأولى من قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا، والمعنى: نتسع في الخصب، وكل مخصب راتع، قال:
فارعي فزارة لا هناك المرتع ***
وقال آخر:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار
وقال آخر:
أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي الراتعة لكثرة المرعى.
وروى معمر عن قتادة {ترتع} تسعى، قال النحاس: أخذه من قوله: {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ} لأن المعنى: نستبق في العدو إلى غاية بعينها، وكذا {يَرْتَعْ} بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و{يرتع} بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويترجل، فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره.
وقال القتبي {نرتع} نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا، من قولك: رعاك الله، أي حفظك. {ونلعب} من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا {ونلعب} وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء.
وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم {ونلعب}. ومنه قوله عليه السلام: «فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك».
وقرأ مجاهد وقتادة: {يَرْتَعْ} على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول، {ويلعب} بالرفع على الاستئناف، والمعنى: هو ممن يلعب. {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به.
{قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)}
قوله تعالى: {قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} في موضع رفع، أي ذهابكم به. أخبر عن حزنه لغيبته. {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه، قاله الكلبي.
وقيل: إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكان يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام، فكانت العشرة إخوته، لما تمالئوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام.
وقيل: إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب، فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم، قال ابن عباس: فسماهم ذئابا.
وقيل: ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب، لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى. والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه، كذا قال أحمد بن يحيى، قال: والذئب مهموز لأنه يجئ من كل وجه.
وروى ورش عن نافع {الذيب} بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء. {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ} أي مشغلون بالرعي. قوله تعالى: {قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه. {إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ} أي في حفظنا أغنامنا، أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا.
وقيل: {لَخاسِرُونَ} لجاهلون بحقه.
وقيل: لعاجزون.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ} {أَنْ} في موضع نصب، أي على أن يجعلوه في غيابة الجب. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل! إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه، فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع، فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف، فاستغاث بروبيل وقال: أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا، فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي! ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب، فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده، فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال: يا إخوتاه! إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا، فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد، فأجمع رأيهم على ذلك، فهو قول الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ} وجواب {فَلَمَّا} محذوف، أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم.
وقيل: جواب {فَلَمَّا} قولهم: {قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17].
وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين، وأما على قول الكوفيين فالجواب. {أَوْحَيْنا} والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} [الزمر: 73] أي فتحت وقوله: {حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] أي فار. قال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ***
أي انتحى، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ} [الصافات: 103- 104] أي ناديناه. وفى قوله: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} دليل على نبوته في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة: أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء.
وقال الكلبي: ألقى في الجب وهو ابن ثماني عشرة سنة، فما كان صغيرا، ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه.
وقيل: كان وحى إلهام كقوله: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}.
وقيل: كان مناما، والأول أظهر- والله أعلم- وأن جبريل جاءه بالوحي. قوله تعالى: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} فيه وجهان: أحدهما- أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا، فعلى هذا يكون الوحى بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشير له بالسلامة.
الثاني- أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به، فعلى هذا يكون الوحى قبل إلقائه في الجب إنذار له. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنك يوسف، وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه.
وقيل: بوحي الله تعالى بالنبوة، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: {الهاء} ليعقوب، أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب- ما ذكره السدي وغيره- أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه! ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك، فقال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها.
وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي، قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام، فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام، فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه، وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذه وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه، فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي، فقال له جبريل: يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان، ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملإ، يا حي يا قيوم! أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير، فقالت الملائكة: إلهنا! نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي.
وقال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملإ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك، فرددها يوسف في ليلته مرارا، فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب.
{وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً} أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال، وإنما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار، فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شي؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: اين قميصه؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
وقال السدي وابن حبان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق، فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين! ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل، فقال: يا روبيل! ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهدا؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك، فكف يعقوب بكاءه فقال: يا أبت {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}.
الثانية: قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا، فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى، كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبين من بكى ممن تباكى