{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} روى البيهقي من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون».
وروى النسائي عن عبد الله بن السائب قال: حضرت رسول الله صلى يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنون، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سلعة فركع. خرجه مسلم بمعناه.
وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أنزل عليه الوحى سمع عند وجهه كدوي النحل، وأنزل عليه يوما فمكثنا عنده ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا وأرضنا وأرض عنا» ثم قال: «أنزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى ختم عشر آيات، صححه ابن العربي.
وقال النحاس: معنى {من أقامهن} من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن، كما تقول: فلان يقوم بعمله. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن. وقرأ طلحة بن مصرف: {قد أفلح المؤمنون} بضم الالف على الفعل المجهول، أي أبقوا في الثواب والخير. وقد مضى في أول البقرة من الفلاح لغة ومعنى، والحمد لله وحده.
الثانية: قوله تعالى: {خاشِعُونَ} روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}. فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر حيث يسجد.
وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}، فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم. وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلى إلى حيث ينظر في البقرة عند قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [البقرة: 144]. وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} [البقرة: 45]. والخشوع محله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه، إذ هو ملكها، حسبما بيناه أول البقرة. وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا.
وقال عطاء: هو ألا يعبث بشيء من جسده في الصلاة. وأبصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه».
وقال أبو ذر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى». رواه الترمذي.
وقال الشاعر:
ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع *** لان بها الآراب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا *** وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقنه رحمة *** وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته *** نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وروى أبو عمران الجوني قال: قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: أتقرءون سورة المؤمنين؟ قيل نعم. قالت: اقرءوا، فقرئ عليها: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}- حتى بلغ- {يُحافِظُونَ}.
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوى عنقه خلف ظهره.
وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أصلى قريبا منه- يعني من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلى وإذا التفت نحوه أعرض عني... الحديث، ولم يأمره بإعادة.
الثالثة: اختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين. والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول عمل يرفع من الناس، قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبى الدرداء، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة. قال أبو عيسى: ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان. قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضى الأندلس، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. واختلف فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبد الرحمن بن مهدى أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج به مسلم في صحيحه. وتقدم في البقرة معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة. وقال الضحاك: إن اللغو هنا الشرك.
وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال هو: الشرك، وقول من قال هو الغناء، كما روى مالك بن أنس عن محمد ابن المنكدر، على ما يأتي في لقمان بيانه. ومعنى {فاعِلُونَ} أي مؤدون، وهى فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب. قال أمية بن أبى الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز *** مه والفاعلون للزكوات
الرابعة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} قال ابن العربي: من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات، بدليل قوله: {إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ}. وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الادلة. قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء، لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور.
وروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما. قال أبو عمر: ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار، لان تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق وإنما هو فسخ للنكاح، وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه.
الخامسة: قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} إلى قوله: {العادُونَ}. وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفية يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به *** فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المنى. وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة، أصله الفصد والحجامة. وعامة العلماء على تحريمه.
وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهى معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الامة، قلنا: نكاح الامة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير.
السادسة: قوله تعالى: {إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ} قال الفراء: أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون. {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} في موضع خفض معطوفة على {أَزْواجِهِمْ 240} و{ما} مصدرية. وهذا يقتضى تحريم الزنى، وما قلناه من الاستنماء، ونكاح المتعة، لان المتمتع بها لا تجرى مجرى الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة. ابن العربي: إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية. وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الامة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية. قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح، أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد؟ قولان لأصحابنا. وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال، فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن خيبر، ثم حللها في غزاة الفتح، ثم حرمها بعد، قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره، وإليه أشار ابن العربي. وقد مضى في النساء القول فيها مستوفى.
السابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} فسمى من نكح ما لا يحل عاديا، وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ} [الشعراء: 166] وكما تقدم في الأعراف، فوجب أن يقام الحد عليهم، وهذا ظاهر لا غبار عليه.
قلت: فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} خص به الرجال دون النساء، فقد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله: لا رجم عليها. فقال عمر: لا جرم! والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها، وام العبد ألا يقربها. وعن أبى بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضي فقالت: إنى استسررته فمنعني بنو عمى عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فإنه عني بنى عمى، فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت نعم، قال أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها. و{وَراءَ 10} بمعنى سوى، وهو مفعول ب {ابْتَغى} أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له.
وقال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك، فمفعول الابتغاء محذوف، و{وَراءَ 10} ظرف. و{ذلِكَ} يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا. {فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} أي المجاوزون الحد، من عدا أي جاوز الحد وجازة.
الثامنة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ والذين هم على صلواتهم يحافظون} قرأ الجمهور: {لِأَماناتِهِمْ} بالجمع. وابن كثير بالإفراد. والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد.
التاسعة: قرأ الجمهور: {صَلَواتِهِمْ} وحمزة والكسائي {صلاتهم} بالإفراد، وهذا الافراد اسم جنس فهو في معنى الجميع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها. وقد تقدم في البقرة مستوفى. ثم قال: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} 10 أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون، أي يرثون منازل أهل النار من الجنة.
وفي الخبر عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار في منازلهم في النار». خرجه ابن ماجه بمعناه. عن أبى هريرة أيضا قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ 10}». إسناده صحيح. ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين. والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. خرجه الترمذي من حديث الربيع بنت النضر أم حارثة، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم: «فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة». قال أبو حاتم محمد بن حبان: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإنه أوسط الجنة» يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد في الارتفاع. وهذا كله يصحح قول أبى هريرة: إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة. واللفظة فيما قال مجاهد: رومية عربت.
وقيل: هي فارسية عربت.
وقيل: حبشية، وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات.
وقال الضحاك: هو عربي وهو الكرم، والعرب تقول للكروم فراديس. {هُمْ فِيها خالِدُونَ} فأنث على معنى الجنة.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام، قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في قوله: {ثُمَّ جَعَلْناهُ} عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الامر، فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} [ص: 32].
وقيل: المراد بالسلالة ابن آدم، قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على هذا صفوة الماء، يعني المنى. والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء، يقال: سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل، ومنه قوله:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ***
فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة، عني به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا *** سلالة فرج كان غير حصين
وقال آخر:
وما هند إلا مهرة عربية *** سليلة أفراس تجللها بغل
وقوله: {مِنْ طِينٍ} أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت: أي من طين خالص، فأما ولده فهو من طين ومنى، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام.
وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك، فالذي يخرج هو السلالة.
الثانية: قوله تعالى: {نُطْفَةً} قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج، والحمد لله على ذلك.
الثالثة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} اختلف الناس في الخلق الأخر، فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا. وعن ابن عباس: خروجه إلى الدنيا.
وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك: خروج الأسنان ونبات الشعر. مجاهد: كمال شبابه، وروى عن ابن عمر. والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت.
الرابعة: قوله تعالى: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله: {خلقا آخر} قال فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هكذا أنزلت».
وفي مسند الطيالسي: ونزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}. ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل.
وروى أن قائل ذلك عبد الله بن أبى سرح، وبهذا السبب ارتد وقال: اتى بمثل ما يأتي محمد، وفية نزل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] على ما تقدم بيانه في الأنعام. وقوله تعالى: {فَتَبارَكَ} تفاعل من البركة. {أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه، ومنه قول الشاعر:
ولانت تفرى ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفرى
وذهب بعض الناس إلى نفى هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى.
وقال ابن جريح: إنما قال: {أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.
الخامسة: من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم، فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه أعجز كم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه. وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبى شيبة. فأراد ابن عباس«خلق ابن آدم من سبع» بهذه الآية، وبقوله: «وجعل رزقه في سبع» قوله: {فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا} [عبس: 27- 33] الآية. السبع منها لابن آدم، والأب للانعام. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء، هذا قول.
وقيل: القضب البقول لأنها تقضب، فهي رزق ابن آدم.
وقيل: القضب والأب للانعام، والست الباقية لابن آدم، والسابعة هي للانعام، إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ} أي بعد الخلق والحياة. النحاس: ويقال في هذا المعنى لمائتون. ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ}.
{وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ} قال أبو عبيدة: أي سبع سموات. وحكى عنه أنه يقال: طارقت الشيء، أي جعلت بعضه فوق بعض، فقيل للسموات طرائق لان بعضها فوق بعض. والعرب تسمى كل شيء فوق شيء طريقة.
وقيل: لأنها طرائق الملائكة. {وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ} قال بعض العلماء: أي عن خلق السماء.
وقال أكثر المفسرين: أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى {وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ} أي في القيام بمصالحهم وحفظهم، وهو معنى الحي القيوم، على ما تقدم.
{وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما امتن به عليهم، ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان. والماء المنزل من السماء على قسمين: هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في الأرض، وجعله فيها مختزنا لسقى الناس يجدونه عند الحاجة إليه، وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الأبار.
وروى عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الاربعة: سبحان وجيحان ونيل مصر والفرات.
وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء. وقد قيل: إن قوله: {وأنزلنا من السماء ماء} إشارة إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به، ولو كان الامر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته.
الثانية: قوله تعالى: {بِقَدَرٍ} أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]. {وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ} يعني الماء المختزن. وهذا تهديد ووعيد، أي في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً 30}- أي غائرا- {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ 30} [الملك: 30].
الثالثة: ذكر النحاس: قرئ على أبى يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن جامع بن سوادة فال: حدثنا سعيد بن سابق قال حدثنا مسلمة بن على عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنزل الله عز وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا».
الرابعة: كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه، على ما يأتي في الفرقان بيانه.
{فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنا} أي جعلنا ذلك سبب النبات، وأوجدناه به وخلقناه. وذكر تعالى النخيل والأعناب، لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما، قاله الطبري. ولأنها أيضا أشرف الثمار، فذكرها تشريفا لها وتنبيها عليها. {لَكُمْ فِيها} 10 أي في الجنات. {فَواكِهُ} من غير الرطب والعنب. ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع، والأول أعم لسائر الثمرات.
الثانية: من حلف ألا يأكل فاكهة، ففي الرواية عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء وما أشبهها.
وقال أبو حنيفة، لا يحنث بأكل القثاء والخيار والجزر، لأنها من القبول لا من الفاكهة. وكذلك الجوز واللوز والفستق، لان هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة.
وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث. وكذلك البطيخ، لان هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده، فكانت فاكهة. وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لان ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان. ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه. وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث. وخالفه صاحباه فقالا يحنث، لان هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم. والافراد لها بالذكر في كتاب الله عز جل لكمال معانيها، كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة. واحتج أبو حنيفة بأن قال: عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال: {وَفاكِهَةً وَأَبًّا 80: 31} [عبس: 31] والمعطوف غير المعطوف عليه، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة. والعنب والرمان يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة، ولان ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها.